يخرجُ من كهفِه قلقاً، يرجمُ العالم.لا شيء يسرّه في هذا الخلاء الواسع. لا شيء في مكانه. يشرعُ في ترتيبِ الأشياءِ و تفكيكِ ما يغضبه. يشرعُ في إلقاء المقولات و التدوينات لإصلاحِ الخللِ. يصرخُ. يهتفُ. يشتمُ.
يستعينُ بلغته المحفوظة في القواميسِ. يستعينُ بالكتبِ التي تناول في الكهفِ. يخطبُ.
كزعيمٍ عريقٍ مستاء من خفوتِ حماسةِ شعبِه إلى خطبه، كشيخٍ هرمٍ جرى الزمن خلفه وجرى الماءُ لكنه لم ينظر إلى ساعته ولم ينتبه إلى ثقلِ الكلمات على لسانِه ، كمقولةٍ شائعةٍ تُسمعُ بأذن غير مكترثةٍ. كذلك شأن “المثقّف” حامل الهمّ الثقيل، النظيف، الطيّب، صاحب النوايا الحسنة، المستعدّ للتضحيّة بما يحسبُ أنّه ثمين، لائم غيره على تجنّب المذبحِ، ومتبني مشاريع إصلاح «الخللِ”!
لا ينتبهُ إلى ثقلِ الحملِ لا يفكّر في إلقائه أو الاستعانة بحمّالة معدنيّة.
لم يسمع الانفجار الكبير الثاني الذي غيّر النّواميس و المفاتيح وجعل اللّغة المصون التي يفاخر بها عرضةً للانقراض.
في هذه التخوم التعيسة يتحرّك «المثقّف» معرّضا نفسه للأذى والسخريّة والتجاهل في أحسن الحالات. وقد تكون المشكلة، هنا، مشكلته وقد فاتته قراءة ما يحصل و هو يأتى على دوره الكلاسيكي ويخصّ بالحظوة مقاولين و مسيّرين وسماسرة وساسة يتوفرون على الأسنان المناسبة لأكلِ الأكتاف كلّها، ويمتلكون أدوات «التأثير» التي أحالت طيّب الذّكر والصّفات «النّضال» على تقاعدٍ غير مريحٍ وأنهت زمن الأفكار.
ثمة مأزق قد تكون هذه أسبابه، وقد تكون أخرى، وقد يكون نتيجة لا تحتاج إلى أسباب لإعلان نفسها. لكنّه مأزق يبدو فيه «الكاتب» الذي ينشدُ الأدوار والتأثير ويريد تبليغ الرسائل، مثيرا للشفقة.
ربما كان على السوسيولوجيا أن تنبّه الناس إلى تغيّر مواقع القيادة والتأثير في مجتمع يقرأ –إن قرأ- الكتب القديمة، ما دامت «الميديا» قد انغمست في اهتمامات الغوغاء وأسرفت في ذلك. وربما كان على منتجي الأفكار و «الجمال» أن يعاينوا بأنفسهم سلعتهم «في السوق» ليعرفوا أن العادات الاستهلاكية تغيّرت
و أن الجماهير أصبحت تأكل «أشياء» أخرى.
لم تعد الأوضاع كما كانت عليه في زمن الكلاسيكيين الذين حرّكوا المجتمعات، لذلك تبدو حالات تقمّص أدوارهم و الدعوة إلى ذلك غير مجديّة، وليس أمام الكاتب في مثل هذه الحال، سوى امتلاك المفاتيح الجديدة أو الاكتفاء بدورٍ مهمٍّ وغير مُجزٍ:إنتاج الجمال والكفّ عن إثارة الصّخب!