بختي بن عودة..مشروع الحداثة المجهض
حلت نهاية الأسبوع، الذكرى الـعشرين لرحيل بختي بن عودة، الذي سقط برصاص الإرهاب في ــ22 ماي عام 1995. ذكرى الغياب، كانت مناسبة، استعاد فيها أصدقاء الرجل ذكراه كلٌ بطريقته، فمنهم من نشر صوره على جداره بالفيس بوك، ومنهم من أعاد نشر مقالاته وأثره، ومنهم من خصص للذكرى مائدة من ندوات ولقاءات، كما حدث في جامعة تلمسان، حيث نظمت وخصصت، الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية –فرع تلمسان- وبالتعاون مع مختبر الفينومينولوجيا وتطبيقاتها، يوما دراسيا احتفاءً بفكر وكتابات الرّاحل. وجاءت الندوة تحت شعار «الكِتابة واستحالة الحِداد»، ونشطها مجموعة من أصدقاء الراحل من باحثين ومفكرين وأكاديميين.
بختي الأستاذ الجامعي والناقد والشاعر والمفكر الحداثي التنويري ولد عام 1961 بمعسكر، عمل بجريدة الجمهورية، وكان رئيس تحرير مجلة «التبيين» لجمعية الجاحظية، نشر مقالاته ودراساته وأشعاره ومقارباته في معظم الجرائد الجزائرية والعربية. صدر له كتاب «رنين الحداثة» عن منشورات الاختلاف، عام 1999 وهذا بعد سنوات من رحيله، كما طُبعت رسالته الجامعية التي تناولت فكر عبد الكبير الخطيبي.
«كراس الثقافة»، في عدد اليوم، وبمناسبة مرور عشرون عاما على رحيل صاحب «رنين الحداثة»، المثقف النوعي (1961–1995)، يحتفي بذكراه ويستحضره في هذا الفضاء، مع مجموعة من الكُتاب والمفكرين، وهم من أصدقاء عمره القصير، وزملاء فكره الممتد من جيل إلى جيل، رغم فداحة الغياب.
استحضار شخص بختي بن عودة في هذه الذكرى هو بث النداء لأحد الأطياف الجائلة بيننا. فارقنا لكنه لا يزال رفيقنا. جُملة الآثار المكتوبة أو المسموعة هي جُملة الآثار المطبوعة في مخيلتنا وبين أقلام كُتابنا ومفكرينا. لا يتعلق الأمر بالنظر في مآل إرث لم يكن له الزمن «المزمن» ليينع، ولكن فقط الوقت «المؤقت» ليصدع. إعتراف: هذا الإرث محدود بأبجديته، مضبوط بعباراته، لكنه مدوّي بأفكاره، حار ونافذ بصوره ومجازاته، عنيد بهمومه وبحوثه، وهو القائل في إحدى نصوصه: «في طريقكم إلى الخلخلة، فتشوا كل مقروء!». تعريف: إنه إرث لا ينام على اليقينيات، لا يكتفي بالبديهيات، لا يكترث بالبرّاق من الجماليات، بقدر ما يضع ثقته (بالوثيقة والوثاقة) في الخلاّق من الأفكار، في الحاسم من البحث، في الصارم من النقد والمساءلة. تعارف: إنه إرث لا يضع مجالاً لمثقف يُحسن تزيين الكسل أو العبث، أو يجعل من حقيقتـه، الـحقيقة الدامغة، في استبعاد مشين لكل ألوان الاختلاف كألوان الطبيعة ذاتها.
ما تبقى من هذا الإرث؟ الأثر. المفقود والموعود معاً، الغائب والحاضر في آن. عندما نعيد قراءة هذا الأثر بين بطون الكِتابات، في شكل مقالات أو حوارات، نُدرك الخُلقية التي تحلى بها بختي في إيصال أمانة الكتابة إلى الأجيال اللاحقة. فهي مبادرة تجمع بين الخُلُقي والجمالي، ومن يتحلى بالشيء، فهو يحمله كالحلي ليتزيّن به، لأنه في الوقت نفسه التزام ووسام. إنها بالضبط الكتابة التي تحلى بها، والتي تجلت بشكل بارز في أقواله وأفعاله، لأن أقواله كانت بالضبط أفعاله. كانت كتابة أدائية (performative)، تفعل ما تقوله، تتزيّن بما تتخلّق به، وكان هذا سر نجاحه وقوته النظرية والأسلوبية. الكتابة، بهذا المعنى، بهذه الصورة، بهذه النبرة، هي الكتابة الجامعة لكل الخصال الجمالية والخُلقية والتداولية.
ثم ماذا؟ إنها كتابة ضدّ الكتابة -الكآبة، ضدّ الكتابة- النعرة، تلك التي نعتها في إحدى نصوصه بالانسحاب، ولنقل الانسحاب الشاحب، كتابة باردة ويابسة، لم تعُد تفعل ما تقوله، سوى تزيين أركان النصوص بأرائك من العبارات الفخمة أو الجافة، تبعاً للطبائع والأمزجة، كتابة لا تقول ما هي الثقافة، التاريخ، الدين، السياسة، الحكم، في الجزائر-القارة-، بكل أبعادها الجغرافية والتاريخية والألسنية المتنوّعة، بكل ألوانها الرمزية وأطيافها البشرية. لم تختر هذه الكتابة سوى الرمادي لتطبع به الأوعية والقوابل. نسينا أن في ثقافتنا هناك الألوان والتوابل، بين الشمال الأخضر والجنوب الأسمر، بين الشرق -الجبال والغرب -السهوب، نسينا أن ثمة الألوان، لكن الكتابة -الكآبة- النعرة أبت إلا أن ترى الرمادي في واحدية مجحفة، أحادية مقرفة، أحدية قاصمة: عمى الألوان!.
إلى أين؟ العلل التي فحصها بختي عديدة وحددها في العناد المدهش لدى القالب الجزائري في درء التغيير سوى ما تسمح به القشور والروتوشات الطفيفة. تبقى النواة الصلبة، الأحادية والعنيدة، الراسخة والعتيدة، بمعزل عن هتافات التغيير ودواعي الاستشراف، لأنها تتكئ على مجموعة من القناعات وقد تحوّلت إلى أقنعة، تقوم على حرير من اليقينيات شبه المقدسة، في السياسة كما في الثقافة. ومن وراء هذا الاقتصاد الرمزي في الشيء السياسي، ثمة التجارة المربحة في الشيء الهووي، الثقافي أو الديني. هنا يُدرك بختي صعوبة تغيير الراسخ والمتجذّر، لأنه في عداد الممتنع والمتعذّر، له قوانين وبروتوكولات، حُراس ومعلّبات، قابلة للتسويق بالقَسَم الأصم الأبكم.
لِمَ لا؟ عمل بختي على رسم الخطوط العريضة لسياسة الحقيقة «والعبارة هي لميشال فوكو» لا تقول كيف نجابه العناد بالعناد، ولكن كيف نبني رؤية يتغيّر بموجبها العالم، كيف نغيّر اللغة التي تؤثّر في العالم، وكيف حدود هذا العالم هي حدود اللغة التي نتداولها في المدارس والمحافل. تغيير العالم «عالمنا نحن» مشروط بتغيير اللغة «لغتنا نحن»، وليست اللغة هنا الهيكل الأبجدي أو مدوّنة الكلمات والأشياء، ولكن خبايا التمثلات والمستعصي من التصوّرات. عندما تُحدث اللغة ثورة رمزية في ديارها الذهنية «العلمية، الأدبية، السياسية، الفلسفية، الدينية»، فإنها تجعل العالم المحيط بها قابلاً للارتقاء إلى عتبات جديدة من الجدّة والفرادة والحداثة. هل نتفاءل؟ فقط نتفاعل. وكأني بهذا اللفظ هو الجاري على لسان بختي في كل طموحاته ومشاريعه.
لم أعرف بختي بن عودة في حياته عن كثب كبعض الأصدقاء، وإن كنت قد التقيتُ به مرَّة –فيما أذكر- على هامش ملتقى أدبيّ في وهران كان يُشرف هو شخصيا على تنظيمه والسَّهر على إعطائه لمسة إبداعية خاصة من خلال الشِعار والمحتوى ونوعية الحضور. وكان من الميسور أن يجدَهُ الواحدُ منا يتحدث عن هيدغر وديريدا ونيتشه وأدونيس والخطيبي والحداثة والتراث وأزمة العقلانية الكلاسيكية وفتوحات الكتابة بنوع من الشغف والبصيرة التي تُنبئُ عن اطلاع مُحترم في حقول الأدب والفلسفة النقد. لقد كان شابا نشطا مسكونا بهم المعرفة، ومؤمنا بالفعل الثقافي النوعيّ الذي بإمكانه أن يفتح أفقا لوعي المُشكلات واستيعاب إيقاع المرحلة محليا وكونيا. ولكنَّ هذا الأمر لم يكن مجانيا أو نتاجا للصدفة بقدر ما كان نتاجا لجهدٍ استثنائي على ما يبدو. فبختي يوفر نموذجا في هذا المجال من خلال تلك الألمعية النادرة المُتمثلة في القراءة والاطلاع والمُتابعة بغية امتلاك مفاتيح اللحظة في تحولاتها الكونية التي شهدت انهيار منظومات الفكر الشمولية والانفتاح على الاختلاف والتعدد وتلاشي المركزيات. لقد كان بختي –في كلمة– ابنًا لمرحلةٍ أعلت من شأن النقد على حساب الغنائيات الإيديولوجية التي أسرت بخطابها المُغلق أجيالا مُتعاقبة من المثقفين في الجزائر والوطن العربيّ.
ربما كان من المُفيد أن نتحدَّث عن الراحل ضمن السياق التاريخيِّ الذي شهدَ انبثاقه باعتباره مُثقفا نقديا مُختلفا. إذ يُمكنُ التأريخ لميلاد بختي بن عودة بنهاية مرحلة الشمولية الإيديولوجية والأحادية الحزبية عالميا ومحليا. فهو صوتٌ فكري جزائري بدأ يجهرُ بمشروعه النقدي الفتيّ مع انهيار المنظومات الشمولية وبداية انسحاب المُثقف الثوري التقليدي تدريجيا من المشهد مانحا حقَّ الكلام والتدخل لوجهٍ جديد: أعني المُثقفَ النقديَّ الذي تجاوز التبشير باليوتوبيا إلى تفكيك بنيات الهيمنة ونقد المركزيات ومُراجعة آليات العقل الإيديولوجي الإمبريالي، مُنفتحا على قضايا الاختلاف والمُغايرة والتعدد والدخول من جديد في ليل المعنى والحياة. بدأت إطلالة بختي الجميلة المُدهشة، بالتالي، تلقي بألقها في مشهدنا الثقافيِّ والإبداعيِّ منذ تزحزحت سيادة ماركس لصالح المنارات الجديدة -كفوكو وديريدا وإدوارد سعيد ومحمد أركون- والتي مثلت مرجعيات لجيل كامل من الشباب المُنتفض ضدَّ يباس الحياة واحتكار المعنى وتصلب شرايين اللغة في بداية عهد تلاشي اليوتوبيا.
لقد أدرك بختي، جيِّدًا، دبيبَ اللحظة العولمية الجديدة محاولا احتضانه –ولو بصورةٍ تتميز بنوع من العنفوان غير المُسَيطر عليه– وهو يكشفُ عن سديم الواقع ويهجرُ مخدعَ المرجعيات الشمولية. وأعتقدُ أنه كان على وعي تام بحلول عهد البداياتِ السعيدة لانفلات المعنى من مُحاولات اعتقاله في القمقم الإيديولوجي.
هذا كان يعني –بصورةٍ عامة– الانفتاحَ على السؤال الوجودي والكياني والحضاري مُجدَّدًا من خلال طرح قضايا الحداثة على العقل السياسيِّ والدولة الوطنية من منظور يتجاوز سيادة النسق إلى التفكيك وقد أصبح يقظة فكرية وتاريخية تفتحُ الوعيَ على رعب المرحلة وتحولاتها وتحدياتها. كما كان هذا الأمرُ، أيضا، مدعاة لإعادة النظر في مفهوم الكتابة التي كان لها أن تلتقيَ بما نسيتهُ، لعهودٍ طويلة، من فضائل التجريب والمُغامرة واستراق السَّمع إلى دبيب السَّديم الأصلي وقد استعاد صوته، بصورةٍ مُلفتة، بعد نهاية عهد المنظومات الشمولية التي طالما انتظرت «غودو» وصباحات موعودة بالغناء قيل إنَّ الخرس أدركها.
لقد كان اغتيال بختي بن عودة قبل عشرين عاما فاجعة لكل المُثقفين الجزائريين المُؤمنين بإمكان التحول الذي يستثمرُ في العقل والإبداع وأسئلة المُستقبل بروح منفتحةٍ على الكونية. وكان هذا الأمرُ، أيضا، مُؤشرًا على فقدان البوصلة في جزائرَ لم تُحسن الانتقال إلى الديمقراطية والتعددية، وعرفت انفجارَ المكبوت الهوياتي والأصولي الذي أجلت يقظتهُ المُرعبة المرحلة الأحادية الفاشلة على أكثر من صعيد، لينفجرَ بعد ذلك بفعل ألاعيب السياسة والمُغامرات المعروفة التي كلفتنا الكثير. ولكنني أراني مُلزما، هنا، أن أقول إنَّ القيمة الفعلية لبختي –على ما أرى– لا تكمنُ في إنجازه بقدر ما تكمنُ في أسئلته، ولا تكمنُ في المتن النقديِّ الذي تركه بقدر ما نعثرُ عليها في النموذج الثقافيِّ الذي مثله: أعني المُثقفَ النقديَّ الجديد الذي احتضن مرحلتهُ مُتجاوزا «السبات الإيديولوجي» كما يُعبِّرُ علي حرب. ليس بختي تراثا للتأمل، إنه وعدٌ بالعبور إلى كينونة تاريخية تجعلنا فاعلين على مسرح العالم حيثُ يتبادل المعنى والقوة الأقنعة.
أسمع صلصلة في ثقب باب الغياب، شيء ما يُراق من فوق الأبدية، كالزلال يهطل الرُّشد والنبوغ على هيئة وميض من طابق الهزيع الأخير من عمارة «سان ميشال» في عقر المخيال الذي يستبق وهران، أشم رائحة الكلام ونتوءات تغتسل بالدلالة والقلم المبرور، هل للحداثة رائحة تلك التي جرّدت أيقونة الوقت من الانتظار وحفرت في قلب «الوِهرين» القابعين في مدخل نص العذوبة ميتافيزيقا الأزرق والمكر المنّمق بالأسئلة، حانوت الظلام.
هِجرةُ الفكرة نحو مجسّات اّلرجاء والانفتاحات، أسمع صرير الأشياء في الفقد المقدس وقرطاسية تتضوع جوعا لم يعد بختي يُطعم فاهها الأبدي بالنّحت في المستحب وصقل المرآة التي قالت له ها أنا ذا فراشة الرُّكح.. مسكونة أنا باسمك، باللاهوت، وبالحتف نحو الأعالي التي تشتهي نزق «شارع العربي بن مهيدي» مرورا بــ»الكاتيدرائية» التي حولته بنورها نوتاردام الغواية نهشت بزركشاتها الغياب، عشقها الذي نذر نهاراتنا الباردة للشمس وثقافة البحر الذي ظل أمدا يقيم خارج ملوحة القدر والمشيئة ورجاء المدينة الثكلى بالوجع المقيم، سربه الأبهة نورس الفجيعة والكائن الباسق بالراحلين وأمجاد العطر والنسق المجنون. بختي الذي تجاوز ماهية المطلق عن البدايات والنهايات، عن النّسب والتّاريخ وحرفة الدّم في أعماق الفكرة، عن البعيد الذي يتوارى في أعقاب القرب، وعن مكنون الأزمنة المتعاقبة في عفن السّهو، وعن الآخر والثقب الذي يسبق المعنى على شاربه يديره بإصبعه لتدور معه مجراته العارية وسلاسة النّجوم، ثم ها أنا أكتفي بضحكة قاسية كتلك التي كنا نطلقها حينما نسمعك تتحدث بلغة تتخطى معرفتنا بسنوات وأعوام من الضوء ربما. لنبكي الآن قليلا أنماطا من حكمتك الضالة وهُتاف خاتمك الذهبي البراق في أزلية وحدته. ها قد عاد صراخ الرصيف بتشرده يمخر القلب، رامبو التيه والنزق يسكن هبوبك في صحراء الاشتياق لتجردنا من حياتنا المذمومة لتلملم فينا البقاء المشتهى، لترتب الفراغ بيدين من هروب، لتلقي التّحية والّسلام وتبقي الزّكيات على رفوف بختي الطازجة بالحلم والمليئة بالرياح الجنوبية وفسحة ترعى فيها الدهشة وسحر «ميشال فوكو» بنبوغه بالقرب من مدارج الرهبة الممكنة والتنبؤات وعدم الاستسلام لعشب الرتابة، سبق سيف التجليات في وضوحات بختي بن عودة عدل اللغة حينا ووحي الأشياء و»جاك ديريدا» حينا آخر، بختي فانوس تـنوس حوله الأسئلة واللاممكن. يمضي الزّمن مجردا من الأنا المصابة بتضخم الذكرى المريرة ولطخة دم في مقتبل الدهشة، ويبقى الاغتيال هتك آخر يطال سماءً باذخة باحتمالات اليقظة وحرائق البحر.
كيف ذهب بختي فجأة وترك كل هذا الكون يعيد تفكيكه من جديد وترتيب نمطية الخلق في أزرار القميص الذي يتبرأ من ذئب الوطن ورثاءنا للمجد بقصائدنا البالية؟.
بختي بن عودة خالد أنت في الأبدية، أخبار المعمورة لا تُطمئِنُ شجن يحتاج لقراءتك النبيلة، فإن كنتَ قد مت مرة ميتة النبلاء والأشراف والقدسيين والعُشاق فنحن يا صديقي في كل يوم نموت مرتين ميتة باردة وبفراق لا يُطاق.
لم يكن بختي بن عودة متفلسفا بالمعنى الأكاديمي أو المهني للكلمة بقدر ما كان يحسن توظيف المفاهيم الفلسفية والأدوات النقدية التي تتيحها الفلسفة لفهم وتفسير إشكاليات المجتمع الجزائري. لهذا جاءت كتابات بن عودة كلّها في شكل مقالات صحفية لا تخلو من مرجعيات نقدية وفلسفية، وكانت تلك إستراتيجية ذكية منه يتجاوز بها الطريقة المدرسية التي كانت تُجترُّ بها الفلسفة الجامعية، كما يتجاوز بها الكتابة الصحفية الإنشائية والخالية من أية خلفية فكرية والتي كانت منتشرة أيضا.
كتابات بن عودة كلّها عبارة عن بيان متشظّي للحداثة والتنوير وقيم التعددية والاختلاف الذي تفجّر لدى جيل أكتوبر 88، بيان لا يخلو من أبعاد نظرية ونقدية تستمدُّ أساسها الفلسفي من فلاسفة الاختلاف مثل جاك ديريدا ورولان بارت وميشال فوكو وجيل دولوز، هؤلاء الذين استهوت قراءتهم بن عودة واختمرت أفكارهم فانعكست في كل نصوصه. كما استلهم أيضا نصوص المفكرين المغاربة الذي كانوا قد قطعوا شوطا طويلا في التأسيس لفلسفة الاختلاف وعلى رأسهم عبد الكبير الخطيبي ومحمد بنّيس والجابري وكيليطوّ... بالإضافة إلى علاقاته مع كِبار الكُتاب والمثقفين في مدينة وهران وبقية المدن، لقد كان القلب النابض لكل جيله.
ينتمي بن عودة إلى ذلك الجيل من المثقفين ممن قدّمتهم آلة التاريخ الجهنمية قربانا في صراع عدمي بين الجبابرة، جيل بن عودة وعلّولة ومجّوبي وجيلالي اليابس وغيرهم كثير كانت خطيئتهم الوحيدة أن قالوا لا للرداءة ولا للشمولية والأصولية العاتية التي أتت على الأخضر واليابس، ولو لم تُحسب الضحايا بالأرقام لقلنا أن خسارة هؤلاء كانت أفدح الخسارات قاطبة.
حياة بن عودة كانت دراما لا تقّل مأساوية عن موتته الفاجعة، ينحدر من أسرة بسيطة، عاش فقيرا، تنقّل في العمل بين الصحافة من جريدة إلى أخرى ثم استقر في العمل في المركز الثقافي بوهران برتبة عون يقول كل أصدقاؤه الأحياء. أعتقد أن أقلّ ما يمكن أن نؤدّيه حيال ذكرى بن عودة هو انجاز فيلم سينمائي عن حياته وموته، وأن يحتفظ المثقفون والكتّاب بحلمه ورؤيته للعالم والمجتمع الجزائري.
تحمل الثقافة الجزائرية الكثير من الرموز وتتمركز خاصة حول: «الرأسمال الديني» الذي يشكل موروثا، ورافدا جوهريا يعبر بقوة عن تصور أنثروبولوجي للعالم والحياة، ومن بين هذه الرموز نجد رمز «الأضحية»، نقصد التضحية بكبش العيد وبكل ما ترافقه من طقوس. ولقد كان «بختي بن عودة» أضحية على هيكل الإيديولوجيات في الجزائر، هذه الإيديولوجيات التي لا تحسن الحوار والإصغاء وتكتفي بثنائيات التهميش والإقصاء، وفي أقصى جنونها تقوم عمليات التصفية الجسدية لإسكات الأقلام المخالفة لها، لكنها إيديولوجيات حمقاء لا تعلم أن دفن الجسد لا يعني دفن الفكر، وأن قتل الآخر يعني قتل شيء ما في ذواتنا، فما الآخر إلا جزء من الأنا. إن المؤسف في الجزائر هو إننا ما نزال لم نتعلم فن الإصغاء واحترام المختلف، نبحث عن نمطية في كل شيء، منطقا يسعى لوضع كل البشر في قالب واحد، لم يدرك الإنسان بعد «أخلاقيات الحوار الكونية» واحترام الرأي الآخر، إن «بختي بن عودة» هو «أيقونة» لقتل المبدع المتفرد عن القطيع.
يقول «بختي بن عودة» في كتابه «رنين الحداثة»: «إن الفلسفة تظهر من رحم الأزمة»، وهي المقولة التي لطالما رددها الفيلسوف الألماني «فريديريك هيجل» حين ربط ظهور بومة «المنيرفا» (رمز الحكمة) بوقت الغسق، أي بعد نهاية اليوم وسقوط الظلمة، مما يجعلها تأتي متأخرة حين انتهاء الحدث، لكن هذا الاكتمال يمنحها صورة متكاملة وشاملة عن القضية، فرغم وجودها وسط الظلمة والأزمة، إلا أنها تنبثق كالنور المتوهج المنير لطرب «الإنسان الحائر». لقد توقع «بختي بن عودة» أن تنبثق الحكمة بعد العشرية السوداء، بعد تلك المرحلة الجهنمية التي لم تبقي ولم تذر، مما سيدفع «الناجي» ليتدبر ويعيد التفكير فيما حصل ولماذا حدث؟، فلا يمكن أن تحل الكارثة دون أن تدفع «الإنسان المأزوم» إلى محاولة «إعطاء معنى للموت» تماما كما كان يعطي معاني للحياة، وفي مرحلة البحث عن المعنى يوظف «الباحث» كل الأدوات المنهجية الممكنة، تماما كما فعل «بختي بن عودة» الذي لم يتوان في الاستفادة من مذاهب ومناهج فلسفية عديدة، كعودته إلى التحليل النفسي أو إلى الفيلسوف الفرنسي «جاك ديريدا»، إنه الدرس الأساسي الذي نتعلمه من «بختي» الحفر والتنقيب عن الذات في عمق التجربة الإنسانية الكونية.