جنات بومنجل
صديقة طفولتي التي كنتُ أتردّد على بيتها كي أعلّمها الحياكة، فنصنع سويًا فستانًا أو قبّعةً لدميتها، فقدت والدها العامل في سكة الحديد. كانت براعة والدتها لا تُضاهى في أداء وصلة البكاء والنحيب إلى درجة تُشعرك بأنّك على مشارف الهاوية، ومن عجب أنّ ابنتها -قرينتي- كانت تنخرط في نوبة بكاء هي أيضا كلّما غرقت الأمّ في هذا البكاء المُرّ الّذي يشتعل بحزن مقيم.
لم أكن لأترك الصغيرة تبكي وحيدة خارج الدار دون أن أشاركها فجيعتها بهذا الولاء الطيّع على أب حنون يشبه كثيرا ملامح وطيبة أبي.. غير أنّه كان جارنا الطيّب الكادح الّذي فقدناه، وبالتالي فقد صار البكاء عليه حُزننا المُشترك، وواجبنا العميق اتجاه هامة الموت..
بمرور الوقت أضحى البيت القصديري، المُغطى بالقش وبعض أغصان الأشجار اليابسة، وعجلات المطّاط الخربة الكبيرة يعجّ بالمعزّين.. كان الرجل مُمددا في كفنه وسط الغرفة الضيّقة بائسة الأثاث، فيما التفّ الكل حول جثمانه، بدت السيّدة السمراء النحيلة وهي تتطلّع إلى «الحوش» دون أن تفقد همّتها في هذا البكاء الطويل العميق الفاجع، وقد خُيّل لي في مرّات كثيرة وكأنّها تغنّي لحنًا حزينًا، ما تزال بقايا كلماتها ترنّ في أذني موزونة، مُقفّاة رغم انقضاء هذا العمر الطويل، ومازلتُ أرى نفسي مُنخرطة في ذلك البكاء الّذي لا مشرق له ولا مغرب، حتى تورّمت عيناي، واحمرّت أرنبة أنفي وخنقني السُعال، وقد سرقني الوقتُ يومها فلم أعد إلى بيتنا وقت الظهيرة..
كلّ الجيران كانوا هناك..
وحدي كنتُ جائعة، لم أتوقّف عن البحث بين أحذية المُعزّين عن بكرة خيط النسيج التي اختفت فجأة، ونحن لم ننهِ بعد ذلك القفاز المُلوّن الّذي نوينا أن نصنعه سويًا قبل أن يُفاجئنا جُثمان الفقيد المُمدّد في ردهة البيت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(•) جنات بومنجل: شاعرة و قاصة جزائرية مقيمة في أبو ظبي.