يُوفّر العددُ الهائل للجامعات الوطنيّة فُرصةً لدراسة المعطيات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والبيئيّة وإتاحة بيانات ذات مصداقيّة لصنّاع القرار محلياً ومركزياً وللفاعلين في مختلف المجالات، بل ولجميع الرّاغبين في معرفة محيطهم على ضوء العلم وبعيداً عن الحسابات السيّاسيّة أو المعلومات غير الدقيقة التي تقتربُ من المغالطاتِ والشائعاتِ، خاصّة وأنّ المؤسّسات الجامعيّة منتشرة عبر أنحاء القُطر، ويمكن أن تتحوّل إلى "مراكز دراسات" حقيقيّة لو نصدّق الكلام الجميل الذي يجودُ به المسؤولون عند افتتاح كلّ موسم دراسيّ عن فتح الجامعة على المحيط.
ويكفي لتحقيق هذا المكسب، تسيير المخابر بأسلوبٍ براغماتيٍّ وتوجيه الرسائل والدراسات نحو مسائل العصر والزمان والمكان!
و بهذا الشكل، فقط، تردّ الجامعة فضل المجموعةِ الوطنيّة، على اعتبار أنّ الدراسة في هذه المؤسّسات بالمجّان والخدمات فيها شبه مجانيّة وتمويل المخابر يتمّ من الخزينة العموميّة..لذلك يبدو مخزياً في كثيرٍ من الأحيان وقريباً من الجناية صرف أموال "البحث" في شراء الأدوات المكتبيّة بالطريقة المعروفة والمكرّرة و إهمال الأساسيّ، أي البحث العلميّ الذي هو عنوان الجامعة وسبب وجودها.
لا يكفي أن تُخرّج الجامعة ملايين الإطارات، فهي ليست مؤسسة تكوين مهنيّ، بل يجب أن تشيع المعرفة وتسهم في إصلاح الاقتصاد ودراسة المجتمع وتقديم وثائق حقيقيّة عن وضع البلاد يُؤخذ بها في التشريعات و في رسمِ السيّاسات، وربما احتاج "الجامعيُّ" إلى تغيير أسلوبه بنفس الدّرجة التي يجب أن يغيّر بها صنّاع القرار النّظرة إلى الجامعة، إذ لا يعقل أن يظلّ الجامعيّون مجرّد نسبة صامتة في القوائم الانتخابيّة أو "مثمّنين" لكلّ ما يصدر عن السياسيين، حتى وإن اقتضى الأمر، التخلي عن الصّرامة العلميّة التي تفرض تقديم البرهان على الأحكام، في ظاهرة نلمسها بين محلّلين يسارعون إلى الإشادة بما سينتقدونه لاحقاً، كما حدث مع سيّاسات سابقة قادت البلاد إلى الكارثة.
مثلما لا يُعقل أن يغيّر باحثٌ بدرجة علميّة كبيرة رأيه في مسائل حيويّة من النقيضِ إلى النقيضِ قبل أن يُغيّر قميصَه، وهو ما يطرح بحدّة ضرورة وضع مواثيق أخلاقيّة تُسند النزاهة العلميّة التي يفترض أن يكون عليها الباحثون وتنعكس في تصريحاتهم كما في بحوثهم، مهما كانت شدّة وقعها، لأنّنا نحتاج إلى معطيات العلم وصدق العلماء وقت الشدّة كما في وقت الرّخاء.
صحيحٌ أنّنا نميلُ إلى تصديق الوهم على حسابِ العلم، لكنّ هذا المعطى لا يجب أن يكون مبرّرا للمشتغلين في حقول العلم والمعرفة للتنازل أو لمجاراة السّاسة والجماهير.
سليم بوفنداسة