ينشغل الرأي العام، عادةً، بالأحداث والمسائل غير الجوهريّة، لذلك تحوّلت إثارته إلى لعبة يمارسها السّاسة لأغراضٍ محسوبةٍ، وتستغلّها الصحافة لتكسب. و هكذا تمرّ وقائع وقرارات مصيرية دون أن تثير الانتباه ويسهر الخلقُ حول “فضيحة” لا تعني سوى صاحبها ويختصمُ.
وقد مكّنت الميديا الجديدة من الوصول إلى شرائح واسعة من الناس، بما فيها الفئات التي كانت بمنأى عن الصحافة الكلاسيكية، و بات ترتيب القضايا يخضع إلى قاعدة الإقبال والتداول التي جرفت الصحافة أولا و أخذت تجرف المشتغلين في حقل الأفكار، لتخضع النّخب إلى مزاج العامّة المعلنة تقلّباته على اللّوح الافتراضي و الذي أصبح يدلّ الجميع على الطريق و”يقترح” الكلمات المطلوبة التي تمكّن من جني “النقرات” كتقدير تجود به أشباح خفيّة على جُهدٍ لتجعله ظاهرا ومستحبا.
و بالطبع فإن الجماهير تحبّ «نقر» الجنس والدين والأعراق إن تنازع أصحابُها على مجدٍ وهميّ في سوق الجدارة، وتحبّ نقر ما يسهل ابتلاعه. و النتيجة، أن الأفكار صارت تتوارى خوفا و خجلا لأن الناقرين لا يرغبون فيها، وقد تتنازل عن وقارها وترتدي ثوب البهلوان وتنزل للرّقص على المسرح الأزرق، مجاراة لأمر لا يقبل عدم المجاراة ويلوّح بالنسيان جزاءً للمعرضين إن أصرّوا على رزانة لا تلائم العصر والأوان.
لقد حذّر دارسون من تحوّل محرك البحث «غوغل» إلى رئيس تحرير وحيد للصحافة العالمية، بعد أن أصبح النجاح يٌقاس بعدد النقرات، غير أن الصحافة انساقت لمشيئة آلهة السوق الجديدة. و واضح أن يد المشيئة ذاتها امتدت بالرعاية إلى حقول أخرى فباتت تدفع –مثلا- بزعماء شعبويين إلى الحكم تجاوبا مع «تغريداتهم» الطريفة ومواقفهم السخيفة وأشكالهم وجمال زوجاتهم، على حساب النضال والأفكار والمبادئ.
و بدأت «القيّم الجديدة» تستهوي حتى بعض «المفكرين» الذين قطعوا الصلة بأسلافهم و ركبوا موجة الإثارة التي تمكّنهم من شهرة سريعة في أسابيع قليلة من «التفاعل» مع الدهماء، بعد أن كانت هذه الفئة قلعة مقاومة لصنّاع القرار وحائط صدّ لانحرافاتهم في تدبيرهم المشؤوم لشؤون العالم.
أجل، إن العالم «يتسطّح» بسرعة فائقة، وإن الإنسان يوشك على إكمال دورته والعودة إلى «هيئته» الأولى.