في بيـت امـرأة غيّـرت مســار العلــم!
“أنا امرأة تفكر مثل نوبل بأن البشرية تكتسب الخير بدلا من الشر من الاكتشافات الجديدة»، هي إحدى العبارات العميقة التي عُرِفت بها واحدة من أشهر علماء القرن العشرين، إنها ماري سكودوفسكا كوري، البولندية التي كرّست حياتها للعلم فكانت أول امرأة تحصل على جائزة نوبل، بفضل اكتشافاتها حول النشاط الإشعاعي للراديوم و التي قلبت قواعد الفيزياء و الكيمياء، لتُصبِح سببا في التطوّر الذي نعيشه اليوم في مجالات كالطب و الذرة. النصر زارت بيت العالمة بالعاصمة البولندية وارسو، بعد تحويله إلى متحف يحج إليه سنويا آلاف السياح، لتنقل عبر هذا الروبورتاج تفاصيل مثيرة عن “عبقرية القرن العشرين”.
روبورتــاج: ياسمين بوالجدري
وسط شارع «فريتا» المكتظ بالسياح و في قلب "البلدة الجديدة" للعاصمة البولندية، يقع منزل ذو طابقين أنجِز على طراز بنايات القرن الثامن عشر، و قرر الشعب البولندي أن يكرم به ابنته العظيمة ماري كوري، بتحويله لمتحف، فقد كان هذا المنزل ذات يوم، مكان مولد العالمة في السابع نوفمبر من سنة 1867، بينما كانت بولندا مقسمة إلى ثلاث دول تحت السيطرة الروسية.
بناية تأبى الاندثار
من ينظر إلى هذا المبنى من الخارج، قد لا يتفطن أبدا إلى أنه تعرض للهدم مرات عديدة، كانت آخرها سنة 1944 أثناء ما عرف بـ "انتفاضة وارسو"، حيث انهار بالكامل و لم يتبق منه سوى لوحة معدنية، كانت قد وُضعت بعد وفاة ماري كوري عام 1934، لكن في أعقاب الحرب العالمية الثانية أعيد إنجاز المنزل و تم تحويله إلى متحف لسيرتها الذاتية، بمناسبة مرور 100 سنة على مولدها، و قد كان ذلك سنة 1967.
المتحف ترعاه الجمعية البولندية الكيميائية التي تتخذ نفس المكان مقرا لها، حيث يتطلب الدخول إليه، خلال أيام الفتح المحددة بين الثلاثاء و الأحد، تسديد ثمن التذاكر المقدر بـ 11 زلوتي بالعملة المحلية، و الذي يصل إلى 16 زلوتي إذا أردت مشاهدة فيلم عن العالمة.
صوّر تؤرخ لحياة غير عادية
رفقة أعضاء جمعية الشعرى لعلم الفلك، التي شاركتها النصر رحلتها العلمية إلى بولندا، دخلنا المتحف، و في بهوه وجدنا صورة كبيرة باللونين الأبيض و الأسود لماري كوري بشعرها المرفوع، و نظرتها الثاقبة و ملامح وجهها الدقيقة التي تخفي وراءها ذكاء فذا و شخصية قوية، لامرأة استطاعت أن تحصد جائزة نوبل لمرتين و في تخصصين مختلفين، متفوقة بذلك على كل العلماء الذين عاصروها و حتى من جاؤوا بعدها.
قبل الصعود، وجدنا بهوا صغيرا صُفت في إحدى جدرانه، العديد من الكتب التي تتطرق إلى السيرة الذاتية لماري كوري، بالإضافة إلى بعض الأغراض المعروضة للبيع و التي تعتبر تذكارات مميزة، لكونها تحمل بصمة المتحف، و من بينها توجد أقلام و دفاتر و حتى فناجين رُسِمت عليها صور و اسم العالمة، كما وُضِعت أيضا مطويات بعدة لغات منها العربية، تُعرف بالسيرة الذاتية لكوري و بمسارها العلمي.
صعدنا إلى الطابق الأول، حيث كان هناك عدد قليل من الزوار، وهنا وجدنا معرضا مفتوحا قُسم على غرف المنزل، ذات الأرضية الخشبية و الأسقف المرتفعة التي تفصل بينها أسوار تزيّنت بصور مختلقة الأحجام لماري كوري و زوجها العالم الفرنسي بيير كوري، حيث يمكنك أن تجد هنا أي شيء يخصها من مقتنيات و أغراض و صور فوتوغرافية توثق لمختلف مراحلها العمرية، مع عائلتها و زوجها و خلال التدريس بالجامعة و حتى وسط جدران مختبرها بباريس و هي تحمل بثوبها الأسود البسيط، القنينات التي كانت تضع بها المواد الكيميائية.
كتاب الطبخ أيضا موجود!
و بالتجول بين غرف المتحف، وجدنا بعض الآلات و الأنابيب المخروطية الزجاجية، التي كانت تستخدمها ماري كوري في تجاربها، بل و حتى حقيبة يدها الجلدية و كتاب الطبخ المفضل لديها و الكرسي الذي كانت تجلس عليه و أيضا الحوض الذي استعملته لغسل يديها بعد كل تجربة، فهو قديم جدا إلى درجة أن لونه مال إلى الأصفر، كما يوجد أيضا ساعة العالمة و قلمها و كذلك ثوب يحاكي ببراعة ما كانت ترتديه، بلونه الأسود و أكمامه الطويلة و تفاصيله التي تعود بك إلى أواخر القرن الثامن عشر.
و الجميل أن المتحف يعرض أيضا بعض المعادن التي أطلِق عليها اسم ماري كوري تكريما لها، و منها "السكودوفسكيت"، و كذلك خطابات بخط اليد أرسلتها العالمة أو بُعِثت إليها، من أفراد عائلتها و زملائها الباحثين، حيث تم نشرها على أعمدة تتوسط الغرف، التي توجد بها أيضا تماثيل تخلد لذكرى كوري و زوجها.
هكذا كانت تتجوّل مع أنشتاين!
و قد استوقفنا خلال الإطلاع على الصور الفوتوغرافية المعروضة، صور تظهر فيها ماري كوري و عبقري العلوم ألبرت أنشتاين، يتمشيان في جنيف سنة 1925، أي قبل وفاتها بـ 9 سنوات، و هي مشاهد تدفع كل من يراها إلى التساؤل بفضول "ما الذي كانا يتناقشان حوله؟"، فيما يبدو أن علاقة صداقة كانت تجمعهما، فقد قال أنشتاين رائد الفيزياء النظرية الحديثة، ذات يوم، جملته الشهيرة عن كوري "ربما كانت ماري كوري الشخص الوحيد الذي لم تفسده شهرته". و لعل أكثر ما يسترعي اهتمام زوار المتحف، هو رؤية شهادتي نوبل اللتين تحصلت عليهما ماري كوري عامي 1903 و 1911 في الفيزياء ثم الكيمياء، لذلك تم وضعهما على طاولات تم حمايتها بالزجاج، حيث شاهدنا شهادة نوبل في الفيزياء التي نالتها مناصفة مع زوجها، و هي عبارة عن ورقة مقسمة إلى نصفين، مزينة بأشكال زخرفية خضراء اللون في أطرافها، و مكتوبة باللونين الأسود و الأخضر. كما توجد شهادة البكالوريوس في الفيزياء التي تحصلت عليها العالمة بمرتبة أولى سنة 1893، من جامعة باريس، و كذلك الميداليات التي أهديت لها و عينات من ورقة 500 فرنك فرنسي و التي كانت تحمل صور كوري تخليدا لها، فيما تم تجهيز بعض الغرف بأثاث يحاكي الحقبة التي عاشت خلالها، و ما كانت تستعمله فعلا، كالطاولة و المكتب و الكراسي، و ليكتمل المشهد عند الزوار، أتيحت لهم فرصة مشاهدة أفلام باللغات البولندية و الإنجليزية والفرنسية عن العالمة، ليغوصوا أكثر في حياتها غير العادية و تجربتها الرائدة.
الاسم يخلق حساسية بين بولندا و فرنسا
و خلال حديثنا إلى بعض البولنديين، قالوا لنا إن معظم الأشخاص يسمون العالمة باسم "ماري كوري"، الذي صار يُطلق عليها بعد زواجها من أستاذها الفرنسي في جامعة السوربون “بيير كوري"، و هو ما أعطى الانطباع للعالم بأنها فرنسية و ليست بولندية، لذلك فإنهم يصرون على تسميتها بكنيتها الأصلية “ماريا سكودوفسكا-كيري"، و قد ينزعجون لو نطقت أمامهم “ماري كوري"، و هو ما حدث معنا فعلا خلال رحلتنا إلى هذا البلد.
هذه "الحساسية" المبرَّرة، لم تمنع البولنديين من الاعتراف بالجميل الذي قدمته فرنسا لماري كوري، فهذه العالمة التي نذرت حياتها للمعرفة لتموت عن عمر 66 عاما بسبب مرض ابيضاض الدم الناجم عن اتصالها لسنوات طويلة بعناصر مشعة و أشعة الرينتغن، ما كانت لتحقق ما حققته لو لم تسافر إلى فرنسا و هي شابة عمرها 24 سنة للدراسة، عندما لم تستطع فعل ذلك في بلدها، حيث أصبحت أول بروفيسور في تاريخ جامعة السوربون سنة 1908، و اكتسبت الجنسية الفرنسية.
ساهمت في علاج السرطان و غيّرت أسس الفيزياء
"ماري كوري"، التي تغلبت على تحديات الفقر و على النظرة الدونية التي كانت تعاني منها النساء الأوربيات في تلك الحقبة، صنفتها هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، ضمن قائمة "100 امرأة غيرت العالم"، و قد اختيرت الأولى بين جميع الأسماء، كيف لا و هي التي قضت 40 سنة من عمرها في الدراسات و الأبحاث التي تكللت باكتشاف عنصر الراديو و كذلك البولونيوم الذي اختارت اسمه تكريما لبلدها بولندا، كما أنها أثبتت أن الإشعاع لا ينتج عن التفاعل بين الجزئيات بل يأتي من الذرّة نفسها، فمهدت لدراسة الانشطار النووي، ودفعت المجتمع العلمي إلى إعادة النظر في أسس الفيزياء.نتائج أعمال ماريا سكودوفسكا كوري، كما يفضل البولنديون تسميتها، لا تزال آثارها لليوم، فقد كان لها أهمية حاسمة في تقدم العلم في القرنين العشرين و الواحد و العشرين، حيث ساهمت اكتشافاتها في التطور الشاسع الذي شهده مجال الطب فيما يتعلق بالأشعة السينية واستغلال العملية الإشعاعية في طرق العلاج، و خاصة المرتبطة بمرض السرطان.
ي.ب