سنحاول نسيانها من بابِ دفعِ المشاعرِ المؤلمة، لكنّها ستظلّ ماثلة في تاريخ البشريّة، ليس بعدد القبور التي فُتحت فيها فقط، ولكنّ لكشفها عن ضعف الإنسان وقلّة حيلته أمام الطبيعة التي توهّم أنّه روّضها قبل أن يحلم بنقل مشاريعه التخريبيّة إلى الكواكب المجاورة لكوكبه الأمّ، وفضحها لوحشيّة الإنسان ذاته الذي تدفعه أوهام التفوّق إلى استغلال انصراف إخوته إلى علاج جراح المآسي للإجهاز عليهم.
لذلك يبدو من غير اللّائق توديع هذه السّنة باحتفالاتٍ صاخبةٍ، كما جرت العادة، خصوصاً وأنّ الأمل في الشّفاء منها ضعيفٌ والمخاوف في امتداد آثارها إلى شقيقتها المواليّة كثيرة.
لم تكن سنة جائحة كورونا فحسب، فقد شهدت انتشار جوائح كثيرة كالعنصريّة التي حاولت الظّهور تحت تسميّاتٍ وصفاتٍ جديدةٍ شأنها شأن "الذّل" الذي سعى بعض معتنقيه للاحتيّالِ على القواميسِ ونسبه إلى عائلةِ الشجاعة أو إدراجه في جداول حسن التدبير الذي تنتهجه الممالكُ الذكيّة في القفز على تخبّط الجمهوريات الحزينة، مثلاً!
وربما نجحت السنة المؤلم ذكرها في تغيير المفاهيم والعادات و الطّباع ، على رأسها الموت نفسه الذي تحوّل إلى رقمٍ يصعد وينزل يومياً أمام عجز العلم عن توقيف الآلة غير المرئيّة التي تحصد الأرواح بشراهة.
صار الموتُ حدثاً عادياً ومألوفاً وقصّة بدون إثارة، وحتى طقوسه اختزلت في جميع الثقافات، فصارت الآلة تتولى إعداد السّرير الأخير للعزيز الغائب دونما إتقانٍ قبل أن يلقي به غرباء في أعماق الأرض في ضجرٍ واضحٍ لا تنجح رهبة الموقفِ في إخفائه، وتحوّل العزاء إلى مصدر خطرٍ يجب تجنبّه، فلا يد تمتدّ لمسح دمعةٍ ولا صدر لإطفاء النّشيج.
حدث هذا الانقلابُ في سنةٍ واحدة لا غير، وكان يمكن أن يغيّر سلوك "قادة" العالم، من السّاسة والمتحكّمين في الثروات وشاربي دماء الشّعوب وقتلة الأطفال ومخترعي الأساطير المؤسّسة للعدوان ومروّجي الأكاذيب والمنظّرين للباطل. لكن لا شيء من ذلك حدث. لم ينل الضّعف العام من رصيدِ القسوة التي هي التعريف المتأخّر للوحشيّة التي حملها الإنسيّ في جيناته من العهود البدائيّة ولم يتخلّص منها في انتقاله بين حلقات التطوّر وصعوده ونزوله في الحضارة.
سليم بوفنداسة