منذ خدع صاحبه عمرو بن عثمان وتركه حافيا في صحرائه وهو يعبث داخل اللّغة، وكذلك يفعل في حياة يأبى أن يخضع لشروطها حتى وإن اقتضى الأمر عودة إلى القرية الأولى حيث لا شيء سوى الكتابة.
عابث الحياة ليكشف سرّها وعابثته لتختبر صموده فيها حين تُعِرض، لذلك كان يخرج من «الجنان» في كل ّ مرّة كمدمن خسارةٍ لا يطمئن إلى ربحٍ حين يأتي.
غادر المهنَ والمدنَ واستقرّ في الكتابة حيث لا أحد سيطرده، حيث تشيخ الخسارة و تجفّ بناتها في الرّحم العجوز. حيث لا شيء سيسقط ولا صوت يهدّد عند كل غضبةٍ بقطع حبّات القمح أو رشّ الجناح.
حين دفن خفّ إمام النحو في الرمل كان يعرف الطريق و لم يكن في حاجة إلى دليل، فقد تكاثرت بلاغته وصار له ما يكفي لوصف العالم ويزيد عن الحاجة، هو الذي استأنس دارج الكلام وصاغه في فصاحةٍ لا تفرّط في أناقتها ولا تنسب نفسها سوى إلى قائلها رافعة حرج الانتماء ومُعلنة عن هويّة جزائريّة لا تضيعها الاستعارات التي أضاعت طالبي العربيّة من مشارق الأرض، ولا تخجل من جاراتها المعتدات.
كان واضحا منذ إنشائه البديع الأوّل أن عبد الرزاق بوكبة يختلف عن مُجايليه، وعن السابقين أيضا، لغةً وموضوعا، من خلال قدرة رهيبة على التقاط الحياة و إلقائها في «الأدب»، وكان واضحا أنه قرأ ما يجب أن يقرأ مقبلٌ على الكتابة في مرحلةٍ عصيبةٍ اختلّت فيها الموازين وساد التجاسر، وتطايرت الأغلفةُ في الهواء برعاية ريعٍ كريمٍ أصبحت بموجبه المواضيع الإنشائيّة روايات والكلام الحزين شعرا!
وكان واضحاً أن هذا الكاتب خُلق للسرد الذي لازمه وهو يخوض خارجه، لأن الأمر يتعلّق، في نهاية المطاف، ببنية نفسيّة وليس بخيّار يتبنّاه وبمجرى ارتسم عبر تنشئة تداولت عليها الكتب والحياة.
وحتى و إن كان بوكبة يعتبر ما سبق عملية تسخين لمشروع قادم، فإن مشاريعه واضحة في النّصوص التي أصدرها، في مختلف الأجناس، وحتى في التدوينات والمقالات الصحفيّة، حيث يختفي ساردٌ كبيرٌ قد يكون وجوده خارج الرواية مضيعة للوقت.