يتردّد اللّسانُ الجزائريُّ في مآدب الكلام ويتلعثمُ ويستجيرُ بألسنٍ «صديقة» في وصفِ الحال أو ترجمةِ مرادٍ أو تعبيرٍ عن لوعةٍ.
ثمة خجلٌ يعقده ومخاوفٌ من سوءِ تقديرٍ أشاعه الغزاة وقد نزلوا لقرونٍ أخذوا فيها ما جادت به الأرضُ، وحاولوا أيضا تطويع الإنسان كي يصير شبيهاً لسارقه.
رياحٌ كثيرة هبّت على هذه الأرض المضيافة وكلّما ربط غازٍ دابته تصرّف كصاحب الدار، وهكذا تلاقحت الألسنُ في نزالٍ ومطارحاتٍ يتركُ كلّ فيهما ما رطن بها لسانه من قدحٍ وتسميّات، فصارت لغتنا اليوميّة عامرةً بريشِ العابرين، لكن ثمّة خاصيّة نكاد ننفردُ بها، وهي أنّ لساننا كان مستهدفاً في غزواتٍ كثيرةٍ ، آخرها الاستعمار الفرنسيّ الذي جعل من اللّغة وسيلةً للهيمنة، متسبّباً في اضطرابٍ في الهويّة لم ينل حقّه من الدراسة، لأّن هذه اللّغة لازالت إلى يومنا لغة متسلّطة تمارسُ ما ارتضاه زارعها، ويذهبُ إليها طلّاب المجد والجاه والمال طوعاً.
و دون التقليل من أهميّة هذه اللّغة، لابد من الإشارة إلى ما تسبّبه من ارتباكٍ في الذات الجزائريّة، فإلى جانب كونها لغة الإدارة و المال، فهي لغة البارانويا أيضاً يدعيها حتى فاقدها ويبحث بين مفرداتها عما يُبهر به السّامع أو يُرهبه في أروقة المُجادلات.
ورغم صمود العربيّة لقرونٍ في الديار، وحضورها شبه الطاغي في دارِجِ الكلام، إلا أنّها لا تزال غير مستأنسةٍ و مرتبطة بالدين والدّرس منعزلة في فصاحة يتهيّبها المتكلّم.
وحتى وإن بدت الدارجة فوضوية وغير مفهومةٍ، فإنّها تحتفظُ في جوانب منها بعبقرية خاصّة، تعكس نزوع الإنسان إلى اختراع لغة وظيفيّة يتدبّر بها أحواله، حين يستعصى عليه نيل لغةٍ أخرى.
ولا شكّ أن السينما والتلفزيون حملا لغاتٍ ولهجاتٍ، بل و أصابا ألسنةً في مواقع بعيدة من بينها لساننا، حيث تتموضع لهجات وافدة مستغلّة ضعف المنتوج المحليّ، بل إنّ تأثير المسلسلات وصل إلى دفاترنا العائليّة، إذ خطف نجومها أسماء أطفالنا على حساب أسمائنا منزوعة البريق.
والمؤكد أنّ ما هو عليه لساننا اليوم، نتيجة حتميّة لتاريخ طويلٍ من العذاب والمكابدات ومعارك البقاء، وحين تستقيمُ أمورنا ونمتلك أسباب القوّة سيفهمنا الذين لا يفهموننا الآن وفق ما تقتضيه قوانين غابتنا الكبيرة.
سليم بوفنداسة