لم يكن الأمر هيّنا ولم تكن “المسيرة” بالسهولة التي يلقي بها المقلّلون من شأنه على موائد الكلام. لم تكن مجرد قصة بل مكابدة وملحمة اقتضت مواجهة الذات والجسد، بل والقفز من شجرة السلالة إلى شجرة أخرى، أحيانا.
بدأ الأمر بممارسة رياضة يسمونها في “قاعة الألعاب”: النسيان، تقوم على محو ما سبق من معارف ومعتقدات، والانطلاق من جديد، أي التدرّب على الصرخة الأولى والحبو والوقوف والمشي والعمل على تجنب الموت المفاجئ أو الوقوع في الفخاخ والكمائن أو وضع القدم في الأماكن غير المناسبة، وفق مدوّنة غير مكتوبة وجب على الصاعد هضمها دون استظهار. و في الطريق تلقى ضربات صغيرة أيقظته، كأن يقول له أحدهم: تبدو أكبر من سنّك أو هذه البذلة لا تلائمك! فيعود مباشرة إلى المرحلة السابقة ليختفي فيها حتى تمر مقاصد الكلام.
لم يكن الأمر سهلا، ففي الطريق تخلى عن أشياء كثيرة، بما فيها الأشياء “العزيزة” التي يصعب على رجل التخلي عنها، لأنه يعرف أنه و ككل منذور عليه التخلي عن الأثقال في المسالك الوعرة ليمضي خفيفا. أشياء لا يرغب في تذكرها، أليس هو القائل كلّ ما يثقل يسقط، هكذا دون الدخول في مسائل الفيزياء و مطباتها، وبلغ من الجسارة أن أسقط وجهه حين تطلّب الأمر إسقاط الوجه وأوشك أن يسقط اسمه لأنه لم يعد في حاجة إلى عنوان قديم، قبل أن يقال له: “نحن الذين نحتاج العناوين القديمة وليس أنت”. غيّر لسانه. غيّر الزوجة المتمسكة بشال أمها. محا شنباته بالتدريج. غيّر عاداته السيئة في الأكل وتوعد السلالة أمام المرآة بإيقاف جيناتها غير المناسبة عند حدها. غيّر إيقاع الكلمات بعدما خبر دسائس الميكروفونات وضعف الصحفيين في الإملاء، فصار يلقي جمله حرفا حرفا ويعيد. غيّر جسده. غيّر عادات روحه. غيّر الليل والنهار. غيّر الأسنان الطويلة التي أملاها الجد الفلاح على الأحفاد. غيّر طريقته في الأكل والحديث. لاحق الشيب الوراثي اللعين شعرة شعرة حتى أن الجلساء والمشاهدين والمريدين لم يشعروا بمرور منشار الزمن في عظامه وظلوا يشيدون بشبابه الدائم الذي يرجعونه إلى بياض اليد وصفاء السريرة. خلطة سهلة تجعل شعره باللون “الأسود الغراب”، صحيح أن بعض الخلطات المغشوشة جعلت شعره يبدو بنفسجيا في بعض الأحيان لكنه كان يتدارك الأمر بسرعة. ما عكر صفوه أنه كان يسمع صوتا أحيانا ويشم رائحة، لذلك كان يلتفت "منخطفا"بطريقة ملفتة للانتباه: كان يشمّ رائحة مقزّزة ويسمع أحدهم يهمس في أذنه بكلمات لم تفلح ممحاته العظيمة في محوها، فيسرف في الالتفات لمحو القائل الذي لم يسقط في الطريق.
سليم بوفنداسة