عبد الرحمن بوزربة
في الصمتِ غاباتٌ من الأسرار نائمةٌ
وأسرابٌ تطير إلى جفونِ الرّيح..
وامرأةٌ تنام لكي تداري حُزنها..
في الصمتِ أسئلةٌ مشرّدةٌ
على شفة الظمأْ..
ومدى من الأمطار في أثَر الذين تماثلوا للجرحِ..
واحترفوا نشيد الرقصِ
في غيْم التلالْ..
***
في الصمت ينمو العشبُ
في حجرٍ بليدٍ..
تستوي نخلاً أماني الرملِ
والأنهارُ راكضةٌ وغامضةٌ
كأجساد الظلالْ..
والانتظار مدينةٌ مأهولةٌ بالشوقِ..
أغنيةٌ تطارد في خريفٍ مقبلٍ أشجارها
وتحنُّ مثل حبيبةٍ متروكةٍ لدموعها..
وسفينةٍ سكَن الشراعُ بها
إذِ ابتعدَ الشمالْ!
***
في الصمتِ هذا الرقصُ في الشرفاتِ
هذا البحرُ في جسد المساءِ
وهذه النايات تحتكِر البكاءَ..
الصمتُ هذا الملحُ في حلق القصيدةِ
هذه الجمراتُ تزهرُ في أصابعنا على مرمى الجنونِ..
وشارعانِ تعانقَا تحت المطرْ ..
***
الصمتُ ذاكرة اللغاتِ
رنينُها المنسيُّ في خطو الرواقِ
وما نُرتّبُ في الحقائبِ
إذْ يفاجئنا السّفرْ..
***
في الصمتِ نكتشفُ الكلامَ
نسيّج الصحراء بالأنهارِ
نختار أنخابَ المعاني في الأغاني
ثمّ نمضي نحونا
أو تمضي بنا الأقمارُ
في ليلِ الأثرْ..
***
الصمت فرْوُ الليلِ
نجمته السحيقة
أرضُه الأولى
وكرْمتُه السخيّةُ
ما يرى القنديلُ من روح الفراشِ
وما يجيدُ القلب من رقصٍ
وما يبقى إذا الشعراءُ ناموا..
***
لا صمت في الصمتِ..
قال الشاعر المهزوم في المقهى
يدخّنُ صمتهُ..
ويطارح الأشعارَ عمرًا حافيًا..
قال انتصارًا للحقيقةِ:
لا شفاهَ لِما أريدُ الآن من هذا المدى
سأعيدُ للحبر القصائدَ كلّها
وسأشربُ الخيباتِ في شغَفٍ
وأسأل عاشقًا عن حاله في الركنِ
حيث الصمتُ أعراسُ من تركوا وراءهم جُرحَ صبّارٍ وغاموا..
***
حيث الحبيبات اللواتي
لم يَبُحنَ بسرّهنَّ
الشارعُ المطعونُ بالجوع
الحقائبُ عند أسلاكِ الحدودِ
تعارُفُ الغرباءِ في الملهى
سُكُون البحر في الميناءِ
رغبةُ عاشقٍ في الإنهيار
وبدلةُ الجنديِّ بعد الحرب
حيثُ الوقت ما لم تحتملْ لغةٌ
وما نسيَ الكلامُ..
***
في الصمت نكتبُ أجمل الأشعارِ
نشتاق الحبيبَ كما نشاءُ
نشكِّلُ النسيان ذاكرةً
ونبكي مثل عصفورٍ وحيدٍ
لا يؤانسُه أحدْ..
وخُطى تضيع على تضاريس البلدْ..
سنُريدُ كالأطفال نجمتَنا
ونسأل وردةً في الكفِّ
عن عطر الغيابِ
أحبّهُ
ويحبّني
وأحبهُ
ويحبّني
وكما نشاء نُرتبُ الأوراقَ
والأشياءَ
والألوانَ
لا أحدٌ سيسألنا الحقيقةَ
حين نكذبُ
كي نعيشَ إلى الأبدْ..
***
لا ضفّةٌ ستُحاسبُ الأنهار حين تبذّرُ الأنهارَ..
لا شفةٌ ستندَم أنّها قالت لهم
شيئا عن الصحراءِ
أو باحتْ لهم سرًّا من الأسرارِ
عمّا أومأتْ للرملِ المسافرِ نخلةٌ
أو شعّ في الخيمات
من شمس الجسدْ!
***
في الصمت أغنيةٌ بطعم البحرِ
عطشى مثلنا للبحرِ..
أجنحةٌ تسمّي الريح للسروِ
في عجلٍ
تبعثرهُ كمَنجاتٍ في طريق الليلِ
ثمّ تسيرُ به شفةً
وموّال اشتهاءْ..
ريحٌ تدقُّ البابَ
تأخذ قلبنَا للرقص
تتركُه على فستانها
جمرًا وماءْ..
***
الصمت -قال الطيرُ- سفحٌ
يقتفي أثر السّماءْ
غيمٌ على جبلٍ
يربي دونما تعبٍ فراخ الجوعِ
مكتظًّا بلوعتهِ
يطير بها على مهلٍ إلى أعشاشها
يتفقّدُ الأجواءَ
علّ الأرضَ في الأنحاءِ
أمنيةٌ مُكابرةٌ
وفاحشةُ الثراءْ..
***
في الصمتِ غزلانٌ
تطاردُ صمتَنا
وتظلُّ تركضُ
ثمّ تسقطُ
ثمّ تركضُ
ثمّ تمطرُ
ثمّ لا ندري..
نضيع هنا
ويُدهشنا البهاءْ..!