عن مفهوم المُواطنة في مُمارساتها الاجتماعية والإنسانية ومُعايشتها وتحدياتها، وعن قيمتها كفكر يتبلور من خلال مجموع التجارب التي تطور وعي أفراد المجتمع، وعن مدى دور التنشئة في التأسيس لفكرة المواطنة. وعن سياقاتها في الحياة الاجتماعية والسياسية والإنسانية، يتحدث بعض الدكاترة الأكاديميين من مختلف الجامعات الجزائرية، وهذا في محاولة للإضاءة على هذا المصطلح، الّذي كثيرا ما يتم شرحه أو الحديث عنه بالكثير من المغالطات والالتباسات.
حول هذه المسألة «المُواطنة وفِكر المُواطنة»، كان هذا الملف في عدد اليوم من «كراس الثقافة» مع بعض الأكاديميين الذين تحدثوا عنها، وتناولوها من جوانب مختلفة، في محاولة لتسليط الضوء عليها وتشريح بعض شؤونها ومفاهيمها من وجهة نظر أكاديمية.
صورية منفوخ/ أستاذة وباحثة بقسم التاريخ -جامعة الحاج لخضر باتنة
تتحقق المواطنة بانصهار كلّ مكونات المجتمع في الدولة
تشترط المُواطنة مجموعة من المبادئ التي تُرهن وجودها، ومن بينها نجد أولا المساواة والعدالة والتي تعني، أن يكون جميع أفراد الشعب متساوون أمام القانون٬ ويتمتعون بنفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات في ظل تكافؤ الفرص مِما يُتيح للجميع حرية الابتكار والإبداع والتطور٬ وبهذا تُعبد الطريق أمام الأكفاء لتقلد مناصب عُليا لتسير الشأن العام في دولهم. وهناك مبدأ الولاء للدولة ويعتبر أهم ركيزة تقوم عليها المواطنة٬ لأنّ كلّ مكونات المجتمع في ظل النظام الديمقراطي الحر تنصهر أمام سلطة الدولة التي يحملون جنسيتها مهما اختلفت أعراقهم أو معتقداتهم.
وانطلاقا من فكرة الولاء سنُبيّن العلاقة بين ممارسة حق المواطنة وسيطرة النظام القبلي في دول العالم الثالث٬ حيث أنّه كلّما كان الولاء للنظام القبلي السائد في المجتمع كلّما استحال على أفراد المجتمعات ممارسة حق المواطنة٬ فهم يفضلون التحكيم القبلي (ما يعرف مثلا بالجماعة) على حكم القانون في يومنا هذا٬ فعندما يكون الولاء لمؤسسات الدولة المدنية لا لنظام المجتمع القبلي يستطيع الأفراد أخد حقوقهم وممارسة واجباتهم بكلّ سلاسة٬ وعلى العكس من ذلك فإلغاء سلطة الدولة يكرس التخلف والرداءة في جميع المجالات بلا شك وتؤدي إلى قيام الصراعات حول المال والسلطة والمناصب. حيث أثبتت التجارب في المجتمعات القبلية أنّ جاهل القوم وفاسدها فوق سلطة القانون٬ وعلى حساب المواطن الصالح صاحب الكفاءات.
في مقابل ذلك تجد المجتمعات المُتمدنة تنصهر في جميع مكونات المجتمع المختلفة رغم تعقيدها ورغم تنوعها في ظل الولاء للدولة ومؤسساتها المدنية فوعي المواطنين بمسؤولياتهم تجاه وطنهم وولائهم لسلطة القانون يجعلهم أكثر انخراطا في الشأن العام. فالقبيلة لطالما استغلت من طرف القِوى الخارجية للتفريق بين أبناء البلد الواحد خدمة لمصالحها٬ التي تطلب الحفاظ على الوضع القائم لتكريس تبعية هذه الدول وذلك بإثارة النعرات القبلية والجهوية.
ولا يمكن أن تتجاوز شعوب دول العالم الثالث هذه الوضعية٬ إلاّ من خلال تجديد عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، من خلاله يكون ولاء الأفراد لهذه السلطة وفي المقابل تضمن لهم الحقوق الأساسية المُتمثلة في العدل والمساواة والأمن٬ من هنا يتبلور فِكر المواطنة بمجموع التجارب التي تُطوِر وعي أفراد المجتمع الواحد٬ في ظل سلطة دولة القانون. ومن خلال ذلك التطور يتحمل كلّ من المواطنين والمؤسسات المدنية المسؤولية كاملة لخدمة بلدانهم والمساهمة في بنائها وتطورها٬ بالتالي تحقيق الرفاه للجميع. فمشاريع التنمية تفشل فشلا ذريعًا في الدول المُتخلفة بسبب عدم وجود وعي مجتمعي٬ يستطيع من خلاله أفراد المجتمع أن يمارسوا وظيفة مواطن على أكمل وجه.
سمير قط/أستاذ بجامعة محمد خيضر بسكرة
لا يُمكن تكريس قيم المُواطنة إلاّ في كنف الديمقراطية
المواطنة بمعناها العام كرابطة تُحكِم المواطن بدولته ليس على أساس العصبية، ولا يتم التفريق بين المواطنين على أساس الدين أو العِرق أو الطائفة أو الجنس، وإنّما على أساس الجنسية بداية وعلى اعتبار الحقوق والواجبات تجاه الوطن. بالتالي، فالديمقراطية شرطٌ ضروريٌ لضمان مُمارسة المواطنة.
لذلك فالأنظمة العربيّة (غير الديمقراطية في مُجملها) تسعى دائما لمصادرة صِفة المُواطنة على شعوبها، وتتعامل معهم كرعية تُمارس عليهم سلطة أبوية أو كأفراد مجردين من حقوقهم السياسية والمدنية. فالحالة الفردية هي أصغر حلقات الانتماء إلى الدولة، أين يكون المواطنون في حالة تشرذم وصراع على أُسس تقليدية (دينية، قبلية، مذهبية...) ومنصرفين إلى شواغلهم الخاصّة الضيقة وإشباع حاجاتهم البيولوجية من مأكل ومشرب، دون الاهتمام بالشأن العام.
المُواطنة تضمن للأفراد المشاركة الكاملة في الشأن العام للدولة التي ينتمون إليها، وفق هذه الرابطة القانونية القائمة على أداء الواجبات واكتساب الحقوق. وهي لا تعني القفز على الواقع الموضوعي أي لتباين التركيبة الثقافية والاجتماعية والسياسية للدول العربية، أي أنّها لا تُمارس تزييفا للواقع، بل تتعامل مع هذا الواقع المتعدّد وتعمل على فتح المجال أمام الحريات. فالأمن والاستقرار والتحديث والإصلاح مرهون بوجود مُواطنة متساوية مُصانة بنظام وقانون يحول دون المساس بها. ومبدأ المواطنة في الدول العربية يجب أن يُحظى بالأولوية على سائر الحقوق السياسية خاصّة بعد الربيع العربي، كونها بمثابة الاسمنت المُسلح الّذي يضمن إمكانات النضال السياسي السلمي لانتزاع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية... وإدارة التناقضات والاختلافات بشكل ديمقراطي، فهذا المبدأ (المواطنة) يُشرعن العمل الجماعي المدني الحزبي والجمعياتي والنقابي.. وتوظيف الإعلام المستقل.
إذن، لا يُمكن تكريس قيم المُواطنة إلاّ في كنف الديمقراطية. ففي نظام ديمقراطي يُمكننا الحديث عن ترقية ثقافة مواطنية في الدول العربية والتي تشترط اعتبارين أساسيين وهما، أولا: المشاركة السياسية، ويكون ذلك في العملية الديمقراطية، والتي تمنح المواطنين الفرصة في المشاركة وفي التعبير عن إرادتهم والمساواة في الانتخاب، وأن يتوفر للمواطن الحق في المعلومة بشكل يسمح له بالانخراط في عمليات اتخاذ القرارات المُتعلقة بالشأن العام. ثانيا، المساواة بين المواطنين، وهو شرطٌ أساسي لتحقيق مشاركة فعّالة. فمن الضروري تحقيق المساواة التامة بين المواطنين، فكما أسلفنا أنّ المواطنة بصفتها رابطة قانونية وسياسية وأخلاقية تحتم أن يكون الانتماء على أساس الجنسية والحقوق والواجبات وليس لاعتبارات أخرى ذاتية.
نبيل دحماني/ كلية العلوم السياسية - جامعة قسنطينة3
مُمارسة اجتماعية وإنسانية شاملة ومتكاملة
تُمثل المُواطنة قيمة جليلة ودرجة رفيعة في حياة الأفراد والمجتمعات والدول الديمقراطية والليبرالية الراسخة، فبها يتحدّد تطور دولة ما في مجال الحقوق والتنمية ومُمارسة شؤون الحُكم، ورغم قِدم المفهوم وتجذره تاريخيًا منذ فجر التاريخ غير أنّ لممارسات «المواطنة» تباينات كثيرة من حيث إلحاقها بمتغيرات الجنسية أو الانتماء أو العِرق أو الجندر، فقد ألحقت في الحضارة اليونانية القديمة بالرجال الأحرار والجنود والتُجار دون غيرهم من النساء والعبيد والأجانب، رغم الإدعاء بديمقراطية الحياة الإثينية تحديدا، وانحصرت في الحضارة الرومانية عند حدود مدينة روما عاصمة الإمبراطورية مُجسدا في عِرق دون غيره من سكان روما الأصليين، غير أنّها في الحضارة العربية الإسلامية عرفت توسعا حيث شملت كلّ سُكان الإمبراطورية العربيّة الإسلاميّة في ظل الحكم الثيوقراطي، وتعد أرقى ممارسة لهاته الصفة لتلك المحطة المشرقة في عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، حين آخى بين المهاجرين من سكان مكة والأنصار ممن ناصره في المدينة يثرب شمال مكة، من خلال وثيقة احتوت حقوق وواجبات كلّ سكان المدينة المنورة من مهاجرين وأنصار وكتابيين، بحيث لم تستند صفة المواطنة للمتغير الديني ولا العرقي ولا اللغوي بقدر تمحورها حول الساكنة ومجموعة الحقوق والواجبات المسندة لكلّ فرد داخل المدينة، سواء تعلق الأمر بالزكاة والجهاد، أو الجزية والخراج.
وقد عرف مُمارسات المواطنة تراجعا في ظل القرون الوسطى في أوربا والعالم العربي والإسلامي، ليعاد اكتشافها في عصر النهضة من خلال إسهامات هوبز ولوك وروسو ومونتيسكيو، وغيرهم من فلاسفة عصر الأنوار وكُتابه. حيث ارتبط المفهوم بنظام الحُكم المُقيد العلماني المبني على الفصل بين الحُكم والكنيسة، وعلى أسس الدولة المدنية لا العسكارتية واللاثيوقراطية أو الأوتوقراطية، وقد تجسدت أبرز معاني الديمقراطية والمُواطنة كوجهين لعملة واحدة، في الثورات الفرنسية والانجليزية والأمريكية، القائمة على تعزيز منظومة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وفي وقتنا الحاضر يُقاس مدى فعالية الحُكم ونجاحه، بمدى تجسد فكرة المُواطنة في المُمارسة اليومية والروتينية للحياة العامة في المجتمعات الغربية وغير الغربية، من خلال علاقة الفرد بالدولة ومؤسساتها، وفق ما تحدّده دساتير وقوانين الدول، من حقوق وواجبات يلتزم الأفراد والجماعات بها داخل الدولة الواحدة، وهي ضمنيا تدل على درجة الحرية مع ما يُصاحبها من التزامات مادية أو معنوية أو رمزية، وحتى تتحقق هذه المُواطنة جدير بالقانون أن يؤكد على معاملة الأفراد من طرف مؤسسات الدولة على قدر من المساواة والعدالة والإنصاف، بصرف النظر عن الانتماءات الثانوية طبقية كانت أو ثقافية أو عرقية أو حتى جندرية (النوع الاجتماعي). بالشكل الّذي يصون كرامة الفرد واحترامه وتبجيله وتحريره من الحاجة والفاقة والقهر والاستغلال. مع ضمان حرية الفعل والفكر والمشاركة في الحياة العامة بمجرّد اكتسابه جنسية البلد المقيم فيه، من خلال حقه في التصويت والانتخاب والترشح لتولي المناصب العُليا، جنبا إلى جنب مع باقي الحقوق الأساسية كالحق في الحياة والعمل والسكن والتعليم والصحة والغذاء والأمن...الخ
من خلال هذا الاستطلاع العام تبرز لنا المواطنة من حيث كونها ممارسة اجتماعية وإنسانية شاملة ومتكاملة، وفق منظومة قانونية تستند للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومنسجمة مع التطلعات المجتمعية التواقة للرفاهية والسعادة الإنسانية، والعيش بسلام في كنف النظام الديمقراطي التعدّدي الليبرالي المدني. غير أنّ تعزيز هذه المنظومة (منظومة المواطنة) لا يتأكد إلاّ بتوافر مجموعة من الشروط الجوهرية للحياة الكريمة والسعيدة للفرد في علاقته بدولته من جهة، وفي علاقته بتطلعات المجتمع الّذي ينتمي إليه.
حيث تشير الكثير من الدراسات الاجتماعية والسياسية المُعاصرة إلى أنّ المواطنة الحقة في مجتمع ما لا تتحقق دون عوامل ثلاثة أساسية هي: الدولة المدنية ذات النظام الديمقراطي: في ظل هذا النظام تنحل القيم التقليدية التي تسود المجتمع وتحل محلها القيم الجديدة الموضوعية والرشيدة، البعيدة عن اللاهوت والخرافة والشعوذة، والبعيد عن الحكم التقليدي الوراثي والحكم التسلطي الكاريزمي أو شخصاني أو أوليجارشي. فالدولة الديمقراطية المدنية هي دولة المؤسسات تقوم على القانون الوضعي الّذي لا يستند إلى أي تميز كان.
أيضا المشاركة في انتقاء السياسات واتخاذ القرارات والحق في التمثيل داخل البناء المؤسساتي المُشرعن دستوريا وأخلاقيا وشعبيا، من خلال منح الفرد الحرية التامة في اختيار من يمثله، أو في الترشح لتولي المناصب العُليا داخل الدولة، أو في التعبير عن أرائه وأفكاره ومعتقداته، دون أن يسبب له ذلك أي شكل من أشكال الإكراه المادي أو المعنوي، أو التعسف في المساس بكرامته وحقوقه، طالما أنّه يلتزم بواجباته تجاه المجموعة التي ينتمي إليها وتجاه الدولة التي يعيش فيها.
أيضا الاحتكام للقانون الّذي هو فوق الجميع، من خلال العدالة والإنصاف والمساواة في الحظوظ والفُرص، والالتزام باحترام القواعد القانونية المُنظمة للعلاقات بين الأفراد وبين الأفراد والدولة، من خلال قضاء مستقل وفاعل لا تمارس عليه السلطة السياسية أو العسكرية أي ضغوط. فالقانون هو الضمانة الأساسية في احترام حقوق الإنسان وقيم المُواطنة من خلال صون الحريات العامة والخاصة، والحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وحتى البيئية المرتبطة بالغذاء المناسب والمياه والهواء النقي، ناهيك عن حماية الفئات الهشة داخل المجتمع كالنساء والأطفال والمسنين، يُضاف إلى ذلك صيانة الصحة الإنجابية والسلامة الجسدية والنفسية.
وفق هذه المعايير الثلاثة تتحدّد مدى فعالية المُواطنة كممارسة يوميّة روتينيّة، وحالات مفردة تدفع بالأفراد إلى الالتفاف حول الوطن للدفاع عنه بالنفس والنفيس، أو للتجند من أجل ازدهاره ورخائه ومنع الشر عنه، أو تدفع بالدول إلى تحريك أساطيلها وقواتها التدميرية لحماية مواطنيها داخل أراضيها أو خارجها. وهو ما يبرز خطورة هذا المفهوم وتعقده في وقتنا الحاضر إذ لم يعد الشغل الشاغل لفقهاء القانون الدستوري وعلماء الاجتماع والسياسة فقط ولكنّه أصبح من موضوعات الساعة لدى المؤسسات المحلية والدولية والعالمية، كلّ جهة تتناوله من الزاويّة التي تشتغل فيها.
محمد المهدي شنين/ باحث بقسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية -جامعـة قاصدي مرباح ورقلة
مسألة التنشئة هي التي تؤسس لفكرة المواطنة
المُواطنة علاقة تعاقدية ذات اتجاهات عِدة، تستلزم «حقوق» وتفرض «واجبات» تجاه الوطن أو الدولة أو المجتمع، تقوم المواطنة على فكرة الانتماء، وهي حالة شعورية تجعل الفرد المواطن يستشعر أنّه جزء من المنظومة التي ينتمي إليها، وأنّ حقوقه مكفولة، وواجباته ضرورة لاستمرار هذا الكيان التعاقدي.
إنّ فكرة الانتماء هي جوهر الفعل المواطني، والّذي ينعكس على سلوك الأفراد في تفاعلاتهم مع المجتمع ومع الدولة، في المقابل فإنّ غياب المواطنة كسياسة وإستراتيجية للدولة والحكومات تكسر روح الانتماء للأفراد، وتفرز «إنسان لا منتمي» لا يستشعر قدسية الأوطان، بفعل ممارسات الإقصاء والتمييز المختلفة فكريا وطائفيا وجهويا وعرقيا، وحتى اقتصاديا بفعل احتكار الثروة وتعميق التمايزات في المستوى المعيشي.
اهتزاز قيمة المواطنة كفكرة وكممارسة، تعمل على فك ارتباط الفرد بالدولة، وارتداده للانتماءات الفرعية، والاحتماء بها باعتبارها أيضا حالة شعورية، وربّما تُقدم له امتيازات أكبر مقابل التزاماته تجاهها، حيث أنّ الانكفاء للهويات الجزئية مُؤشرٌ بالغ الأهمية على ضعف روابط المواطنة، وعجزها عن صهر المكونات السيسيولوجية في بوتقة الوطن، وجعل الانتماء الأساسي للدولة.
اعتبار المواطنة مُمارسة ونشاطا في فضاءات الدول، فرض إعادة التفكير في مسألة الوطن، وطرح مفهوم المواطنة المكتسبة بالتجنيس أو الهجرة أو اللجوء، وهي رغم أنّها رابطة قانونية، إلاّ أنّها قدمت امتيازات لأفرادها، فقدوها في أوطانهم الأصلية، فالمواطنة المكتسبة هي نتاج لنظام ينبني على فكرة التشاركية في السلطة والثروة، من خلال سياسات عملية، عوض السرديات الخطابية التي يكذبها الواقع.
قيم المواطنة ليست مخرجات سياسة حكومية فقط، بل تمتدّ لتكون مسألة تنشئة اجتماعية، انطلاقا من الأسرة والمدرسة والمجامع، بما يغرسه من أفكار عن الآخر الشريك في الوطن، وبما يزرعه من قيم تعايش، والتزام بالواجبات تجاه الوطن والمكونات المجتمعية.
إنّ مسألة التنشئة هي التي تؤسس لفكرة المواطنة، استنادا لمشروع دولة الجميع، الّذي يُفترض أن تنتهجه الحكومات من خلال النصوص القانونية والممارسات الفعلية، في المقابل فإنّ فشل المواطنية سيدفع نحو ثنائيات حادة، تكون عبئا على الوحدة الوطنية، مثل الثنائيات الطائفية والعرقية والجهوية والطبقية والمناطقية..إلخ أي الذات الهوياتية مقابل الآخر.
هذه الثنائيات إذا احتدت وتغذت من حالة الانكفاء الهوياتي، ستُعمِق الانقسامات العمودية، وتُفعِل الشقاقات المجتمعية، وتشيع الحقد الجهوي والطبقي، بفعل ممارسات التمييز، بناءً عليه فالمواطنة ضمانة للأمن وللوحدة الوطنية، تؤسس لحقوق المواطنين، بدلا من المكرمات في نظام الرعايا، وتعتمد على الحق التعاقدي، المُستند لروح الشراكة بدل سطوة الاحتكار.
عبد الباقي بن مير/ باحث بقسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية -جامعـة قاصدي مرباح ورقلة
المواطنة ليست مجرّد مصطلح أو ميزة تظهر في الدساتير والنصوص واللوائح
المواطنة ليست مجرّد ميزة أو مصطلح تظهر في الدساتير والنصوص واللوائح التنظيمية للدول، دون أن تتجسد ميدانياً وفي الممارسات العملية. إذ لابدّ أن تنعكس في المساعدة على صياغة وصنع القرار، والمساهمة في اقتراح بدائل وحلول لبعض المشكلات المجتمعية تماشياً ومتطلبات الديمقراطية التشاركية.
ففي الدول المُتقدمة والمجتمعات الديمقراطية يتحوّل المواطن إلى دور الفاعل والمُؤثر في القرارات ورسم السياسات العامة، بالضغوط المُمارسة من خلال ممارسته لمواطنته، بدل كونه مُتلقي وقابل لتنفيذ أي قرار كان.
وبمّا أنّ الحركات الاجتماعية تهدف إلى وضع الجهات الإدارية والحكومية في الصورة، من خلال نقل المعلومات بشأن القضايا والمشكلات للجهات الإدارية والحكومية، عن طريق الضغط الشعبي والجماهيري. ومن منطلق أنّ حرية التعبير، والتظاهر والتجمع السلمي والمشاركة في الأحزاب السياسية والجمعيات. من أهم الحريات التي تكفلها القوانين في الجزائر، وبما أنّ المواطنة تشير إلى الحقوق التي تكفلها الدولة لمن يحمل جنسيتها، وتتيح تفاعل الأفراد مع محيطهم الاجتماعي ومع السلطة كذلك. وباعتبار أنّ الحركات الاجتماعية تظاهراً وتجمعاً يهدف من خلالها المتظاهرون إلى التعبير عن أرائهم ومشكلاتهم، ومحاولة إيصالها إلى السلطات بمختلف الوسائل والإمكانيات المشروعة مثل: اللافتات، والشعارات، والتصريح في الإعلام العام والخاص، النشر في منصات التواصل الاجتماعي،،، فإنّه يمكن القول بأنّ الحركات الاجتماعية تمثل حالة صحية لانتماء الأفراد للأوطان، ووسيلة مشروعة لتحقيق المطالب وآلية اجتماعية لافتكاك الحقوق ولا تتعارض مع المواطنة.
إستطلاع/ نــوّارة لحـــرش