ما هو دور مخابر ومراكز ومؤسسات البحث العلمي على مستوى الجامعات في الجزائر، هل من دور محدّد ومُسطر يجب عليها القيام به؟، أيضا كيف هو واقع وحال وأداء هذه المخابر؟، وهل بالموازاة مع تزايد عددها الملحوظ كلّ عام، هناك تطور وجودة وإجادة في نوعية ما تقوم به وما تقدمه للحياة البحثية والعلمية والإنسانية والثقافية وغيرها من مجالات الحياة والعِلم والعلوم؟. ماذا أيضا عن سياسة البحث العلمي في هذه المخابر، هل واكبت وتيرة سياسات مخابر البحث المنتشرة في مختلف جامعات العالم، ووتيرة انتاجاتها المعرفيّة، أم ظلت أسيرة حيزها المحدود الّذي لا يذهب بعيدا في تطوير القطاع الخاص بالبحث العلمي والإنتاج المعرفي؟.
"كراس الثقافة" في عدد اليوم، يفتح ملف «مخابر البحث العلمي في الجامعات الجزائرية» مع مجموعة من الأساتذة/الدكاترة الأكاديميين والباحثين ومدراء مخابر.
استطلاع/ نوّارة لحـرش
ففي الوقت الّذي ترى فيه الدكتورة آمنة بلعلى، أنّ الكثير من المخابر لم تستطع أن تؤدي الدور المرجو منها، وذلك لتحولها إلى ما يشبه دور النشر، وأنّها أصبحت فضاءً لصراعات شخصية، وخصومات لا حصر لها. وأنّ أكثرها مجرّد هياكل بدون روح.
يرى الدكتور سفيان زدادقة، أنّه يجب القيام بوضع استراتيجية واضحة للبحث لا تقصي أي ميدان معرفي، كما يجب مُراعاة خصوصية كلّ ميدان ووضع الميكانزمات المُلائمة لتطوير البحث وتشجيعه، بعيدا عن البهرجة وسياسة البريكولاج. من جهته، يرى الدكتور حصيد، أنّ الإشكال الحقيقي يكمن في عدم وجود إرادة حقيقية ورؤية سياسية واضحة في جعل المسألة العلمية، وقيمة البحث، ونتائج المعرفة في صميم استراتيجية التنمية الوطنية.
أما الدكتور عبد الملك بومنجل، فيقول إنّ المخابر العلمية لا تنتج إلاّ في ظل منظومة واعية. وأنّ هناك الكثير من العوائق الحقيقية في طريق أداء هذه المخابر والمراكز.
كما يرى الدكتور بوادي، أنّ آفاق هذه المخابر العلمية رهينة الواقع السياسي والثقافي والعلمي الّذي لا يشجع كثيرا على الإبداع والابتكار لكونه لا يوفر الشروط الموضوعية المناسبة لاشتغال هذه المخابر ولكثرة العوائق التي تحول دون تحقيق أهدافها.
آمنة بلعلى/ ناقدة وباحثة أكاديمية ومديرة مخبر تحليل الخطاب -جامعة مولود معمري- تيزي وزو
أغلب المخابر لم تع الدور الحقيقي الّذي أُنيطت به
يعتبر إنشاء المخابر في الجزائر إحدى الآليات المُهمّة التي اعتمدتها وزارة التعليم العالي في التخطيط لترقية البحث وتطوير التكنولوجيا، بعد ما كانت الأولوية في الجامعة، ولعقود خلت، مرتبطة بالعمل البيداغوجي وإنتاج الكفاءات التي كانت المنظومة التربوية والتعليمية بحاجة ماسّة إليها في التدريس.
وبعد ما تمّ إنشاء المديرية العامة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، عدّ إنشاء مخابر البحث جزءا من استراتيجيتها، التي قامت في بدايتها على تأمين الجانب الكمي، فشهدت كلّ الجامعات إنشاء مخابر بحث، أوكلت إليها مُهمّة الإسهام في ترقية البحث وتطويره، وعملت على جعل الأساتذة ينخرطون في سياسة البحث العلمي الجديدة التي ترتقي بهم من مجرّد مدرّسين إلى باحثين يعضدون العملية التعليمية، وينتجون الأفكار ويقترحون الموضوعات التي تسهم في ترقية البحث.
غير أنّ هذه الخطوة، لم تكن بالنسبة لهيئة التدريس الجامعي وباحثي الماجستير والدكتوراه آنذاك، سوى إعادة هيكلة شكلية، لم تستطع تغيير السلوك العلمي للأستاذ والطالب، اللذين تعوّدا على نمط مُعيّن من البحث القائم على التعامل المُباشر مع الكتاب، في حين كانت الأهداف التي سطّرتها الوزارة تسعى أساسًا إلى خلق عقل علمي جديد، يعد النشاط داخل المخابر جزءا من تحويل السلوك البحثي في الجامعة ليصبح أكثر واقعية، وارتباطا بتطوير سياسة البحث العلمي في الجزائر.
لم يتم استيعاب هذه الرؤية التدبيرية والاستراتيجية التي كانت تسعى الوزارة لتحقيقها في الميدان، ولذلك نجد أنّ جلّ المخابر التي أُنشئت منذ سنة 2000 وإن عملت على جعل الأساتذة والطلبة الباحثين ينخرطون في سياسة البحث العلمي الجديدة بالتكتل داخل هيئات المخابر، وإنشاء مشاريع بحث تصب ظاهريًا، في نفس الأهداف التي أُنشئت من أجلها المخابر، فإنّها لم تكن سوى عمليات استبدالية كادت أن تلغي الانتماء التقليدي للمعاهد والأقسام، دون أي تحول في النموذج البحثي التقليدي أو حتى تعديله، ولم يكن مُصطلح مخبر البحث الجديد سِوى وسيلة تسمية جديدة استقبلت مفرغة من أي معنى جديد، وساهمت في الحفاظ على الحالة السابقة بخلق تكتلات ساهمت في إيقاظ صراعات وهمية بين الباحثين.
وعلى الرغم من الدعم المادي الكبير الّذي وفّرته الوزارة لإنشاء المخابر وعمليات تجهيزها وتسييرها، فإنّ أغلب المخابر، إن لم نقل كلّها، لم تع الدور الحقيقي الّذي أُنيطت به ولم يستوعب الباحثون هذا النمط الجديد من عملية تنظيم البحث داخل الجامعة، لذلك لاحظنا مخابر تنشأ بفرق وهمية، دون متابعة ولا تقييم يُذكر، وقبلت الوزارة هذا الوضع لتحقيق معيار الكم الّذي كان ضرورة في مرحلة معينة من إستراتيجية النهوض بالبحث العلمي في الجزائر، وكان لهذه السياسة بعض النتائج الإيجابية وخاصة في مجال النشر حيث تمّ إنشاء مجلات لنشر البحوث، ساهمت في تلبية شروط المناقشات والترقيات فيما بعد، كما أسهمت في تنشيط الجامعات بتظاهرات علمية وطنية ودولية من خلال إقامة ملتقيات وندوات، كان لها الدور الكبير في ربط هذه المخابر بمراكز بحث في جامعات وطنية ودولية، وأصبحت المخابر وسيلة لإشباع حاجات اجتماعية بدل المشاركة في تحقيق إصلاح البحث العلمي.
اتجهت الوزارة الوصية في مرحلة ثانية إلى محاولة ربط نشاط المخابر بمؤسّسات الإنتاج وانفتاح الجامعة على المجتمع بإحداث شراكات اجتماعية واقتصادية، من خلال إنشاء مشاريع بحث وطنية، وقطاعية تسير بالموازاة مع وتيرة النشاط البحثي والعلمي الّذي تكفّلت به المخابر، وبدأ يُنظر إلى مخابر البحث بمثابة مكاتب دراسات تسهم في إنتاج الأفكار، وفي تطوير البحث العلمي عن طريق براءات الاختراع، غير أنّ الكثير من المخابر لم تستطع أن تؤدي هذا الدور المرجو، وذلك لتحول هذه المخابر إلى ما يشبه دور النشر، ولم تستطع أن تكون مُنتجة، نظرا لعزوف الباحثين عن العمل المُشترك، فلم يكن يهمّهم من مشاريع البحث سوى ما يدرّه عليهم من مقابل مادي، كما لم يكن يهمّهم من انتمائهم إلى المخبر سوى نشر مقال في مجلته ليناقش به أطروحته، بل إنّ المخابر أصبحت فضاء لصراعات شخصية، وخصومات لا حصر لها، لتفسح المجال إلى التنافس في إنشاء المخابر بدل التنافس في اكتشاف آفاق بحثية جديدة، وتعبيد طُرق جديدة للباحثين المبتدئين لينخرطوا في الأنشطة الداعمة للعمل البيداغوجي، بإنشاء فِرق بحث حقيقية وروابط مع تجمعات علمية خارجية من أجل تطوير المعرفة في الجامعة.
لقد لاحظنا انفصامًا كبيرا بين أهداف البحث العلمي مثلما تنصّ عليه قوانين إنشاء المخابر ومراكز البحث، وواقع انشغالات الباحثين الذين لم يتمكّنوا من الانخراط في حركية إنتاج العِلم والوعي بطرائق تدبير البحث في العالم المعاصر، والاهتمام بموضوعات تسدّ الفجوة العلمية بينهم وبين الباحثين في العالم، ويمكن الاستدلال على هذا الأمر من خلال التصنيفات الدورية للجامعات في العالم، والغياب الكلي للجامعة الجزائرية، بل إنّ المجلات الكثيرة التي تمّ إنشاؤها في مخابر البحث، تمّ استهجانها، وحظرها من مُداولات التأهيل والترقية، لتعكس نوعًا من الردّة في سياسة البحث العلمي والإنتاج المعرفي.لا شك أنّ هناك مسؤولية مشتركة في سوء تدبير مقاصد البحث العلمي في الجزائر، ترتبط بالدرجة الأولى بسياسة البحث العلمي، التي لا تزال تتعثّر أمام أهدافها، فهي لا تزال تحتفي بالكم على حساب الكيف، وتعمد إلى إقصاء البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية، وتستورد المناهج والتجارب، وتغيّرها باستمرار، ولا تؤمن بأنّ التطوير يستمد قوّته الدافعة من الداخل، وأنّ الأساس في تطوير البحث هو المساهمة في تكوين الباحث الحقيقي الّذي يسعى لكي يكون كائنًا معرفيًا، وليس مجرّد مُستهلك يرى في الجامعة أو المخبر مجرّد مستودع لما يمكن أن يستهلكه .وأمام غياب تسوية حقيقية لإشكالية البحث العلمي في الجزائر تبقى مخابر البحث مجرّد هياكل بدون روح، ليست سوى تسويات عابرة يشوبها الكثير من الخلل، فما زلنا نفتقد القدرة على تحديد الأولويات، لأنّنا ما زلنا لا نعرف ماذا نفعل.
محمّد بوادي/ مدير مخبر معجم المصطلحات اللغوية والبلاغية في التراث العربي -جامعة سطيف2
رهينة واقع لا يوفر الشروط الموضوعية المناسبة
تُعدُ مخابر البحث العلمي من التنظيمات العلمية الحديثة على مستوى الجامعات الجزائرية، شهدت انتشارا كثيفًا في الآونة الأخيرة بكلّ جامعات الوطن، لِمَا لها من أهمية بحثية علمية تتركّز في إنتاج البحوث العلمية النظرية والتطبيقية. إنّ المخابر العلمية كيانات تنظيمية علمية تهتم بالبحث العلمي استيعابًا وتقويمًا وإبداعًا، تُساهم في إعداد الكوادر العلمية والكفاءات والإطارات من الباحثين والخبراء، فهي تؤدي وظيفتين رئيستين: وظيفة بيداغوجية تتمثل في: (تكوين طلبة الماستر والدكتوراه)، ووظيفة علمية بحثية تتمثل في إنتاج المعرفة وتشجيع الإبداع والاختراع.
كما تعمل المخابر على تنشيط المشهد العلمي والثقافي داخل الجامعة وخارجها من خلال إقامة الندوات والملتقيات العلمية ذات الصبغة الوطنية والدولية، والتي تسمح بتلاقح الأفكار وإذكاء النقاش العلمي المُثمر المُوجه لبناء وعي علمي وإنتاج معرفة علمية.
كما تُساهم المخابر العلمية في تزويد مُؤسسات المجتمع على اختلافها: بالأفكار الصحيحة الفعّالة القادرة على تصحيح الخلل وتجاوز الراهن السلبي. بالطاقات الفعّالة الناجحة القادرة على قيادة المجتمع وتوجيهه نحو أهدافه. وبالمشاريع الاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية وحتى السياسية.
أمّا عن واقع وآفاق هذه المخابر العلمية فهي رهينة الواقع السياسي والثقافي والعلمي الّذي لا يشجع كثيرا على الإبداع والابتكار لكونه لا يوفر الشروط الموضوعية المناسبة لاشتغال هذه المخابر ولكثرة العوائق التي تحول دون تحقيق أهدافها.
فيصل حصيد/ كاتب وباحث أكاديمي -جامعة باتنة 1
المخابر على كثرتها لا تتوفر على الشروط الموضوعية للبحث العلمي
أولاً لابدّ من التنويه بأهمية الموضوع الّذي طرحتموه على جميع الأصعدة العلمية، والإقتصادية والسياسية. أمّا ما يمكن قوله، فإنّ دور ومهام مخابر البحث مُحدّدة في المرسوم التنفيذي 99-244 وهي متنوعة وثرية وتستجيب لمعظم حاجيات المجتمع والدولة: العلمية والاقتصادية والاجتماعية، من حيث تطوير البحث وتثمين المعارف، وتقديم القيمة المُضافة على السلع والمنتجات والخدمات، والمساهمة في التنمية الوطنية. هذه الأهداف على نبلها وأهميتها لم يتبعها تأطير قانوني مُحكم، وسياسي جاد. فالمخابر في الجامعة الجزائرية على كثرتها وتنوعها، لا تتوفر على الشروط الموضوعية –حتى لا أقول المُثلى- للبحث العلمي بداية بظروف العمل الأساسية كالمقرات فهي إمّا غير متوفرة وإمّا غير لائقة في الغالب، وقد تجد مكتبا لتنظيم طلابي أو نادي للشطرنج في الجامعة أفضل من مخبر بحث. ثمّ إنّ البحث العلمي نشاط لا يقوم فقط على الباحث وإن كان هو دعامته، بل يلزمه أعوان بحث من إداريين وتقنيين ومخبريين وغيرهم. لكن الواقع الحالي جعل من مدير المخبر خاصة، هو المُسير، وهو عامل النظافة وهو الكاتب، وهو المحاسب، وهو المخبري...إلخ، لكنّه مع الأسف ليس الآمر الرئيسي لصرف ميزانية مخبره التي تتحكم فيها مصالح أخرى لا علاقة لها بالبحث إلاّ من حيث هي هيئات بيروقراطية رتيبة وقاتلة لروح المبادرة.
ويبقى الإشكال الحقيقي هو عدم وجود إرادة حقيقية ورؤية سياسية واضحة في جعل المسألة العلمية، وقيمة البحث، ونتائج المعرفة في صميم إستراتيجية التنمية الوطنية. وإلاّ كيف نُفسر اعتماد مخابر وتخصيص ميزانيات يقولون عنها أنّها مُهمة ثمّ تتعاقد الهيئات والوزارات مع مكاتب دراسات أجنبية لطلب مشورة أو خبرة يمكن أن يقوم بها أبسط مخبر عندنا وبأفضل مِمَا تقدمه المخابر الأجنبية وبتكلفة أقل؟ لكنّنا لا نثق في إطاراتنا أو أنّنا نعتبرهم لا يستحقون الأموال التي يأخذها غيرهم؟ وهنا يُطرح أيضا مشكل التعويضات المقدمة للباحثين، حيث لا يتقاضى مدير المخبر ولا رؤساء فِرقه ولا الباحثين أي تعويض عن البحث، بل ينظر لتلك المنح اليسيرة جدا في الراتب على أنّها تعويض، ونتغافل أنّ دولاً مثل كوريا الجنوبية وماليزيا والبرازيل والهند لم تتقدم حتى أصبحت الجامعة ومخابرها البحثية هي من تقود قاطرة التنمية، وذلك بعدما أصبح الباحث فيها مُتكفلاً به أفضل من طاقم الحكومة.
ثمّ إنّ القانون الأساسي للأستاذ الباحث يشجع على الركود فهو يساوي بين جميع الباحثين العاملين والمتقاعسين في الراتب وفُرص الترقية وساعات العمل، وكان الأجدر أن يتم تفريغ الناشطين والمتميزين من الباحثين وتعديل سُلم الرواتب بِمَا يشجع على النشاط والإثراء، وألا يتساوى البيروقراطي مع المخترع، لأنّنا نقول للأمانة أنّ كثير من مدراء المخابر وفرقهم قد جعلوا المخبر في محافظهم، وتحولت وظيفته عندهم إلى ممارسات إقصائية ومصالح شخصية لا علاقة لها بالبحث، وسلوكات غذتها ثقافة الريع وغياب المحاسبة. ويُضاف لجملة المآخذ حول سياسة البحث في الجامعة الجزائرية التهميش الواضح لمجالات العلوم الإنسانية والآداب والفنون، ولا يمكن لبلد إنسانه مكلوم، مهزوم، مأزوم، لم يحسم مقولاته ولم يتفق على كلياته أن ينتج قيمة بحثية في أي مجال، وللتذكير فقد كانت ميزانية الفريق البحثي لفرانسيس فوكو ياما الأمريكي تفوق 2 مليون أورو وهي بحوث اجتماعية فلسفية ثقافية وحضارية.
وعن البدائل التي نقترحها حتى لا نبقى في دائرة توصيف الخلل فقط فتتمثل في: إشراك المؤسسات الاقتصادية والصناعية والفلاحية والأشغال العمومية التي استفادت من الريع الوطني في تطوير البحث من خلال إجبارها على إبرام اتفاقيات مع مخابر البحث ذات الصلة لتطوير أدائها وخدماتها وسلعها مع إلزامها بتخصيص نسبة مئوية من استثماراتها توجه للبحث ولهذه المخابر. أيضا، الاهتمام بالجوانب الإنسانية والاجتماعية في البحث العلمي لأنّها الكفيلة بصناعة فرد يفكر.
وإعادة النظر في مدونة القوانين المُسيرة للبحث وميزانياته بجعلها تقوم على مبدأ دفتر الشروط والأهداف المسبقة في الاعتماد، ومبدأ الاستثمار الناجح في التمويل. ورفع ميزانية البحث العلمي التي لا تتعدى حاليًا 0.05 من ميزانية الدولة وهي أقل مِمَا تخصص دولة مثل رواندا وأثيوبيا. كما يجب إعطاء الأولوية لمبدأ الخصوصية الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية في اعتماد مشاريع البحث، وتفعيل أقطاب الامتياز بحسب المصلحة والعائد.
عبد الملك بومنجل/ كاتب وباحث ومدير مخبر المثاقفة العربية في الأدب ونقده –جامعة سطيف2
المخابر هياكلَ بلا روح وعناوينَ بلا مضامين
يُفتَرضُ أنّ مخابر البحث ومراكزه هي المواقع التي تُهيّأ لتكون القواعد الأساسية لاحتضان أسباب الإنتاج المعرفي والاختراع العلمي، بتهيئة الهياكل البحثية والوسائل التقنية، ووضعها في متناول الخبرة العلمية البشرية، مع توفير كلّ الظروف المادية والنفسية والقانونية المناسبة، التي تحرر في الباحث طاقاته، وتبث فيه روح التحفز لتوجيه مواهبه ومهاراته وخبراته واجتهاداته في طريق خدمة هدف علمي أو معرفي معيّن هو من صميم منظومة الأهداف الوطنية أو الحضارية الكبرى للأمة.
ولكن السياقات التي أُنشئت في ظلها مخابر البحث، والظروف المادية والنفسية التي يمارس فيها الباحثون المنتمون إلى هذه المخابر مهامهم البحثية إن كان ثمّة ممارسة، ليست في مستوى هذا الافتراض المبدئي، بل تؤلف باجتماعها عاملَ إعاقة وتثبيط يحول دون أداء هذه المخابر والمراكز دورها اللائق بها، الواضعَ لها في مصف مخابر الدول المنتجة للعِلم والمعرفة في العالم.
إنّ منظومة الأهداف الوطنية والحضارية التي تؤطر اتجاهات البحث وتوجهها غائبةٌ، سواء على مستوى العلوم التطبيقية أو العلوم الإنسانية. وإنّ موقف السياسي من العِلم والتعليم والبحث العلمي والعلماء ظل على مدار العقود المتوالية موقفا سلبيا جدا تترجمه الميزانية الهزيلة جدا التي تخصص للبحث العلمي والراتب الهزيل جدا الّذي يتقاضاه الأستاذ الجامعي مقارنةً بالدول المتقدمة أو التي أخذت بشروط التقدم. وإنّ السياسة العامة التي غلّبت الاستيراد على الإنتاج بفعل التأثير السلبي لنظام الاقتصاد المبني على الريع.. كلّ أولئك يمثل عوائق حقيقية في طريق أداء هذه المخابر والمراكز مهمة بحثية جادة منتجة تسهم في النهوض بالإنسان أولا، وبالصناعة والاقتصاد والعلوم التجريبية المختلفة بعد ذلك.
العمدة في هذه المخابر هو الأستاذ الباحث أولا، ثمّ الوسائل المادية العلمية الضرورية لإنجاز تجاربه وبحوثه. الأستاذ الباحث لا يملك أن يخلص لبحثه ويتفرغ لتجاربه واجتهاداته إلاّ في ظروف مادية ونفسية عالية تقيه تمزق مشاغله وهمومه على جبهات عِدة. والوسائل العلمية وإن توافر منها لبعض المخابر نصيب وافر فإنّ استمرار الإمداد بها يتهدده التعثر في كلّ حين، وقد تعوق إجراءات التسيير استثماره في طريق الإنتاج.
إنّ مخابر العلوم الإنسانية مثلا لا تكلف إلاّ مقدارا ضئيلا من الميزانية مقارنة بالعلوم التطبيقية، ومع ذلك تعاني المخابر الناشطة منها الأمرّين في سبيل ترجمة أهدافها إلى نتائج، بسبب التضييق عليها في الميزانية لاسيما في السنوات الأخيرة.
يمكن أن تُقسم مخابر البحث المُعتمدة في مختلف جامعات الوطن إلى قسمين: قسم لا يكاد يُمارس نشاطا أو ينتج معرفة لا نظرية ولا عملية، لعدم توافر الرصيد العلمي والهمة المعرفية لدى باحثيه. وقسم يرسم أهدافًا وخُططًا، ويجتهد في تطبيقها قدر المستطاع ولكنّه لا يلبث أن يجد العوائق واقفة في طريقه، والآفاق مسدودة في وجهه، من بيروقراطية وتضييق مالي ورداءة المحيط العلمي وما إلى ذلك. ورغم هذا الواقع البائس تجد من يسمي هذه المخابرَ مخابزَ على سبيل الاتهام والتهكم! أية مخابز والباحث قد ينفق من ماله الخاص ليُنجح ملتقى علميًا لم يخصَّص له غيرُ غلاف مالي زهيد أو لا يخصص له أي غلاف بسبب سياسة تقشفية لا ترى من سبيل لما يُسمى ترشيد الإنفاق غير التضييق على العِلم؟!
إنّي لأعرف مخابرَ رسمت أهدافا معرفية عالية، وانطلقت في نشاطها بهمة عالية، وأنجزت أنشطة معرفية ذات جودة عالية، ولكنّها لم تلبث أن صُدمت بأجواءَ إدارية ومالية ونفسية مثبطّة، فتراجع أداؤها تحت وقع هذا الواقع البئيس.
المخابر العلمية لا تنتج إلاّ في ظل منظومة واعية راشدة منتجة. وفي انتظار بزوغ هذه المنظومة تبقى المخابر هياكلَ بلا روح، وعناوينَ بلا مضامين.
سفيان زدادقة/ أستاذ النقد المعاصر وتحليل الخطاب -جامعة سطيف
عوامل موضوعية تجعل من البحث العلمي يُراوح مكانه
بشكلٍ عام يُفترض بالمخابر أن يكون لها دور أساسي في تنمية البحث العلمي، لكن أهم ما نسجله هو غياب إستراتيجية واضحة للبحث العلمي في الجزائر، فالمخابر يتم إنشاؤها بشكلٍ عشوائي وبمبادرات فردية وبمنطق الرغبة في الاستفادة والتموقع في ريع الجامعة، لكن معظمها غير فاعل في الميدان، لأسباب كثيرة ومتشعبة. كما أنّ هناك نوعًا من المُفاضلة بين مخابر العلوم والتكنولوجيا ومخابر الآداب والعلوم الإنسانية، وهي نظرة بائسة ورثناها من السبعينات وخِطاب الثورة المصنعة، ولم نتخلص منها إلى الآن. كثير من أصحاب القرار يفرقون بين العلوم الصلبة وذات الأهمية للاقتصاد كما يعتقدون، وبين العلوم الأخرى والآداب التي ينظرون إليها على أنّها غير ذات جدوى وغير مُهمة ولا تحتاج أصلا إلى أي تمويل. وهذا سبب المشكل، أنّنا لم نستثمر لا في الإنسان ولا في علوم الإنسان وتصورنا بسذاجة أنّ بإمكاننا الاكتفاء باستيراد المعرفة جاهزة ومعلبة.. وهذا في حد ذاته خطأ علمي.
بالنسبة لدور المخابر يُفترض بها أن تشكل فضاءً للبحث، ومجالا حيويًا للإنتاج العلمي، لكن الواقع يشير إلى تخبط هذه المخابر في مشاكل انعدام المقرات أو قلتها وكذا ضعف التمويل والتجهيز، أو حتى الصراع الداخلي بين أعضائها، ويتم إغراق الأستاذ في الجانب الإداري والتسيير والأوراق وكلّ هذا على حساب انصرافه للبحث، يُفترض بالمخبر أن يكون له طاقم إداري وأن يتفرغ الأستاذ أو مدير المخبر فقط للجانب العلمي، كما أنّ لدينا مشكلة غياب التنسيق والتواصل بين هذه المخابر، ولا يوجد تثمينٌ لعملها، ولا أجر يأخذه مدير المخبر ولا رؤساء الفِرق، ولا مقابل مادي لأنشطتها وفعاليتها ولا حتى استقلالية مالية، فالقرار في النهاية قرار مدير المؤسسة. حتى المُشاركة في ملتقيات أو مؤتمرات في الخارج لا تقدم للباحث إلاّ بطاقة الطائرة والباقي كله على حساب المُشارك نفسه.
بشكلٍ عام المسؤولية مشتركة، وكلنا نتحمل جزء منها، هناك انتهازية وتلاعب وعدم جدية تظهر جلية في كثير من سلوكات بعض الأساتذة، لكن هناك أيضًا عوامل موضوعية اقتصادية وثقافية وحتى سياسية ونفسية تجعل من البحث العلمي في الجزائر يُراوح مكانه ولا يتقدم إلاّ شكليًا، عدد المخابر وعدد وحدات البحث وعدد طلبة الدكتوراه لكنّها ليست إلاّ أرقامًا جوفاء تُقدم كحصيلة سياسية لا غير، لأنّ تطور البحث يُفترض أن ينعكس بوضوح على المجتمع وتطوره وهو ما لا نلاحظه للأسف الشديد. هناك مليارات تُصرف كلّ عام على دراسات دون جدوى وخدمات أخرى تقوم بها مكاتب دراسات ومخابر أجنبية وخبراء من الخارج، والسؤال هو لماذا؟. لو خُصص جزء من هذه الأموال لصالح البحث العلمي لكان الحال غير الحال.
ختامًا يجب القيام بوضع إستراتيجية واضحة للبحث لا تقصي أي ميدان معرفي، كما يجب مُراعاة خصوصية كلّ ميدان ووضع الميكانزمات المُلائمة لتطوير البحث وتشجيعه، بعيدا عن البهرجة وسياسة البريكولاج والهروب إلى الأمام، وتوفير كلّ ظروف النجاح للباحث وتحسين مستواه المعيشي، ونشر قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ودولة القانون، لأنّ الباحث إنسان ومواطن أولاً قبل أن يكون باحثًا.