السبت 21 ديسمبر 2024 الموافق لـ 19 جمادى الثانية 1446
Accueil Top Pub

آمـريــــرْ

سليم بوفنداسة

انسحب في هدوء دون أن يلحظ غيابه أحدٌ. كفّ في بداية الأمر عن دفع العربة لأنّ خطواته كفّت عن الاستجابة ولأنّه لم يعد قادراً على تسلّق سلالم العمارات محمّلا بملذّات الآخرين. صار يكتفي بالجلوس في باب العمارة الذي لم يعد باباً بجوار "السامباك" يمدّ يداً ملحاحة للعابرين أو ينزل إلى السّوق ليستعطف الوجوه القديمة التي مازالت تحوم حول المكان.
ثم بدأ ينسحب من حيّ القديس الذي لم يعد قديساً، خلت من رائحة تبغه الصباحات ومن يده الملوّحة. لكنّ المدينة لم تنتبه، هذا طبعها: تعدّ النهار بمن حضر قبل أن تنصرف إلى نهار آخر، وفق النواميس التي تدير بها المدنُ شؤونها الصّغيرة.
لم يعد يظهر إلا نادرا في المكان الذي ألفه، يمتصّ سيجارته وقد ترقرق في عينيه، أطفالٌ تاهوا في الشمال متخلّصين من أسمائهم الباليّة، لم يعد يربطه بهم سوى خيط حنين رفيع لا يستعمله كثيراً كي لا ينقطع.
لا يردّ على سخريّة الساخرين ويكتفي بابتسامة، تماماً كما كان يفعل مع أصحاب المطاعم الذين لا يكفّون عن نهره لأنّ نصف طعامه يسقط على الأرض نتيجة رجفة اكتسبها من رضاعة مضطربة لأمّ مذعورة.
لاحقته تعليقات منذ كفّ عن دفع العربة واكتفى بمدّ اليد للزبائن القدامى، عن منحةٍ كبيرةٍ تؤول لقريب وعن أطفال كبروا في غيابه، لكنّه ظل صامتاً يجيب بالابتسامة ذاتها التي تغيّرت بتغيّر تضاريس الوجه فصارت في نهاية المطاف أقرب ما تكون إلى التكشيرة والعبوس، لم يغفل عنه العابثون حتى حين اشتدّ سعاله.
 ونسجت حكايات وأساطير حول هروبه من الشمال وحول ماضيه الغامض وخضوعه الأعمى لقريب، وقيل إنّه لا يكبر ولا يمرض ولا يشعر بالبرد، وتجد حتى من ينسبه إلى سلالات الأشباح، فيكون جوابه الامتناع عن الكلام والاكتفاء بالابتسام والهمهمة، لم ينجح أحدٌ من الضالعين في جمع الأسرار بالحي في الإحاطة بحكايته.
اختفى من السوق. اختفى من الشارع والباب. اختفى تماماً. نام بعيداً عن أطفاله الذين كبروا في أسماء لائقة. توسّد سرّه ونام. لم ينجح أحدٌ في التسلّل إلى حكايته في مدينة لا يُكتم فيها سرّ.
اختفى آمريرْ لعلّه يجرّ عربته الآن. لعلّه جالس إلى صحن كسكسي. لعلّه يمدّ يد الرجاء بين الغيوم.

المزيد من الأعمدة

أبوابٌ ونوافذٌ

بيّنت الأحداث الأخيرة، التي استخدم فيها طرفٌ أجنبيٌّ، كاتبين جزائريين ضدّ بلدهم الأم، في حرب...

  • 09 ديسمبر 2024
صوتُ الحياة

شاخ الوقتُ حولها لكنّها ظلّت في مقتبل الصّبا تسقي الدهشة وتشيعها، لأنّ المنادي الذي نادى النّاس...

  • 25 نوفمبر 2024
المُنمركون !

يصعبُ توقّع ما ستكون عليه الحياة بعد سنوات قليلة، نتيجة التدخّل المفرط للتكنولوجيا فيها، الذي لا...

  • 18 نوفمبر 2024
لا تلوموا أسامة!

يطرحُ الإقبال "غير المتوقّع" على الكاتب السعودي أسامة المسلم في صالون الجزائر الدولي للكتاب،...

  • 11 نوفمبر 2024
«لأسبابٍ سياسيّة» !

قبل سويعات من الكشف عن الفائز بجائزة الغونكور، أمس، نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن ناشرٍ قوله، إن...

  • 04 نوفمبر 2024
الصّورة و النّص

عاش كاتب ياسين حياةً قليلة وبسيطة، عانى فيها من "سوء الفهم" و الأسطرة، فضلا عن الجدل الذي لم يفتر...

  • 28 أكتوير 2024
المُستريحون

تُخفي الفرحةُ بموت أحدٍ، حالة قهرٍ عاشها الفَرِحُ في وجود الرّاحل الذي حقّقت ميتتُه زوال غمٍّ،...

  • 21 أكتوير 2024
طفولــة

سليم بوفنداسة ينشغلُ عددٌ غير قليل من الجزائريين بنظرة الآخر التي تتحوّل إلى مصدر فخرٍ أو سبب...

  • 15 أكتوير 2024
ضرورة الفرز

سليم بوفنداسة لا يواجه الأدب الجزائري مشاكل في التلقي فحسب بل يواجه أيضًا مشاكل في الكتابة...

  • 01 أكتوير 2024
سُقــــوط

سليم بوفنداسة فرضت ثقافة السّوق التي تهيمن على عالمنا المعاصر نمطًا جديدًا من النّخب، تنتجه...

  • 24 سبتمبر 2024
حارةُ المُؤثرين

هل تستطيعُ وسائطُ التّواصل الاجتماعيّ حمل الخِطاب الثقافيّ، وهل يسلمُ، في حال استخدامها من الخِفّة التي تفرضها...

  • 17 سبتمبر 2024
المهيمنُ لا يتحرّج

لا يستريحُ القتلةُ في الصيّفِ، فكلّ الفصول مُناسبة لإراقة الدم، ولعلّهم نجحوا في تحويل المقتلة...

  • 29 جويلية 2024
كرمٌ مُعلن

يمكن اعتبار الاحتفاء بالناجحين علامة صحيّة، لما في ذلك من تقديرٍ للعلم ومُحصّليه، شرط أن يكون...

  • 22 جويلية 2024
محنة الرواية!

تعرّضت الكاتبة إنعام بيّوض إلى حملة تشهير بالغة السوء على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد نشر صوّر...

  • 15 جويلية 2024
محاذير الفرح!

أثار الفرح "المبالغ فيه" بالنّجاح في مختلف امتحانات نهاية السنة، الجدل بين مناصرين للحقّ في...

  • 01 جويلية 2024
«ترندينغ»

تكفّلت مواقع التواصل الاجتماعي بترتيب اهتمامات "الرأي العام"، مُنهية بذلك احتكار وسائل الإعلام...

  • 24 جوان 2024
سِرُّ مالك!

بقدر الدهشة التي تخلّفها جُملته، بقدر الحسرة التي ينتهي إليها قارئه، حسرة على عدم اكتمال قصّة وعلى الصّمت...

  • 03 جوان 2024
«الطريق»

توفر الوسائط التكنولوجيّة "حياةً جديدةً" للإبداع، من خلال القنوات التي تفتحها مع المتلقّي، مختصرةً الجهد والوقت...

  • 27 ماي 2024
الفيلسوف متوحشا

أصاب الحراك الطلّابي في الغرب، الفيلسوف الفرنسي الصهيوني الهوى ألان فينكلكروت بالرّعب، إلى درجة...

  • 20 ماي 2024
الخروج من حُجرة الكتابة

خرج بول أوستر من "حجرة الكتابة" تاركًا أبطاله لمصائرهم الغامضة وشعبًا يتيمًا في مختلف اللّغات، هو...

  • 06 ماي 2024
Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com