يعطي بعض المنتسبين للحقل الثقافي الوطني الانطباع بأنهم وصلوا اللّحظة من سفر طويل في الزمن، وهم يستعيدون نقاشات طرحت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي في العالم العربي.
وكان يمكن أن تكون النقاشات الحادّة عن الحداثة و قصيدة النّثـر في شبكات التواصل مجرّد كلامٍ يُقال و يُنسى لو لم يكن بين المنخرطين فيها أساتذة في الجامعات يؤطّرون طلبة من الأجيال الجديدة ويؤثرون فيهم ليؤثروا بدورهم في الأجيال اللاحقة وقد انتشروا في الأرض.
و إذا كانت الآداب والفنون تتطوّر كما يتطوّر العمران وتتطوّر الحياة نفسها، فإن هجاء التغيير يبدو مثيرا للشفقة وتبدو معه “الدعوة” إلى البقاء في الماضي مدعاة للأسى والتساؤل.
فالحداثة ليست حزبا و لا إيديولوجيا ولا مكانا يستطيع بعضهم منع الذهاب إليه، وليست بالمقابل ناديا يحتكر بعضهم حق استغلاله ولكنها تطوّر طبيعي لنمط العيش وللأفكار و التعابير، وهي لا تحتاج، بالتالي، إلى من يدعو إليها ولا تتأثر بمن يدعو عليها!
و المخيف في القصة هو نكوص “نخبتنا” في هذه اللحظة العاصفة من عمر العالم و انصرافها إلى مناقشة قضايا حُسم فيها في الماضي المنقضي ولم تعد تشغل سكان كوكبنا.
فهل تعيش هذه “النخبة” في الماضي وكلبها باسط ذراعيه عند البوابة؟ هل تتغذى على الأرشيف؟ هل نعوّل عليها في إدارة حياتنا؟ هل نطمئن للأفكار التي تنتجها؟
تبدو هذه الأسئلة مشروعة، مثلما تبدو الاستثناءات واجبة لأن الجامعة تحصي أيضا مجتهدين يقاومون مختلف التيارات الجارفة ويحاولون حماية العلم من إكراهات السوق ونداءات السقوط.
لكن الحاجة تبقى ماسة إلى فتح نقاش حول تدريس الآداب، إذ لا يعقل أن تكوّن الجامعة الجزائرية اليوم طالبا في الدراسات العليا ليبحث في مقامات بديع الزمان، ولا يعقل أن تجد بين أساتذتها من يرفض الشعر الحديث ويرفض نسبه إلى الشّعر ويظلّ على هذا الموقف إلى أن يموت أو يتقاعد!
فالتعصّب الأعمى للرأي والعنف الظاهر والمستتر في لغة النقاش يحيل إلى مشكلة تتعلّق بالتقدير الخاطئ للوظيفة، أي إلى “ادعاء النبوّة” الذي يصيب “المتعلّم” في ثقافتنا (أي إلى بارانويا و للظاهرة جذور انثـروبولوجية) فيتحوّل إلى داعيّة يستميت في تبليغ رسالته ويرفض الرسائل والأفكار المختلفة.
و حين يكون بعض أهل العلم على هذه الحال، فما الذي ننتظره من “أنبياء” السياسة والاجتماع؟