لم يتوقّف عن دورته المسائية حول المدينة حتى حين خانته «دابّته» ، صار يستريح عشرات المرّات قبل أن يكمل الدورة، يحدّق في الوجوه الغريبة ويتمتم: "لا أحد هنا ".
في المرّات القليلة التي قد يستوقفه فيها أحدهم، يهمسُ مُرتابا: “سأعقد ندوة صحفية وأقول كلّ شيء”.
لم ينل الزمن من أناقته البسيطة ولا من بريق عينيه الواسعتين، لكن خطواته تثاقلت و بدا كمن يرغم نفسه على “دورة” لا ضرورة لها.
تفرّق أصحابه بين موت مبكر ومجد متأخر، ارتفعت بيوتهم خارج المدينة، رفعهم الهواء، لم تعد انشغالاتهم تسمح بالنزول إلى الشارع أو العودة إلى الماضي. ساروا في خطّ مستقيم ، وبقيّ هو في شقّة أمّه معفى من الندم أو التطلّع الطبقي.
وحيدا يكمل دورته. لا أحد في المدينة. لا أحد في الحياة التي يستعين بالعقاقير لإكمالها. ذهبوا جميعا وتركوا أصواتهم القديمة في رأسه، لذلك يلوّح بسبّابة التهديد لأحدهم بين الحين والحين، أو يقول له :» لم تكن هكذا يا ك..» وفي مرّات أخرى يركل صاحب الصوت ويحاول ملاحقته!
قد يتوقّف أمام واجهة الشّركة التي تحوّلت إلى مساحة لبيع الأحذية المستوردة وينظر باستغراب إلى الأحذية والناس. لا أحد يعترض. استدرجتهم الآلة المتوحشّة فتحوّلوا إلى عبيد ثانيّةً.
يذكر سنوات الحماسة و الورشات التي لا تتوقّف ليل نهار لاستدراك الزّمن الضائع. سنوات التطوّع و الرّفاق الذين لا يستحمّون. الرفاق الذين انتفخوا. الرفاق الذين يخشون السير في الشارع. الرفاق الذين يقولون كلاما غير مفهوم في التلفزيون. الرّفاق الذين حملهم الهواء. الرفاق الذين يكذبون على الجماهير.
بخطوات معذّبة يحاول استكمال دورته، حتى ما إذا استوقفه وجه أليف أشهر غضبه وقال: «سأقول كلّ شيء في ندوة صحفيّة».
في المقهى يستخرج مخطوطا ليخصّ جليسه بسرّ سيعلنه، على الغلاف نُسخت صورته في شبابه وعنوان مثير: «كيف بُعث النبيّ في شخصي».
وفي ثمانين صفحة كُتبت بخطّ فرنسيّ أنيق سيروي كيف ألقى الملاك بالنّور في صدره مكافأة له على عمر من النّقاء.
يسأل: «سيكون الإعلان صادما للناس، أليس كذلك»؟
و يجيب:» سيصدمهم الأمر في البداية ثم يتقبلونه بعد ذلك، كالعادة»!