يظل التساؤل عن دور المثقف قائمًا، إنّه التساؤل الّذي يتكرر بمناسبة وبغير مناسبة. وفي كلّ المجتمعات والجغرافيات، عن ماهية المُثقف ومستحق هذه الصفة وعن طبيعة الدور الّذي يمكن أن يضطلع به اجتماعيًا وسياسيًا. فهل المثقف ابن الراهن والمستقبل ملزمٌ بأخذ مواقف سياسية؟ وهل له الأدوات السياسية/والمعرفية التي تمكنه من إبداء الرأي أو بناء مواقف موضوعية في قضايا راهنية ومحورية ومستقبلية؟ وهل عليه أن يكون معنيًا بالسياسة أو منتميًا لها ومنخرطا فيها، أيضا ما الحدود بين السياسة والثقافة؟ وهل أنّ الخوض فيها ودخولها يُبعد المثقف عن مجاله الحيويّ والمحوريّ (الفكر والكتابة والإبداع والاستشراف المجتمعي/والحياتي. الفكري/والتنويري. الثقافي/والسياسي)؟. من جهة أخرى هل من الضروري دائما أن يخوض في كلّ أمور وشؤون الحياة السياسية وألا يبقى على هامشها. وكيف؟
إستطلاع/ نوّارة لحـــرش
هذه أسئلة «كراس الثقافة» في ملف عدد اليوم، حول «المثقف والسياسة» مع مجموعة من الأكاديميين المختصين في العلوم السياسية. وفيه نقرأ مقاربات وآراء مختلفة ومتفاوتة في التصورات ووجهات النظر.
زكرياء بوروني/ أستاذ العلوم السياسية -جامعة الصالح بوبنيدر- قسنطينة 3
المُثقف ابن بيئته يتأثر بها في كلّ الأحوال
يطرح الحديث عن المُثقف ودوره الاجتماعي والسياسي نفسه وبقوة في المجتمعات المعاصرة، ولاسيما في المجتمعات المُتأخرة عن ركب البلدان المُتقدمة حضاريًا، والتي يستمر بحثها في شتى المناحي عن عوامل الإقلاع واللحاق بنماذج الرقي في المدنية والاجتماع والاقتصاد والسياسة والثقافة أيضا، لكن مثل هذا الخوض يفتح بالتأكيد في كلّ مرّة مجال التساؤل عن ماهية المُثقف ومستحق هذه الصفة وعن طبيعة الدور الّذي يمكن أن يضطلع به اجتماعيًا وسياسيًا.
فالمثقف هو من حاز رصيدا من المعرفة تلقاه من التعليم والتكوين أو استغل تجاربه المُكتسبة وموهبته ليسهم في مجال من مجالات العِلم والفكر والأدب والفن، حتى تضيق دائرة المثقفين عن من ينتسب إليها زيفًا وتنطعًا من غير رصيد من المعرفة أو المنتوج الثقافي القيم في تقدير أهل كلّ اختصاص، ويتمايز من المثقفين المُلتزم منهم الّذي يحمل هموم شعبه وبلده ويكون ناقدا ومُصحِحًا ومُصلِحًا، وبين من يكون همه الأكبر من وراء عمله وإبداعه التكسب وتحصيل العائد المادي. والمُثقف هو فرد من المجتمع وابن بيئته يتأثر بها في كلّ الأحوال، وأكثر ما يتأثر به السياسة ونظام الحُكم في نوعية حياته والمجال المُتاح أمامه للتعبير والإبداع.
والسياسة بِمَا هي استغلال سلطة الدولة الفوقية في إدارة شؤون المجتمع هي المحدّدة لصلاحه وفساده من كافة النواحي، ولذلك كان من المنطقي أن يُفكر الكثيرون أنّها المدخل لتغيير أحوال المجتمع، وأنّه يقع على عاتق المثقفين جانبٌ كبير من المسؤولية في هذا الشأن فهم يمثلون الصفوة التي عليها التصدر وقيادة العوام في مواجهة مشاكل أوطانهم ودرء المفاسد والأخطار عنها، وينبري المثقف بذلك للمشاركة في السياسة لئلا يغترب عن واقعه المعيش وينعزل عنه، فيتصل بمخيلته بجانب الفن والجمال المادي وحسب أو يرتبط بفكره بالفلسفات والأفكار والنظريات التي قُدمت في مجتمعات أخرى لها خلفياتها وظروفها وأحوالها، فيخلو إنتاجه من الغائية والرسائل المستبطنة والظاهرة أو يكون فكريًا ومعرفيًا مجرّد ناقل ومستنسخ دون تدقيق وتحقق في صلاحية المنقول ومواءمته للبيئة المحلية وطبيعة النتائج التي يُحدثها فيها، ومهما كان فالمثقف بسلبيته وانزوائه أو إيجابيته وانخراطه مُشاركٌ في السياسة وكلا الحالتين تمثلان موقفًا له فيها بإدراك ودونه، مع أنّ الابتعاد أحيانًا يكون بالكراهة وطلبا للسلامة خوفًا من انتقام الساسة أو نتاجًا لتضييقهم لفضاء الحرية وتعتيمهم على الرأي المُخالف، كما أنّ إبداء الموقف يكون تملقاً تارة وطمعًا في إغداق المزايا لا وحيًا من الضمير وتعبيرا عن القناعة.
والانخراط في السياسة والمشاركة فيها لا تعني وفقط امتهانها عبر النضال في الأحزاب ودخول الانتخابات وعضوية المجالس التمثيلية إلى تقلد غيرها من المناصب السياسية، فذلك من باب فرض الكفاية الّذي يحمل صفة الوجوب فقط إذا اعتقد المثقف أنّه لا يصلح دونه، وهو ما يصرفه عما هو هاوٍ له وشغوف به إلى تكاليف وأعباء تدبير ورعاية شؤون الرعية، والتي قد يكون ذا رأي فيها غير مستطيع للتفرغ والسهر عليها ولا ملم بأسرار السياسة ومكامن المعرفة والفن للعمل بها، وإلاّ فالسياسة تكون أيضا بإظهار المواقف في شكل رسائل تضفى عليها اللمسة الفنية والحبكة الأدبية أو تستند إلى المعرفة العلمية وتبزغ عن الفكر المستنير، وكذلك يكون إسهام شريحة المثقفين من المجتمع في نشر الوعي بين العامة وقيادتهم حين يستجدي الأمر ذلك. صوب الأفضل والأصلح، ويكونون متصلين اتصالا وجدانيا بأبناء وطنهم حاملين لهمومهم وتطلعاتهم غير منفصلين عنهم، وهم يعولون عليهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون على أنّهم الأعرف والأجدر ليكونوا قدوتهم بالتوجيه والإرشاد أو قادتهم إلى صلاح حالهم، ويظهر المثقفون بذلك انتماءهم وعرفانهم وردهم لجميل الوطن عليهم لا ينكصون عن عهده ولا يستدبرون عن نداء واجبه، وغير ذلك ضرب من الأنانية والإخلال بالواجب الأخلاقي تجاه أمتهم.
ولا يجد المثقفون ممن تجلى نبوغهم وظهر تفوقهم في مجالهم حجة لهم حاضرا ومستقبلا أمام الأجيال، إذا ما أبدوا لا مبالاة إزاء أحداث وأوضاع، أو سكوت عن حق أو نصرة لباطل، فالثقافة بقدر ما هي وسام شرف يحمله أصحابها هي مسؤولية إزاء الوطن والأمة بل والبشرية بقدر ما أمكن لكلّ مثقف أن يكون تأثيره ويبلغ مداه.
لطفي دهينة/ أستاذ وباحث في العلوم السياسية -جامعة الصالح بوبنيدر- قسنطينة 03
الأصل في المثقف هو الارتكاز على مقومات فكرية وقيم إنسانية رفيعة
إنّ الأصل في المثقف هو الارتكاز على مقومات فكرية راقية وقيم إنسانية رفيعة، للمساهمة في بناء مشروع حضاري متكامل، وبالتالي فإنّ وظيفته هي حمل قيم الخير والعدل والحرية وغيرها من القيم الإنسانية، والدفاع عنها وكسر القيود الفكرية التي تُكبل العقل والفكر وتعيقه عن التحرّر والتفكير، ولعل من أهم وظائفه هي التعرض لواقعه المعيش بالنقد والتمحيص والمعالجة وليس الانزواء بعيدا والاكتفاء بدور المُتفرج ثمّ التعليق على الأحداث بصوت خافت.
لكن الملاحظ اليوم أنّ هناك انفصام بين المثقف وواقعه بصفة عامة وبينه وبين العمل السياسي بصفة خاصة، بسبب تراجع دوره نتيجة الانزواء في برجه العاجي والنظرة الاستعلائية التي ينظر بها إلى الواقع الموبوء -حسب تقديره- والّذي يكون كاللوثة التي تلطخ طهره المزعوم إذا ما اقترب منها أو لامسها فيبقى بعيدا وهو يُوهم نفسه أنّه سيكون له دور ما في بيئة أفضل وأنظف.
أو ربّما مرد هذا الانفصام هو السلبية التي يفرضها بعض المثقفين على أنفسهم خوفًا من النقد أو عدم الرضا عن الواقع السياسي المأزوم والمُميع في نظرهم واليأس من إمكانية التأثير والتغيير، أو بسبب حالة التهميش والمُحاصرة التي تفرض عليهم من محيطهم الخارجي خوفا من آرائهم أو نتيجة لعدم انحيازهم إلى توجهات معينة عادة ما تكون موالية للسلطة الحاكمة.
ولعل من الأشياء التي زادت الطين بلة، وجود حالة من التوجس وعدم الثقة في المثقف عمومًا نتيجة انحياز البعض مِمن يحسبون على المثقفين والمفكرين إلى الأنظمة السياسية بحثًا عن المصالح الشخصية الضيقة وطمعًا في المكاسب المادية الزائلة على حساب المبادئ والقيم التي طالما تغنوا بها وجعلوها شعارات رنانة لخطبهم وكتاباتهم، وهذا ما ساهم في إبعاد المثقف عن بيئته ومجتمعه وأصبح هذا الأخير لا يشعر بالحراك الثقافي حتى إذا وجد ولا يحس أنّه يمثله ويعبر عن تطلعاته واهتماماته.
المطلوب من المثقف اليوم أن ينزل من برجه العاجي ويخرج من عزلته الاختيارية أو الإجبارية ويمارس دوره المنوط به بواسطة قلمه ولسانه ويطوع أفكاره وكلماته حتى تخدم قضيته التي يعتقد بها ومبادئه التي يؤمن بها، خاصة في ظل اتساع المساحات المتاحة وتطور الأدوات الممكنة بفضل الإعلام الجديد العابر لحدود الزمان والمكان والّذي يستطيع من خلاله الوصول إلى عموم الجماهير بسهولة ويسر دون انتظار صكوك الغفران وآيات الرضا ممن يملكون زمام وسائل الإعلام التقليدي، إنّ المطلوب من المثقف اليوم أن يكون سياسيا وليس بالضرورة متحزبا، فإن لم يشتغل المثقف بالسياسة فمن يشتغل بها، لا جرم أنّ الساحة ستخلو للفارغين والانتهازيين وأصحاب المصالح ممن يساهمون في تمييعها وإفراغها من محتواها ونشر القيم السيئة والأفكار الموبوءة عن العملية السياسية برمتها.
لابدّ على المثقف أن يشتغل بالسياسة مُمارسة وتنظيرا ونقدا وتوجيها، ينير الرأي العام بأفكاره ويقدم الحلول ويتبنى المواقف ويوجه النقد للممارسات الخاطئة في محاولة لتصويب الممارسة السياسية، عليه أن يلعب الدور المنوط به وهو مدرك أنّ الأمر ليس هينًا وقد يدفع في سبيله أثمانًا باهظة وقد يعاني من التضييق والمساومة والإيذاء الشيء الكثير فيصبر ويواصل طريقه، وهذا ديدن المثقفين وأصحاب الرأي والرسالة النبيلة أن يكونوا شموعا تحترق لتضيء دروب السائرين.
درويش جمال/ أستاذ العلوم السياسية -جامعة بومرداس
عصرنا هو عصر المُثقف المُتخصص
يعتبر موضوع المُثقف والسياسة من المواضيع التي أثارت وتثير الجدل، وسننطلق في معالجتنا لهذا الموضوع من فرضية مفادها أنّه كلما ظهر فشل السياسي في أداء دوره اتجاه المجتمع، زادت الحاجة إلى التزام المثقف بأخذ مواقف سياسية باعتبار أنّه يحتل مكانة مرموقة لدى المجتمع، كما أنّه يشكل حلقة وصل بينه وبين السلطة في غالب الأحيان، وعليه فالسؤال المطروح: هل المثقف ملزم بتبني مواقف سياسية أم لا؟
وللإجابة على هذا السؤال وجب التمييز بين نوعين من المثقفين بحسب تصنيف «ميشال فوكو» وهما: المثقف الكوني (العالمي) والمثقف الخاص (المتخصص)، فإذا كان الأوّل مطالب بتبني مواقف سياسية يتفاعل من خلالها مع ما يحدث في المجتمع الّذي يعيش فيه، ويُوضح وجهة نظره حول مختلف القضايا السياسية الراهنة، فإنّ الثاني مطالب بأخذ مواقف سياسية يسعى من خلالها لبناء الرأي العام خاصة إذا لاحظ بأنّ هناك أزمة بنيوية تعكر السير الحسن للدولة والمجتمع.
من خلال هذا نقول بأنّه لا يفترض بالمثقف أن يخوض في السياسة إلاّ إذا كانت هذه الأخيرة ضمن مجال اهتمامه نظرا لأهمية دوره، ولا يشترط فيه أن يكون مُمارسًا لها أو مُنخرطا في حزب سياسي، بل أنّ موقعه ومكانته كمثقف تفرض عليه ذلك، خاصة إذا لاحظ بأنّ السياسي قد فشل في أداء مهمته، على اعتبار أنّه منارة للمجتمع يُحلل ويشرح الظاهرة السياسية بكلّ موضوعية بما يمكن الأفراد من تحديد مواقفهم واختياراتهم من مختلف القضايا السياسية المحورية السائدة في المجتمع، على أساس أنّ المثقف يمتلك الأدوات المعرفية التي تمكنه من بناء مواقف موضوعية تكون بمثابة إطار عام للحراك الفكري المجتمعي، وكلما زادت المواضيع السياسية المطروحة تعقيدا ودقة، زادت الحاجة إلى المثقف الخاص (المتخصص) الّذي يعتبر المجال السياسي مجال اهتمامه الرئيسي إن لم نقل الوحيد.
وفي ظل التطور الكبير لتكنولوجيات الإعلام والاتصال في الوقت الحاضر، بدأ المثقف بصفة عامة يفقد بعضا من قيمته المجتمعية خاصة إن لم يكن مُواكبا لذلك التطور، لأنّ المجتمع ليس بالقاصر تمامًا عن فهم ما يدور حوله من قضايا سياسية، وهو ما يجعل مهمة المثقف في هذا المجال صعبة جدا لأنّه سيتحول من مواجهة العقل الفردي للأشخاص، إلى مواجهة ما سماه «يورغن هابرماس» بالعقل التواصلي للمجتمع، الّذي اشترط في تكوينه حدا أدنى من المعرفة المنتشرة بين أفراد المجتمع، وهو بالضبط ما توفره تكنولوجيات الإعلام والاتصال.
هذا الواقع الجديد أفرز لنا نوعين من المثقفين في علاقتهم بالسياسة: المثقف الملاحظ والمُحلل، والمثقف المنخرط والناشط في مجال السياسة، ففي حين يكون الأوّل مصدرا للأفكار والآراء والمواقف المجتمعية من القضايا السياسية، يكون الثاني مصدرا للأفعال والتفاعل، ويحتاج كلاهما إلى الإبداع في هذا الباب، فالمساهمة في بناء العقل التواصلي المجتمعي تحتاج إلى إمكانيات معرفية وفكرية كبيرة، يجب توفرها في المثقف المُهتم بالحياة السياسية في بلاده، كما أنّ بلورة أفعال ومواقف أفراد المجتمع لا تقل أهمية عن بناء عقله التواصلي، لهذا وجب على المثقفين أن يُحددوا مجال مساهمتهم في الحياة السياسية سواء بالتأطير الفكري، أو التوجيه العملي لأفراد المجتمع.
إنّ العصر الّذي نعيش فيه حاليًا هو عصر المُثقف المُتخصص، لهذا فإنّه يجب على كلّ مثقف تحديد مجال مساهمته في تطوير مجتمعه، لأنّ السياسة تعتبر عائقا كبيرا أمام إبداع المثقف الكوني (العام) بحيث تنقص من مردوديته الإبداعية في مجال تخصصه الأصلي، لكن بالنسبة للمثقف المُتخصص، تعتبر السياسة محفزا لعملية الإبداع وعاملا فعالاً لجعل المثقف يساهم بكلّ فعالية في الحياة السياسية في بلاده من خلال المشاركة في التحليل والشرح واقتراح الحلول للمشاكل والقضايا السياسية المصيرية والمحورية التي تواجه الدولة والمجتمع على حد السواء.
وفي الأخير نقول أنّه ليس بالضرورة أن يكون كلّ مثقف مُمارسًا للسياسة أو مُهتمًا بها، فلكلِ اختصاصه، وأنّ من ينخرط في السياسة عليه الالتزام بالموضوعية قدر الإمكان لأنّ دوره لا يقتصر على إبداء رأي أو موقف من مسألة معينة، بل يتعداه إلى عملية بناء العقل التواصلي المجتمعي وتكوين الرأي العام، فإذا كان الرجل السياسي غير مطالب بأن يكون أخلاقيًا مثلما يرى «مكيافيلي»، فإنّ المثقف المُهتم بالسياسة لابدّ له من التزام أخلاقي اتجاه المجتمع الّذي يتفاعل معه بالتزامه بالموضوعية قدر الإمكان.
حرز الله محمّد لخضر/ أستاذ وباحث بقسم العلوم السياسية -جامعة بسكرة
المثقف وهندسة الوعي السياسي: سؤال الفاعلية والعدمية
لا يمتري أهل البصائر والنّهى في أنّ منشأ المعراج الحضاري والارتقاء الفكري نحو مدارج التمكين والتكوين، ينبثق من قَدحِ الفكر وشرارة الوعي، اللذين ينفخان روحَ الإرادة والفاعلية في النفوس الخاملة لتنطلق ببصيرتها نحو البناء والازدهار.
ولطالما اعتُبرت السياسة في المخيال المجتمعي العربيّ رديفًا للكذب والنفاق والرداءة والخداع، غير أنّ هذا المفهوم يعتبر مغايرا تمامًا للمفهوم المعياري لعِلم السياسة عند أهل الدراية والّذي يعني: فن التدبير والإبداع في سياسة المجتمعات وصناعة التغيير والمفاضلة بين البدائل ووضع البرامج التنموية وإدارة الأزمات ورسم العلاقات الخارجية. ولا شك أنّ السياسة بهذا المفهوم لا يمكن أن يَتَسَنّمَ ذِرْوَتَهَا سوى الراسخون في أصول المعرفة السياسية والإمبريقية، ولعل التحوير الّذي طال مفهومها من حيث المعنى والأداء هو الّذي رسم ملمحًا سلبيًا تُجاه الوعي والثقافة السياسية بمجتمعاتنا.
ولا يخفى على أيّ متابع للحياة السياسية العربية ما يعانيه من ضحالة في المشهد السياسي على مستوى النُظم وآليات الحُكم ومناخ الحياة السياسية عامة، وما يعانيه من جمود وتكلس للعقل والإرادة، وسط أَتُون الاستبداد والتسلط وغياب الفاعلية والحركية التنموية، التي تتفاوت حدّتها نسبيًا من قُطرٍ لآخر.
وهذا ما يجعلنا نتساءل: أيّ دور للمثقف -في غمرة هذه التحديات- في تشكيل الوعي المجتمعي والارتقاء بالفكر السياسي العربي؟ وما الّذي يقف عائقًا في وجهه لقيادة قاطرة التغيير وإنتاج الأفكار المثيرة وهندسة العقول المستنيرة؟
لقد شكل دور المُثقف عبر الأحقاب الزمنية دورا مركزيا في رسم المعالم الكبرى للتحولات الإصلاحية الرائدة، من خلال المبادرات الفاعلة في الهندسة الفكرية والجودة المعرفية، والتي تسهم في تنشئة النفوس وإحياء الضمائر واستفاقة العقول، فهو الفهيم الحَصِيف الّذي يقدم البدائل والرؤى التنموية والحلول الواقعية الناجعة، وهو المستشرف لِمَا وراء حجاب الزمن من مآلات وأطروحات، وهو مصدرٌ للوعي والقيم الحضارية.
ولعلنا في هذا السياق نستحضر عبقرية جزائرية فذة أسهمت بأفكارها الفعّالة في هندسة منظور حضاري بنائي، ومأسسة وعي سياسي متميز للمجتمعات العربية المنعتقة من الاستدمار، فالمفكر «مالك بن نبي» رحمه الله، مثّل دور المثقف الّذي استطاع اسْتِكْنَاه الجذور العميقة للأزمة الحضارية والسياسية، غير مكتفٍ بالوقوف على أطلال المشكلة الحضارية أو شُطآنها فحسب؛ بل أوغل في البحث عن مسبباتها الخفية، فأبدعت قريحته أفكارا تحديثية ونحتت مصطلحات تجديدية في هندسة الوعي السياسي من قبيل: القابلية للاستعمار، الفعالية الفكرية، العقل التطبيقي، الأفكار القاتلة والميتة، الأفكار الموضوعة والمصنوعة، الأفكار المخذولة، البناء والتكديس، الاغتراب الزماني والمكاني، النزعة الذرية، الإمكان الحضاري والإرادة الحضارية..الخ.
إنّ حركية المثقف في مجتمع المعرفة تتطلب منه أن يكون حاضر البديهة برأيه، ومُسهِمًا في تشكيل الرأي العام بفكره، ومؤطرا للوعي برصانة طرحه، ولا يعقل أبدا أن يظل على هامش الحياة السياسية، أو يركن إلى الفتور والخمول، أو ينهزم أمام جحافل الإحباط والرداءة، فيتخلف حين يُطلَب للمُبَادَأَة، ويتولى عندما يُفْتَقرُ للمبادرة، وحينها سيتطفل الأصاغر وتعطى القوس لغير باريها ويسند الأمر لغير ذويه، وما ثمّة حينئذ سوى الركود والتخلف والانحسار.
إنّ المفكرين هم معالم الوعي ومنائر الرشاد الذين يأخذون بأيدي الشعوب إلى طريق السداد، ولنا أن نذكر في هذا الصدد الدور البارز لكبار مهندسي الوعي العالمي من أمثال: مارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديلا وغاندي ورواد الفكر الإصلاحي العربي كجمال الدين الأفغاني والكواكبي ومحمّد عبدة وشكيب أرسلان والعقاد ومفكري جمعية العلماء بالجزائر وغيرهم مِمَن تركوا بصمته الإصلاحية وأحدث تحولا في المعمار الفكري للمجتمعات.
فالنُخب العلمية إذا لم تتقدم وتضطلع بمسؤولية تأطير الوعي السياسي ونقد الأوضاع بعين البصيرة والحكمة، وبناء الوعي المجتمعي وترقية مستوى التفكير، فإنّ سلبيتها وعدميتها تلك قد تنتج مناخًا موبوءًا، وسيشغل موقعها الاستراتيجي الشاغر زُمَرِ المتسلقين المنتفعين الذين لا همّ لهم سوى تعظيم المصالح الشخصية وتضييع الموارد الوطنية، ولا عزاء للوطن بعدئذ إذا انطفأت منائره. وتبقى مسؤولية المثقف من أجلِّ المسؤوليات الحضارية.
عبد الحميد فرج/ أستاذ العلوم السياسية –جامعة حمة لخضر- الوادي
على المثقفين رفع الوعي والارتقاء بالعمل السياسي
ألم يتساءل المثقف وغيره، لِما هذا العزوف عن ممارسة السياسة وتركها لمن ليسوا أهلاً لها، لماذا لا يتصدر المشهد السياسي المثقفون والدكاترة وأساتذة الجامعات، لماذا لا نرى رؤساء أحزاب يحملون شهادات علمية ولهم من الباع الثقافي ما يتيح لهم الرقي بالمشهد السياسي، إلى أي مدى تبقى القيادات السياسية تتهاوى في النزول إلى مستوى الفهم البسيط للمواطن للحياة السياسية والفكر والوعي السياسي، لماذا لا تتحول المعادلة صعودا، بأن تعمل تلك القيادات على الرفع من مستوى المشهد السياسي إلى مصاف المعايير السياسية العالمية: فكرا وفهمًا وممارسة.. وهذا لا يتأتى إلاّ بدخول المثقفين إلى معترك الحياة السياسية، ليس بإبداء رأيهم فقط، بل بالممارسة واقتحام هذا المجال عمليًا، أم أنّ المثقف يريد أن يتم استدعاؤه للعمل السياسي ووضع المناصب السياسية له على طبق من ذهب؟
على المثقفين رفع الوعي والارتقاء بالعمل السياسي ولو بوضع مبادئ ورسم صورة نمطية في المخيال الشعبي أنّ الساحة السياسية يجب أن يقودها المثقفون وأصحاب الرأي مِمن يملكون رؤى وأفكار سياسية عالية المستوى، فالسياسة هي صراع مستمر حول الوعي المجتمعي والوصول بها إلى أرقى الدرجات أو النزول بها إلى أدنى المستويات، وهذا الصراع اليوم متوقف تمامًا، أو لنقل المباراة متوقفة بانسحاب الفريق الثاني الّذي يمثله المثقفون، الذين تركوا الساحة السياسية لغيرهم وأصبح من لا مستوى له يطمح أن يدخل هذا الملعب ويكون له منصب فيه، لا يهم أي منصب (ولو جامع للكُرات) المهم أن يكون داخل الملعب وحقله، ذلك لأنّ الملعب فارغ.
لذا يجب على المثقفين أن لا يبقوا مكتوفي الأيدي، أو أن يقتصر دورهم فقط في النقد وإبداء الامتعاض، إنّما من الواجب الانتقال إلى الممارسة الفعلية للسياسة وأن يقتحموا عالم السياسية من أوسع أبوابه ولو من باب نشر الوعي وقطع الطريق على عديمي المستوى لولوج هذه الساحة.