جورج طرابيشي مفكرا نهضويا وناقدا نفسيا لمسيرة الثقافة العربية
ترك المفكر الراحل جورج طرابيشي تراثا فكريا ضخما من الكتب والمقالات واللقاءات جال في ضوئها بأحقاب الفكر الإنساني شرقا وغربا منذ القدم إلى العصر الحديث؛ قارئا وناقدا ومترجما ومشخصا ومثريا، بعقل يحمل هموم أمة أفل نجمها بعد بزوغ، مقدما آراء ورؤى يراها كفيلة بعلاج داء الشرق، فوضع مسبار النقد على الثقافة والتدين والسياسة؛ متوسلا بالتحليل النفسي ومناهج النقد الحديثة ، فواكب تطور المجتمع العربي المسلم وهو ينتقل (من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث)، وفي ثنايا هذا التطواف العلمي النقدي وقف على (العقل المستقيل في الإسلام)، بعد سيادة إيديولوجية (المعجزة أو سبات العقل في الإسلام).
وفي خضم هذا الجدل يناقش طرابيشي (نظرية العقل العربي) و(وحدة العقل العربي) ويكشف عن (إشكاليات العقل العربي) مقتفيا (مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام)؛ وفي ثنايا تتبعه للفكر العربي الإسلامي في العصر الحديث من (من النهضة إلى الردّة) رأى في هرطقاته عن (الديمقراطية والعلمانية والحداثة) أن (العلمانية إشكالية إسلامية- إسلامية) وليست إشكالية إسلامية غربية؛ ليقرر في آخر حياته أنه يمكن أن نجد (جذور العلمانية في الإسلام) بعيدا عن العلمانية الكلاسيكية التي واكبت حركة الفكر العربي الحديث؛ لكنه بالمقابل يقف على فاجعة (مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة) بعد أن قارب علاقة (المثقفون العرب والتراث) عن طريق (التحليل النفسي لعصاب جماعي)، مشخصا أزمة (الجنس والحضارة في الرواية العربية) من خلال قراءات نقدية للمنتوج الثقافي جغرافيا (شرق وغرب)، وجنسيا (رجولة وأنوثة)، ففي هذا التشخيص العلمي والتحليل النفسي للثقافة والمثقفين ول(الأدب من الداخل) وهو يمارس (لعبة الحلم والواقع) ظهرت لطرابيشي أعراض (عقدة أوديب في الرواية العربية) سواء في نظرية (الرجولة وايدولوجيا الرجولة في الرواية العربية) أو (رمزية المرأة في الرواية العربية)؛ لدرجة أن مسبار التحليل النفسي كشف له وجود (أنثى ضد الأنوثة). وقبل هذا عمد طرابيشي إلى ترجمة الفكر الغربي العلمي الحديث من خلال ما أنتجه رواده من مقولات وآراء علمية وفلسفية لاسيما سيجموند فرويد إلى جانب هيغل وسارتر وجارودي وغيرهم؛ طرابيشي الذي نشأ مسيحيا ثم تحول إلى الماركسية لم يتأخر في نقل تراثها الإيديولوجي فكريا وسياسيا منذ بداية الستينيات إلى بداية الثمانينيات، فجاءت كتبه تباعا (الماركسية والمسألة القومية) (سارتر والماركسية) (الماركسية والايدولوجيا) (الإستراتيجية الطبقية للثورة) (النظرية القومية والدولة القطرية).
قبل أن ينتهي به المطاف كاتبا في الفكر الإسلامي؛ لاسيما منذ بدء اشتغاله في نقد نقد العقل العربي محاورا الجابري منذ نهاية الثمانينيات إلى 2010. وبعد رحيله سنة 2016 يظل فكره مرجعا لا غنى عنه في استقراء ونقد مسار الثقافة العربية الإسلامية، وفي كنفها نكتشف مشروعه النهضوي الذي ظل ينشده للدولة العربية الحديثة وحضارتها التي كان يحلم بها؛ وفي هذا الملف نسلط الضوء على فكره بقراءات تحليلية وأخرى نقدية لمفكرين عرب من مختلف الأقطار التقت بهم النصر على هامش ندوة دولية بمدينة اسطنبول التركية منذ أيام عنونت ب (طرابيشي مفكر بيننا) بادر إلى تنظيمها مركز حرمون للدراسات المعاصرة ونشرت أعمالها مجلة قلمون؛ وقد كانت ندوة ثرية مفتوحة على مختلف القراءات النقدية من وجهات نظر متباينة كرست ما كان يحلم به ويدعو إليه طرابيشي من جعل مشكلاتنا الحضارية في الدين والهوية والديمقراطية والعلمانية إشكاليات بينية لا علاقة للآخر بها.
جورج طرابيشي باحثا عن العلمانية في الإسلام
الدكتور سمير ساسي- تونس
يقر طرابيشي أن الكلام عن العلمانية في الإسلام وإن بصيغة «بذور «مخففة فيه صعوبة وجرأة في الوقت نفسه؛ الجرأة تنبع من كون العلمانية صارت «بحمولتها المنتهكة للمقدس مرادفا للكفر؛ أما الصعوبة فتكمن في غياب الجهد الفكري والعلمي لتمحيص هذا المفهوم وضبطه ووجود آراء ناجزة لدى باحثين ترفض هذا المصطلح. ويرى أن «العلمانية فلسفة وآلية لتسوية العلاقات لا بين الأديان المختلفة فحسب بل كذلك بين الطوائف المختلفة في الدين الواحد». ويذهب إلى أن السبيل إلى تسوية العلاقات المتوترة دوما بين طوائف الإسلام هو عدم تغييب العلمانية التي ما جرى اكتشافها في مختبرات الحداثة الأوروبية إلا لتكون الدواء الشافي للداء الطائفي، وهو بذلك يرفض قول الداعين إلى الاكتفاء بالديمقراطية لإقامة هذه التسوية؛ ولا يرى العلمانية كايديولوجيا خلاصية؛ لذلك دعا إلى إعادة اكتشاف العلمانية في الساحة الإسلامية وتطويرها وتكييفها وذلك من خلال التحييد الطائفي للدين نفسه وهذا يعني علاوة على علمنة الدولة والدين: علمنة المجتمع على مستوى العمق «تمكينه من إعادة تربية نفسه ليقبل بشرعية التعدد في الأديان وبشرعية التعدد في الدين الواحد».
ويرى طرابيشي أن العلمانية نجحت بفضل القطيعة المعرفية التي أنجزتها الحداثة وليس بفضل بذرتها التاريخية في المسيحية؛ لذلك فإن نجاحها لن يكون إلا «..بالثورة المعرفية التي لم تجترح بعد بسبب غياب مشروع حقيقي وفعال للحداثة في الإسلام المعاصر». فهو يصفها بالحصان الذي سيجر عربة القطيعة «وبدون هذا الحصان لن نستجر هذه العربة من أعماق تاريخنا» فهي «أساس الإقلاع الحضاري»
ويشير طرابيشي أن نصوص الإسلام المرجعية تؤكد الانفصال بين الروحي والزمني وأن العثور على العلمانية في الإسلام واضح ويسير ولا يحتاج إلى تأويل ويستدل في هذا المجال بنص الحديث (أنتم أعلم بأمور دنياكم) في التمييز بين أمر الدنيا و أمر الآخرة أي بين الزمني والروحي. ويؤكد طرابيشي أن التجربة التاريخية للإسلام كانت عاملا مهما في ما يسميه التخلص من «الروحية الخالصة» لينتقل بعدها الإسلام إلى مرحلة تسييس مبكر أعطى فيها المسلمون الأوائل أولوية للدنيوي على الأخروي إلى حد التطاول على حرمة المقدس. مما أوجد ردة فعل مضادة «تؤمثل الدين وتؤبلس السياسة» وهو ما زاد من تجذير الفصل بين الديني والسياسي خاصة مع بداية الدولة الأموية.
فإلى أي مدى يمكن التسليم بما ذهب إليه طرابيشي من حديث عن بذور للعلمانية في الإسلام؟ وما متانة المقاربة التاريخية التي اعتمدها طرابيشي للاستدلال على الفصل بين الديني والسياسي، ومن ثم التأكيد على الطابع العلماني في الإسلام؟ وهل تكفي هذه المقاربة للتسليم بنتيجة نظرية تخص الإسلام كالتي وصل إليها طرابيشي، وأين موقع النصوص المؤسسة داخل هذه المقاربة؟
من خلال مقاربة حوارية بين طرابيشي والمسيري نلحظ الاختلاف الجوهري في منهج التناول والرؤية في مسألة الفصل بين الدين والدنيا يبرز في قراءة حديث تأبير النخل فعند المسيري هو تأكيد للتمايز المؤسسي وهي مسألة تتعلق بإجراءات ذات طابع فني؛ لكن طرابيشي يعتبر الحديث نصا تأسيسيا للعلمانية في الإسلام فهو عنده «أبعد دلالة في التمييز بين أمر الدنيا وأمر الآخرة من المقولة المسيحية أعطوا ما لله لله ..» أما طه عبد الرحمن فيقدم طرحا مناقضا تماما لما ذهب إليه طرابيشي ويرفض وضع الإنسان بين خيارين لا ثالث لهما هما «إما التدبير الديني أو التدبير السياسي» وهذا الرفض نابع من كون الدين والسياسة حسبه »ليسا ميدانين مختلفين من ميادين الحياة الإنسانية وإنما هما منهجان متناظران في تدبير مختلف هذه الميادين على مقتضى ارتباط الإنسان بعالمين اثنين مرئي وغير مرئي»؛ فطه عبد الرحمن ينقل النقاش إلى مستوى منهجي يرفض بموجبه ما دعا إليه طرابيشي من «العمل بقوة على الخروج من حال التشريع الخارجي». ويبرز هذا الاختلاف المنهجي بين طرابيشي وطه في قراءة واقعة المسيح التاريخية مع اليهود التي أنتجت القول المرجع للفصل بين الدين والسياسة وهي «أعطوا ما لقيصر لقيصر ...»فرغم اشتراك طرابيشي وطه عبد الرحمن في تفاصيل الواقعة إلا أنهما يختلفان في التأويل فهي عند طرابيشي مرجعا للفصل بين الدين والسياسة وهي عند طه «لا فصلا بين عطائين أو تصرفين كلاهما حق يجوز إتيانه وإنما فصل بين تعبدين –بل دينين- لا يجتمعان، أحدهما باطل وجب تركه والآخر حق وجب فعله»
وإذا كان طرابيشي وأنصار المقاربة التاريخية عموما ينطلقون من عجز عربي إسلامي على نقد الخطاب التاريخي وغياب السؤال التاريخي فإنه من المهم تبين حدود هذه المنطلقات وطرح السؤال نفسه على أصحابها ففي ضوء صعوبة إخضاع المادة التاريخية للتجريب يطرح سؤال أول عن معقولية الاكتفاء بنقد الظاهرة من الداخل أو من خارجها على حد سواء ثم سؤال آخر هل مارس جورج طرابيشي نقده للمادة التاريخية التي استند إليها في الاتجاهين أي في الإثبات والنفي؟ لا تسعفنا قراءة نصوص طرابيشي برد يسند موقفه في هذا الإطار؛ فنحن لا نجد في خطابه ما يثبت أنه يسائل المادة التي يعتمدها بل هو موقن بصحتها جازم بثبوتها مغلقا في الوقت نفسه باب تأويل مختلف عن تأويله أو قراءته لها وقد ثبت عندنا أن هذا الباب ممكن من الناحية النظرية لأننا إزاء خطاب ومن أمثلة أبواب التأويل الأخرى التي يمكن أن نضيفها هنا قراءة المؤرخ هشام جعيط للفتنة الكبرى وهي قراءة تجعلنا إزاء تأويلين متباعدين لحدث تاريخي واحد، ومن البديهي وجود الاختلاف والتباعد بين منهجين أو رؤيتين متناقضتين ،لكن الإشكال المثار هنا يتمحور حول التعامل مع المادة التاريخية قراءة وتوظيفا فجعيط يصوغها بطريقة ليس فيها موقف شخصي من الفاعلين في الحدث المذكور وذلك بالتزامه الحياد في وصفهم «في حين نجد خطاب طرابيشي نقيضا لهذا النص لم يتردد صاحبه في تضمين موقف خاص من الفاعلين يوجه القراءة نحو النتائج المفترضة التي أعلنها الباحث في بدء بحثه. أدى منهج جعيط إلى استنتاج توصيف للسلطة في دولة الإسلام يضبط فيه حدود تداخل الديني والسياسي من خلال سلطة الخليفة الذي هو رأس الأمة «وبما أن هذه الأمة سياسية /دينية فإن أوصافه ومزاياه تكون سياسية /دينية فليست سلطته سلطة دينية إلا بقدر ما يكون الديني أساس وجود الأمة وبقدر ما يكون السياسي مصبوغا في أساسه بالديني وبالأساس نفسه تعود السلطة في جوهرها إلى الله الذي فوضها إلى نبيه فلا يكون الخليفة سوى خلفا له»،أما طرابيشي فقد أكد أنه «انطلاقا من تلك الفلتة الجاهلية التي كانتها واقعة السقيفة التأسيسية لنا أن نفهم لماذا كان تاريخ الخلافة الراشدة التي يرفعها البعض إلى عتبة المقدس تاريخ حرب أو حروب أهلية شديدة القسوة والمرارة معا».
العقل في حدود الترجمة.. لوغوس الترجمة.. براديغم الخلاص من الأب
(عمارة الناصر، جامعة مستغانم، الجزائر)
الترجمة بوصفها قاعدة خلفية للتنوير العقلاني تُقدّم المادّة المعرفية التي يرتكز إليها الفكر خلال توسّعه الموضوعي في تناول القضايا النقدية ومناقشتها، في هذا السياق نجد الوظيفة النقدية المزدوجة للترجمة في فكر جورج طرابيشي، الذي يعود إلى نصوص غنيّة بالمادة النقدية الضرورية لفهم الذات العربية، إذ وبعد ترجمته لنصوص الماركسية الناتجة عن التزامه الإيديولوجي يتحوّل إلى ترجمة مؤلّفات فرويد باعتباره طريقاً علمياً لاختبار مواجهة حاسمة بين تراث الذات العربية القائم على أوهام التطابق والتماسك واليقين وبين ضربات الشكّ الفرويدي الموجعة والمعزَّزَة علمياً باكتشاف هيمنة اللاوعي وسلطته على العقل والذات.
أمّا الترجمة باعتبارها هي نفسها عائقاً أمام التحرّر النقدي لفكر طرابيشي، فلأنّ ملازمته لنصوص فرويد جعلته محصوراً في دائرة معرفية مغلقة لها فضائلها العلمية كما لها هفواتها وعثراتها التي لا تُرى إلاّ بالخروج من تلك الدائرة والنظر بأعين معرفية مختلفة لخطابات مغايرة، ويتجلّى هذا العائق الإبستيمولوجي للترجمة في نمطية لغة الكتابة وفي التفسير الأحادي لمشكلاتٍ وأزماتٍ لها أسباب وأبعاد متعدّدة، كأنْ يجعل طرابيشي من اللاوعي أو العقدة النفسية عاملاً وحيداً لتفسير نكوص الذات العربية في الفكر والأدب، وهو ما يعني استبدال سلطة أبٍ بسلطة أبٍ آخر، وهذا ما أقرّه في واحدٍ من حواراته عندما قال بأنه أخطأ عندما لازم ترجمة فرويد لسنواتٍ طويلة. كما أن الترجمة ليست بديلاً عن إنتاج الذات للنصوص بل هي رافدٌ من روافده؛ وعليه فإنه وبقدر ما فتحتْ ترجمةُ طرابيشي لمؤلفات فرويد أفقاً تنويرياً للعقل العربي من خلال تفعيل الآلية النقدية للشكّ فيما يظهر كتابةً أو سلوكاً، فإنها وفي الوقت نفسه، شكّلتْ حدوداً لرؤية طرابيشي المعرفية، حيث يتجاوزُ بالترجمة عتبة المنطق عندما يمرُّ من حالة العصاب الفردي التي هي مدار التحليل النفسي في أعمال فرويد إلى حالة العصاب الجماعي في تحليله للفكر العربي المعاصر وهو ما يُعتبر تعميماً غير مبرّر منطقياً.
لقد مثّلتْ الترجمةُ لدى طرابيشي «براديغماً» للتفكير العقلاني الذي يتخلّص بواسطته من اللامعقول والمرَضي الساكنين في اللغة كما في الواقع، وليست مجرّد حرفة احترفها، ولأن «كلّ ترجمة تحمل في ذاتها صداها المخلِّص» كما يقول ريكور، فقد نظرَ طرابيشي إلى استحضار فرويد في تجربة التفكير باللغة العربية كطريق إلى الخلاص النفسي والمعرفي بل اعتبره أباً.يمارس طرابيشي نقداً مزدوجاً من خلال الترجمة: النقد في الترجمة والنقد بالترجمة: أمّا النقد في الترجمة، فقد انتقَد طرابيشي ترجمته لمؤلفات فرويد من الفرنسية لأنه أدرك الفارق التعبيري الذي يميّز اللغات فيما بينها وقدرة بعض اللغات على استيعاب القوّة الدلالية التي هي جزء من تركيبة العقل الذي يفكّر بها ثم يحوّلها إلى صورة «مفاهيم»؛ فقد أعاد النظر في ترجماته القديمة لفرويد بناءً على نقد داخلي للغة التي كتب بها ترجماته تحت تأثير تيارات فكرية وإيديولوجية على مراحل مختلفة من حياته المعرفية. أمّا النقد بالترجمة، فيتعلّق الأمر باستثمار الترجمة نفسها في ممارسة النقد أي بالانتقال من الترجمة بوصفها مجرّد تعادلٍ للمعاني بين لغتين مختلفتين إلى إنجاز نصوص جديدة تحمل القيم النقدية، حيث النقد هنا هو انعكاسٌ لحركة العقل في مرآة الترجمة
تُمثّل الترجمة تحدّياً أمام العقل النقدي، لأن المترجم يتعاطف لاشعورياً مع مضمون الترجمة بسبب ملازمته للنصوص الأصلية وتفاعله المستمرّ مع لغتها حتى تتحوّل تلك النصوص إلى قالب نظري ونفسي ثابت لتفكير المترجم وهكذا تُخضعه الترجمة لسلطة النص وتُعدّل من لغته التصوّرية الخاصة حتى لا يستطيع التفكير إلّا بها.غير أن الترجمة تضع حدوداً للعقل لأنها تُخضعه لأفكار وآراء النص الأصلي تحت ضغط الأمانة في الترجمة والالتزام بالمعنى الأصلي، وهي في حالة طرابيشي تعمل عملها عندما يترجم كثيراً لفرويد والتحليل النفسي حتى رسّخ ذلك لديه أنه ما مِن مشكلة في الثقافة العربية فكراً أو أدباً إلا وتقف خلفها عقدة نفسية أو يهيمن عليها أبٌ ما.
إن الترجمة آلةٌ تهيّئ الوعي للنظر دون أحكام مسبقة أو خلفيات إيديولوجية إلى الفكر الغربي باعتباره فضاءً مختلفاً لعيش تجربة العقل بما يساعد على فهم الذات وتعيين نقاط هشاشتها وبما يساهم في ترميم الفجوات التي تشكّلت بفعل صناعة لغوية للوهم في خطاب عربي ظلّ يحارب دونكيشوتياً التاريخَ بالتراث لأن مفهوم الزمن لديه مفهوم مضطرب بسبب التناقض بين العيش في زمن حاضر والتفكير بزمن ماضٍ.
جورج طرابيشي نهضوياً جديداً
د. عبدالله تركماني/ باحث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة- اسطنبول تركيا
تشكل أطروحات جورج طرابيشي، خصوصًا في قراءة التراث ونقده وتجديده، ونشر ثقافة الديمقراطية والعلمانية، واحدة من اللبنات المساهمة في المشروع النهضوي. إذ الثابت في مسيرة « النهضوي الجديد» دعوته الصريحة إلى اعتماد العقل والتزام الديموقراطية والعلمانية سبيلًا إلى تحرير الإنسان العربي من أسر الماضي وبناء مشروع نهضوي متجدد، بما يتيح لمجتمعاتنا العربية الدخول في العصر والحداثة.
لقد رفض طرابيشي كل التفسيرات التي تعيد هزيمة العقل في الإسلام إلى قوى خارجية، بل أعاد محنة العقل إلى كونها مأساة داخلية ومحكومة بآليات ذاتية. كما اعتبر الديمقراطية عملية مستمرة، تتضمن معاني التعلم والتدريب والتراكم، كما أنها ليست عملية قائمة بذاتها، بل لها متطلباتها وشروطها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والمؤسسية.
كما أكد أنّ العلمانية تعني عدم تدخّل الدولة في الشؤون الدينية لمواطنيها، بحيث تكون المواطنة هي أساس العلاقة بين الدولة والمواطن، مما يشكل ضمانة أكيدة للمساواة بين المواطنين، ولتلاحم المجتمع، حين تكون العلاقة بالوطن والدولة علاقة سياسية وليست علاقة دينية. لقد احتل موضوع العقلانية مكانًا هامًا في كتابات طرابيشي، بحيث كان مادة لكتابين من مؤلفاته: « العقل المستقيل في الإسلام» و»المعجزة أو سبات العقل في الإسلام». باعتبارها البحث المستمر في المعايير التي تقاس بها صحة الاستراتيجيات، التي تصوغها الجماعات أو تسعى إلى صياغتها، من أجل إحراز التقدم ومسايرة التاريخ، وتحسين مردودية الجهد الإنساني ورفع فعاليته.
وهكذا، كانت إضافة هامة من طرابيشي في تفكيك الآليات التي كبّلت العقل العربي، انطلاقًا من مكوّناته الداخلية لا بالاقتصار على العوامل الخارجية التي ما فتئت منذ القديم تحمل وِزْر تخلّف هذه الثقافة. هذه الإضافة هي كتاب «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» ، الكتاب الذي بيّن حقيقة الدور الأيديولوجي الذي قامت به مختلف مكوّنات العقل العربي من حيث دعمه وتطويره، ومن حيث تكبيله وشلّ فعله المعرفي خاصة.
لقد اعتبر طرابيشي الديمقراطية عملية مستمرة، تتضمن معاني التعلّم والتدريب والتراكم، كما أنها ليست عملية قائمة بذاتها، بل لها متطلباتها وشروطها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والمؤسسية. وبغض النظر عن المعاني المتعددة لمفهوم الديمقراطية، فإنّ المفهوم يدور بصفة أساسية حول ثلاثة أبعاد رئيسية: توفير ضمانات احترام حقوق الإنسان، واحترام مبدأ تداول السلطة طبقا للإرادة الشعبية، والقبول بالتعدد السياسي والفكري. والحال أنّ الديموقراطية هي بالتعريف» تداول السلطة من دون أن تتعداه إلى الاستيلاء على الدولة». والسبيل الوحيد أمام أي نظام إلى إصلاح حقيقي لنفسه هو إلغاء نفسه وردّ الاعتبار، كل الاعتبار، إلى الدولة التي يكون قد صادرها لمصلحته.
الديمقراطية هي قرار فرد مستقل وحر بنفسه وبتفكيره، ومستقل عن ركائزه الاجتماعية والأثنية والطائفية..إذا لم يولد هذا الفرد فصندوق الاقتراع سيتحول إلى ديكتاتورية عدد. لذلك قال» ليس صندوق الاقتراع هو وحده المعيار، والتحوّل الديمقراطي هو تحوّل في المجتمع، وإذا لم تتأسس علاقات ديمقراطية داخل الأسرة وفي سلك التعليم والعمل، وفي المؤسسات المختلفة فمن الصعب أن يصوّت الفرد بشكل ديمقراطي «.
إنّ الكثيرين في العالم العربي لا يدركون تمامًا ماهية العلمانية، ومدى أهميتها من أجل بناء مجتمع ديمقراطي على مستوى تحديات العصر. لذلك أكد طرابيشي ضرورة العلمانية، باعتبارها الحل للصراعات الطائفية والاقتتال المذهبي، والطريق المفضي إلى الخروج من حالة التردّي التي يعيشها العالم العربي.بمعنى عدم تدخّل الدولة في الشؤون الدينية لمواطنيها، بحيث تكون المواطنة هي أساس العلاقة بين الدولة والمواطن، مما يشكل ضمانة أكيدة لمساواة المواطنين ولتلاحم المجتمع، حيث تكون العلاقة بالوطن والدولة علاقة سياسية وليست علاقة دينية، قد تحد من المساواة السياسية بين أصحاب الديانات المختلفة.
إنّ الدعوة إلى العلمانية لا تعني، بأي شكل من الأشكال، الدعوة إلى الإلحاد، والانفلات من القيم والأخلاق، كما يحلو لبعض الباحثين أن يثبتوه من خلال رؤية ضيقة، وانحراف منهجي يبغون الوصول به إلى أغراضهم. فالإلحاد نفسه ‹›ذو مشارب متنوعة، واتجاهات مختلفة، والملاحظ أنه فردي، بينما العلمانية ظاهرة عامة تكاد تنتظم المجتمع بأكمله «.
دافع عن الرواية التاريخية وحملت رؤيته التّأويلية أبعادا جماليّة
د.وصال العش عزديني- جامعة صفاقس تونس
حملت كتابة جورج طرابيشي فكرا تنويريَّا وإبداعًا نقديًّا ومنهجًا تحليليًّا وفكرًا حرًّا وفعلاً قصديًّا لقضايا إنسانيّة. فكيف أنتج فكر جورج طرابيشي هذا التّأويل الشّمولي والجمالي في فنّ الكتابة؟
نكون في هذا المقام من النّظر، إزاء قصدين متجانسين وهما: قصد الكاتب وقصد القارئ؛ ولا يمكن أن نتفهّم هذه العبارة: «جماليّة الوجوه التّأويليّة»، إلاّ انطلاقًا من فعل القصد. ففعل القصد هو الّذي يُحيلنا إلى تجربة القارئ: أوّلاً، طرابيشي قارئًا لكاتب الرّواية. وثانيًا، نحن كقرّاء لطرابيشي. والقارئ في كلّ ذلك، هو مَنْ سيقوم بتعيين المقاصد الفنيّة في الرّواية. فالفنّ كما يقول الحكيم هو فعل «وفاء وحبّ وسحر» وهو أيضا فعل عطاء وديمومة وخلود وانبعاث... يحاول طرابيشي من خلال الحكيم مثلاً وغيره من الرّوائيين. وهنا يتجلّى الوعي الجمالي والنّقدي لمفكّرنا. وبالتّالي، يطرح طرابيشي مشروعه التّأويلي في رواية المازني، عبر تلك الرّؤية الرّوحيّة الجادّة، التي تتميّز بحضور المنهج السيكولوجي داخل جذور عالَمِ فنّ التّأويل في الرّواية وشخصيّة حياة الرّاوية وقدرة الإبداع الفنّي للشّخصيّات.
تتعيّن الكتابة للقارئ كفعل قصدي وتنفتح على معاني خصبة في الواقع، فترتبط بالنّقد الأدبي الذي يبقى في نظر طرابيشي «فنّا تطبيقيًّا». يحاول هذا الفنّ التّطبيقي، إلغاء كلّ ما يرتبط بإدراكاتنا الحسيّة الشّائعة. كما إنّ القول بتجذّر المعيش في الكتابة الأدبيّة، هو القول بتجربة الكاتب، المتقوّمة بالحضور الثّلاثي للأديب والموضوع والقارئ. إنّها تجربة تتجسّد أيضًا، كحضور نقدي وإنتاج جمالي، يسوّغ الخوض فيهما تحت إمرة الانفتاح على الواقع. ذلك أنّ المسألة موصولة برمزيّة الوصف ومقصديّة التّعبير وفعليّة الوعي في الكتابة الجماليّة.لكنّ «الجمالي، الذي يُقدم به القارئ على قراءة رواية كتبتها امرأة هو غير ذاك الذي يُقدم به على قراءة الرّواية بوجه عام بوصفها فنُّ رجال». تستند الكتابات النّسائيّة مثلاً حسب طرابيشي، إلى ثراء المشاعر وصدقها لأنّ الكتابة التي «تكتبها امرأة تستمدّ جماليّتها في المقام الأوّل من غنى العواطف وزخم الأحاسيس»، ومن الخبرة الصّادقة. يعتمد طرابيشي في سبيل تدعيم فلسفته هذه، على منهج البحث النّقدي التّحليلي والتّأثيري، من خلال رصد بعض النّماذج المختارة من النّصوص الرّوائية. إلاّ أنّنا نرتقي مع طرابيشي بالرّواية النّسائية الفاعلة والمختلفة. وما الرّواية النّسائية إلاّ ثراء مستمرّ للمعنى الذي لا يقف عند حدّ. في هذا الإطار، يذكر طرابيشي عدّة أسماء لامعة أمثال: نوال السعداوي وسميرة عزام... إنّ ذلك الانفتاح على قضيّة المرأة، كان الخطوة الأولى لممارسة وجه مختلف في الكتابة النّقديّة. لذلك انتقد طرابيشي بقوّة، تمثّل «المرأة المصوّرة في صورة موضوع جنسي» وكشف أبرع مقالب المجتمع الرّأسمالي، الذي يستخدم المرأة، فهي «تخدم الاستهلاك ثلاثا: إنّها تُشْتَرى، وتحضّ على الشّراء، وتشتري».)يصرّح طرابيشي بالقول: «أنّ العلم لا يستغرق جميع أنواع المعرفة، فالفنّ أيضًا نوع من المعرفة، وإن من طبيعة خاصّة». لا قطيعة إذن، بين الفنّ والمعرفة وبين الوجود والعالم وبين الفكر التّنويري والحلم العربي. فبقدر ما يتوسّع الحلم، تتأكّد قيمة العقل ويتحرّر الإنسان من جهلِه لذاتِه. يعبّر طرابيشي عن آرائه من خلال النّظر الاستشرافي للفنّ ومن خلال تبصّرٍ مرحٍ للمعرفة، تتجاوز حدود التَّجربة التّفسيريّة والعلميّة. تتجلّى هذه النّظرة داخل اشتغال التّجربة الجماليّة الرّوائيّة وتتجذّر معرفيًّا بأسلوب فنّي روائي.يدافع طرابيشي، على خصوصيّة الرّواية التّاريخيّة بقوله أنّها تتميّز بـ«وجهة نظر» ذاتيّة وتطمح في أن تكون «فنًّا» حتّى نتعقّل الحلم العربي ونستمتع بحُسن نظم الخطاب. لذا، فإنّ رهانه، هو الإبقاءُ على رصانة العقل وعمق الرّؤية والتحكّم في الحلم والدّربة على أنوار العقل. كما حلّل طرابيشي كلّ هذه الخصائص الأسلوبيّة في مفردات الكتابة الرّوائيّة وميّزها عن المُفردات التّاريخيّة، التي تقتضي نُزوعًا نحو الموضوعيّة، فحدّد السّبيلَ الذي على المؤرّخ انتهاجُه.
وفي الختام؛ ستظلُّ كتاباته أنموذجًا للفكر العلمي المكافح ومثالاً حيًّا للتصوّر الواعي للتّاريخ. فنحن إزاء وجوه متعدّدة من الرّؤى الجماليّة والتّأويليّة الثريّة، القصد منها إقامة أسس متحرّرة من الرّؤية الظلاميّة لأيّ خطاب وإقامة منهج تحليلي شامل للنصّ الرّوائي الرّمزي.
اسطنبول: عبد الرحمان خلفة