هل كفت مواقع التواصل الاجتماعي عن " وظيفة" التواصل والحياة التشاركية من خلال تبادل الأفكار وتوسيع رقعة أنوار وأضواء الفن والفكر والمحبّة. ما الّذي جعل موازين الخير والجمال فيها تختل إلى درجة تدعو للتساؤل، والخوف على مستقبل العلاقات الإنسانية ومساحة الحوار التواصلي في فضاءات الميديا. وبأي أدوات تحليل نقرأ ما أصبح ماثلا في صفحات التواصل الاجتماعي، وبخاصّة الفيسبوك، ونقصد طبعًا، "خِطاب الكراهية" الّذي أصبح واضحًا ومباشرا ومُقلِقًا ومُزعجا جدا. خِطاب كراهية غير مسبوق في وسائل التواصل التقليدية. لكنّه انتشر وبشدة من خلال وسائل ووسائط التواصل الحديثة. ومساحته آخذة في الانتشار والاتساع أكثر يومًا بعد يوم. فما الّذي أخرج خِطاب الكراهية بين أبناء الشبكة الواحدة. ما الّذي جعله يتصاعد ويتمادى في الانتشار والاتساع. هل يمكن الجزم الآن أنّ الفيسبوك أو مواقع التواصل بصفة عامة ما هي إلاّ بيئة خصبة وفضاءً مُتاحًا وحاضنًا لخِطاب الكراهية؟.
إستطلاع/ نوّارة لحـــرش
حول هذا الشأن الحساس "مواقع التواصل الاجتماعي وخِطاب الكراهية"، كان ملف "كراس الثقافة" لعدد اليوم، مع مجموعة من المفكرين والباحثين الأكاديميين، الذين تحدثوا عن الظاهرة، من زوايا مختلفة.
محمّد شوقي الزين/ كاتب وباحث أكاديمي ومفكر
نادراً ما يفلت الأشخاص في مواقع التواصل من خِطاب الكراهية
التواصل الاجتماعي على الشبكة هو عالم افتراضي أو اعتباري؛ فهو ليس الواقع الخارجي. منذ بداية الألفية، أصبحت الثورة التكنولوجية والرقمية هي «أنموذج» القرن في تنظيم الحياة البشرية على جميع الأصعدة الاقتصادية (السيولة المالية، البيع والشراء على الشبكة) والاجتماعية (التواصل) والسياسية (الإعلام بصُنع القرار). يوجد لذلك منابر مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«أنستغرام» بالنسبة للمواقع الاجتماعية والسياسية، والبنوك الرقمية بالنسبة للصفقات المالية والمبادلات التجارية. إذا كانت المجالات الحيوية من اقتصاد وتجارة تجد في الشبكة عزاءها لتتطوَّر وتنتشر، فإنّ المجالات السياسية والإعلامية والاجتماعية تغلب عليها الشعبوية والإشاعة وخِطاب الكراهية. جاء خِطاب الكراهية مُمكِناً للاعتبارات التالية: أولا: أتاحت الشبكة الهوية المجهولة لأعضاء التواصل الاجتماعي، لا أحد يعرفهم. يمكن أيضاً للعضو الواحد أن يفتح عِدَّة حسابات بهُويات مُستعارة. بحكم الطابع المجهول لمواقع التواصل الاجتماعي (anonymat)، فإنّ كلّ عضو يمكنه أن يدلو بأيَّة إشاعة وبأي خِطاب، بما في ذلك خِطاب الكراهية. لا يخشى شيئاً ما دامت هويته مجهولة.
ثانيًا: خِطاب الكراهية لدى عامة الأعضاء في مواقع التواصل الاجتماعي، ويغلب على هذا الخِطاب الشتم والتخوين والتكفير، بإيعازٍ من أيديولوجيات أو حساسيات سياسية أو دينية. المعارك الفيسبوكية هي في الغالب محمومة، تنفجر فيها العواطف والردود المُنفعلة ويقل الهدوء العقلي والتعليل المنطقي. بحكم الهويات المجهولة، فإنّ الردود تُضاعف من قسوتها وعنفها؛ تلجأ إلى التشهير، بالبحث في الحياة الخاصة للشخصيات عمَّا يُشبع إرادة الانتقام والتشفي. ثمّ إنّ الإشاعات والمعلومات الكاذبة (fake news)، دون تريُّث أو تحرٍّ، تزيد من حدَّة الانتقاد والتهجُّم. يمكن القول بأنّ مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت منابر للتنفيس أكثر منها فضاءات للتواصل والتبادل؛ يغلب عليها رفض الآخر والقدح في عِرض الناس والتشكيك في نواياهم.
ثالثا: خِطاب الكراهية لدى النخبة تُجاه العامة. وإن كانت غالبية النخبة تتحلَّى بالتعقُّل وبآداب النقاش وتعرض معلومات أو أخبار تتيقَّن من مصدرها ومن صحَّتها، إلاّ أنّ عدداً لا يُستهان به من النخبة يسقط في فخ الكبرياء. هذا ما لاحظناه مثلاً في الموقف من الحراك الشعبي، حيث لم يتوانَ بعض الباحثين والأكاديميين في وصم الجموع بالغوغاء والسفلة والأحمرة والقطيع، من وراء الكلمة الدارجة «روجي». من واجب النّخبة مُصاحبة هذه الجموع، فهم متطلباتها وفهم قصديتها، وليس التهجُّم عليها والتهكُّم منها. الخِطاب الأيديولوجي الراديكالي لدى بعض المثقفين (من أيَّة وجهة كان: عروبي/فرنكفوني، علماني/ديني، ثوري/ محافظ...) عبارة عن عائق في فهم أبجديات هذا الحراك. يتلخَّص موقفهم في الطعن في مصداقيته وإرجاعه إلى قِوى خفيَّة تُحرّكه؛ الكل في أسلوب يغلب عليه الاستهزاء والاستخفاف.
رابعا: خِطاب الكراهية لدى النخبة فيما بينها: كذلك، يعمد بعض المثقفين إلى الطعن في زملائهم، إمّا لعدم اصطفافهم مع الحراك الشعبي، وإمّا للاصطفاف وراءه والدفاع عنه. في الحالة الأولى، هناك التخوين؛ وفي الحالة الثانية، هناك التأثيم بالانسياق وراء «القطيع». نجد أنفسنا أمام معركتين: (أ) معركة من يثق في الشعب ضدَّ النخبة؛ (ب) معركة من يطعن في الشعب. في الحالة الأولى، يستحضر المثقف خِطاب السرديات بالتغني بأصالة الشعب وهويته وثوابته وتاريخه البطولي والثوري، ويفتح النار على من يسميهم بالنخبة المستلبة الداعية إلى العلمنة والتغريب؛ في الحالة الثانية، يلجأ المثقف إلى خِطاب التخويف بأن يُوازن بين «الشعب» و«الطفل»؛ شعب قاصر لا يعرف مصالحه؛ شعب جاهل يميل بطبعه إلى التطرُّف الديني، وينبغي قيادته بالسوط والقوة.
عندما نتأمَّل جيّداً، نجد أنّ نادراً ما يفلت الأشخاص في مواقع التواصل الاجتماعي من خِطاب الكراهية، لأنّ لهم مبادئ يدافعون عنها أو ينضوون تحت راية أيديولوجية مُعيَّنة، تُعميهم عن رؤية الواقع بمسافة نقدية وموضوعية. تكمن الخطورة في أنّ السلوك تُجاه الواقع والموقف من هذا الواقع قد يسقطان في نوعٍ من «الفصامية»، بالتهجُّم السهل في مواقع التواصل الاجتماعي والتزام الصمت جُبناً وتقيةً في الواقع الحقيقي. في نهاية المطاف، يُشبه العالم الافتراضي عالم الخيال الّذي تتضاعف فيه الهويات ويمكن تلفيق كلّ تهمة أو صورة في حضنه. الرهان في مجاوزة خِطاب الكراهية هو الخروج من المُتخيَّل الفاسد من اصطناع الذات نحو الواقع المُباشر لمواجهته بالشجاعة الفكرية والفكرة البنَّاءة. ما عدا ذلك لغطٌ ومتنفَّس.
لطفي دهينة/ باحث وأستاذ العلوم السياسية بجامعة قسنطينة 3
تصاعد هذا الخِطاب على وسائل التواصل يعتبر مُؤشرا خطيرا
أضحت مواقع التواصل الاجتماعي تُتيح مساحات كبيرة من الديمقراطية وحُرية التعبير، لكنّنا في المقابل لا نستطيع إنكار أنّها أصبحت منبرا يتزايد فيه خِطاب الكراهية بشكلٍ رهيب، فموقع مثل "الفايسبوك" اعترف مؤخرا بأنّه يجد صعوبة بالغة في مواجهة الكَم الكبير من المعلومات الخاطئة والمُضللة وخطابات الكراهية، الشيء الّذي يُؤكد أنّ هذه الظاهرة أصبحت مُستفحلة على المستوى العالمي وتستدعي الوقوف أمامها مطولا في محاولة لفهمها والتصدي لها.
خِطاب الكراهية يجد مناخه المُناسب للانتشار في المجتمعات التي تتعدّد فيها المناطقية والقبلية والعشائرية، إضافة إلى الطائفية والمذهبية وتختلف فيها الإيديولوجيات، حيث تتعدّد وجهات النظر وتختلف الآراء التي تصطدم بعقليات متكلسة ترفض الآخر ولا تقبل تعدّد الأفكار وتبتعد عن الحوار الهادف البناء، وتغض الطرف عن مساحات الالتقاء وإن كانت كثيرة وتُسلط الضوء على نقاط الاختلاف وإن كانت قليلة، ونجد أنّ تطور وسائل التواصل الاجتماعي زاد في اتساع مساحة التعبير عن الرأي والترويج للأفكار والمُعتقدات وصَاحَبَ ذلك تزايدٌ كبير في حِدة الاستقطاب وخِطابات الكراهية بفعل إمكانية ولوج الجميع دون استثناء لهذه الوسائل وإمكانية النشر فيها بكلّ سهولة ويُسر دون ضوابط مُحدّدة أو قيود مُعينة، مِمَا حولها إلى ساحات مفتوحة للحروب الافتراضية بين حاملي مختلف الأفكار ومُعتنقي مُختلف الإيديولوجيات.
لكن الأمر لا يتوقف عند ذلك، حيث يلعب الإعلام المُوجه والمُمول دورا سلبيًا للغاية، فهو يُساهم في تأجيج هذه الخِطابات بفضل المواد الإعلامية التي يبُثها ويُروج لها والتي عادة ما تخدم أجندته أو أفكار صاحب التمويل، هذه المواد الإعلامية التي تتميز بسهولة النقل والانتشار على مواقع التواصل الاجتماعي دون تمحيص لمدى صِدقها أو حقيقتها وذلك ما يُساهم في انتشار الكثير من الأفكار المغلوطة والأفكار الموبوءة.
إنّ خِطاب الكراهية لا يمكن له أن ينتشر لو لم يجد بيئة مُناسبة تتميز بعدم قبول الآخر وكثرة التحليلات غير الواقعية والتي لا تتميز بالعقلانية مِمَا يجعل قراءة الأحداث وتفسيرها يكون مبنيًا على العاطفة وليس على المنطق العقلي وبعيدا عن سياقاتها التي تحدث فيها، مِمَا يقود إلى الانحراف بالتفسير عن الحقيقة إلى ما يخدم التوجهات المختلفة، وأي مُخالف في الرأي يتعرض لوابل من التُهم وعبارات القدح والتخوين وعدم الفهم، ولا جرمَ أنّ هذا السلوك سيؤجج العداء ويزيد في الهُوة التي تفصل أبناء المجتمع الواحد عن بعضه البعض.
يمكن القول أنّ تواصل المنحى التصاعدي في خِطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي يعتبر مُؤشرا خطيرا قد يؤدي إلى تفكك المجتمع وزيادة انفصام مُكوناته المُختلفة بدل تلاحمها وانصهارها في بوتقة المُواطنة التي تعتبر عاصمًا لمختلف مُكونات وفئات المجتمع، لذلك وجب التحرك بشكلٍ جديّ لمُواجهة هذا الخِطاب من خلال إعادة النظر في ضوابط الإعلام ومضمونه، وتتبع مصادر خِطابات الكراهية ومُعاقبة أصحابها، وهذا ليس بالأمر الصعب كما أنّنا لسنا بدعًا في ذلك حيث سبقتنا كثيرٌ من الدول إلى ذلك على غرار ألمانيا التي سنتْ قوانين خاصّة تُعاقب على خِطابات الكراهية وتفرض عقوبات حتى على مواقع التواصل الاجتماعي التي تسمح بنشرها.
كما أنّ مواقع التواصل الاجتماعي في حد ذاتها مُطالبة أكثر من أي وقتٍ مَضى بالمساهمة بشكلٍ فعّال في التصدي لهذه الظاهرة والتعامل بشكلٍ إيجابي مع الحكومات في سبيل ذلك، ونجد أنّها قامت فعلا بخطوة مُهمة في هذا الطريق خاصة شركات فايسبوك وتويتر وجوجل التي قامت بتأسيس قاعدة بيانات مُشتركة تتعرف تلقائيًا على المحتوى العنيف وتقوم بعد ذلك بحذفه.
لكن ذلك غير كافٍ ما لم يُصاحب ذلك عملٌ كبيرٌ من طرف الحكومات والمجتمع المدني ووسائل الإعلام للمساهمة في رفع الوعي المجتمعي والتشجيع على الحوار الهادف والبناء لمواجهة الأفكار الهدامة التي قد تقود إلى التطرف وتغذي منابع الإرهاب، ويجب تحفيز مرتادي هذه المواقع على عدم التسرع في نشر كلّ ما يصل إليهم وضرورة تقييم مصادر الأخبار والمعلومات المُختلفة للتحقق من مدى صدقها واكتشاف المعلومات الخاطئة وعدم المساهمة في نشرها.
أحمد دلباني/ كاتب
نافذة مُشرعة على كلّ أشكال الكراهية
يُمكنُ اعتبارُ وسائط التواصل الاجتماعي المختلفة بمثابة "حصان طروادة" العولميّ الّذي اخترقَ أسيجة الدولة الأمنية العربية وجعلها تنفتحُ، قسرًا، على العالم بمعزل عن الرقيب التقليديّ والإيديولوجية الرسمية. هنا تكمنُ أهيمتها المؤكدة بالنسبة لنا على الأقل على اعتبار أنّنا عانينا –كغيرنا من بلدان العالم الثالث– من مثالب الأُحادية والرقابة والقمع. ولكنّنا نلاحظ، من جهةٍ أخرى، أنَّ هذه الوسيلة التكنولوجية فتحت أبوابَ المكبوت الجنسيّ والاجتماعي والسياسيّ وكشفت عن بنيات المُتخيل الجماعي وكأنّها ضربة عصا سحرية أزاحت الغطاء عن اللاشعور الجمعيّ ومُجمل الدوافع المرتبطة بأعماق التركيبة السوسيو- نفسية للفرد. لقد طفا "الأنا الأعلى" على السطح عبر كتابات وتصريحات بعض المُدوّنين بطريقةٍ انفلت فيها سديمُ الرغائب الكاشفة عن نوازع لا تعبرُ، في معظمها، عن تفكير شخصيّ عقلانيّ متزن بقدر ما تكشفُ عن ردود أفعال العقل الجمعيّ إزاء التغير الحاصل في الواقع الاجتماعي بفعل التحديث المتوحش وغير المدروس. إذ يمكننا أن نلاحظ، بسهولةٍ ويُسر، أنَّ شبكات التواصل عندنا أصبحت نافذة مُشرعة على كلّ أشكال الكراهية والشتائم والعُنف والعنصرية تُجاه الآخر المُختلف دينيًا أو لغويًا أو إثنيًا وتُجاه المرأة بالخصوص، ما يُفصحُ عن دوام هيمنة النزعة الذكورية والبنية البطريركية سوسيولوجيًا وثقافيًا.
لقد وقفنا، بمعنى ما، على أشكال ممانعةٍ ظاهرة لمحاولات تغيير لم يُلامس أعماقَ بنيات التخلف التي يعتصمُ بها الكثيرون دفاعًا عن مواقعهم الاجتماعية وسلطاتهم الموروثة. كأنّنا نشهدُ حربًا ضدَّ ما تعتبره البنية الذكورية-المركزية تهديدًا بالخصاء في مجتمع يتململ نحو التحديث والمساواة بين الجنسين على حساب أشكال الهيمنة الذكورية التقليدية في الفضاء الاجتماعيّ. ألم يدعُ البعض إلى ضرورة انسحاب المرأة من المسيرات في الحَراك الشعبي الجزائري؟ ألم يتمَّ تهديدُ المرأة من قِبل بعض من يدَّعي أنّه يريدُ بناء الجزائر الجديدة؟ ولكن هل يُمكن، فعلا، تدشينُ عهد جمهوريةٍ جديدة ترسخ قيمَ المُواطنة وتضمن الحرية والكرامة والعدالة والمساواة بذهنياتٍ مُماثلة؟ هل يُمكن أن تولدَ الديمقراطية المنشودة دون إحداث ثورةٍ في عالم القيم تنهضُ على خرائب العوالم القديمة التي ظلت تحمي البنية القمعية التراتبية القائمة على أساس ديني أو جنسي؟
يبدو لي -بخصوص الحديث عن الكراهية– أنّنا نستطيعُ مقاربتها بصورةٍ أعمق بعيدًا عن اعتبارها انفعالا عابرًا يجعلنا ننفرُ من المختلف. إذ تثبتُ الوقائعُ ويثبتُ التاريخ أنّها كانت، في أحايين كثيرةٍ، في أساس برامج وتوجهات إيديولوجية عنصرية كارثية. لذا أعتقدُ أنّه من الأنسب، ربّما، أن نتناول هذه الظاهرة -التي أصبحت تميز ردود أفعالنا وتتحكمُ في حكمنا على الظواهر والأشياء- بنوع من التعقل الّذي يفرض علينا، بداية، عدمَ الانسياق وراء الهياج السَّائد حاليًا إعلاميًا وسلوكيًا. فمن الخطأ، ربّما، التوقف عند رؤية الجزء الظاهر من الجبل الجليدي كي نُعلن عن خيبتنا إزاء الإنسان الجزائري وقد تحوّل فجأة إلى كائن عنصريّ يكره المُختلفَ ويحاربُ الاختلافَ الدينيَّ واللغوي والعرقي ويدعو إلى قمع المرأة. أعتقدُ أنّ للظاهرة التي تطفو على سطح حياتنا نبذا وكراهية ورفضًا للآخر المُختلِف جذورًا يمكن ردّ بعضها إلى الفشل في بناء دولة المواطنة والحقوق بالمعنى الشامل. فالقضية، بهذا المعنى، مسألة تتعلقُ بإخفاق الدولة الوطنية -منذ فجر الاستقلال– في توفير المناخ العام لممارسة المواطنة والحريات وضمان شروط العيش المُشترك. لقد ظلت هذه المشكلات مُؤجلة وظلت تُعتبرُ ثانوية قياسًا إلى مهام الدولة الاجتماعية والاقتصادية العاجلة زمن سيادة الحزب الواحد بإيديولوجيته الشعبوية كما هو معروفٌ. ولكنَّ انفجار "المسألة الثقافية" أواخرَ القرن الماضي بعد انهيار الإيديولوجيات الخلاصية الكبرى قذف بقضايا الهُوية إلى السطح ما جعلها تصبحُ طوقَ نجاةٍ للملايين الذين لم يعودوا يعثرون على أنفسهم إلاّ في تلك الروابط التقليدية التي تُميز المجتمعات المُغلقة السابقة على وجود الدولة الوطنية. أصبح نرسيسُ الخائب يعتصمُ بهويته الموروثة ويدافعُ عن وجوده من خلال كره الآخر المختلف وتأكيد فحولته المُهدَّدة في وجه المطالب الحقوقية الناشئة للمرأة. من هنا رأينا انفجارَ الأصولية الدينيَّة وتنامي النزوع الإثني الشوفيني ومعاداة المرأة ويقظة المطالب الثقافية العالقة من غفوتها النسبية في صورة عنفٍ وعنصرية وكراهية. لقد كان من نتائج فشل الدولة الوطنية في تحقيق الانتقال الهادئ إلى الحداثة -من خلال التفكيك المتوازن للروابط التقليدية- أن انفجرت في وجوهنا قارة المكبوت من جديدٍ عبر وسائط التواصل من قِبل فئاتٍ شبانية لم تجد، منذ عشرياتٍ، سندًا ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا يعصمها من التطرف والارتماء في أحضان الأصوليات المختلفة.
يمكننا، بالتالي، أن نقفَ على جذر التنابذ بين الجزائريين، اليوم، في سياق يتجاوز ما يُمكنُ أن نرى فيه تحولا مُرعبًا أو خيارًا فئويًا. إنّه النتيجة المُلازمة حتمًا لظروفٍ لم تتمكن بصيرة السياسيّ الإيديولوجي سابقا من استشرافها والعمل على تفاديها من خلال برامج تحتويها سياسيًا وقانونيًا وثقافيًا وتربويًا. ومن الضروريّ أن نلاحظ أيضا، على ما أرى، أنّ هذا الأمرَ لا يتعلقُ ببلدنا وحده وإنّما يُمكنُ اعتباره من إفرازات العولمة الليبرالية التي بوَّأت الهوية الصَّدارة مكان مشكلات التنمية والارتقاء بحقوق الإنسان. إنّ تطاحن "القبائل الكوكبية" يصنعُ ربيعَ اليمين الثقافي والسياسيّ تحت سماواتٍ أُخر وهو ما يتجلى بصورةٍ واضحةٍ في العنصرية المُتفاقمة في الغرب اليوم أيضا وفي الانكماش الهُوياتي لأحفاد من بنوا مجدَهم في الماضي على "الأنوار" الكونية والتبشير بقيمها التي حملوها إلينا مع الاستعمار. فالمسألة، بهذا المعنى، تُعبّرُ عن أزمةٍ من أعمق أزمات فشل الوعود العولمية في تحقيق نهايةٍ سعيدةٍ للتاريخ. لقد أصبحت الهويات -التي تُعبّرُ عن حاجة الإنسان الطبيعية إلى الانتماء- "قاتلة" بتعبير أمين معلوف. ولكن كيف حدث هذا؟ من المعروف أنّ هذا الميل إلى الانكماش أصبح، بدوره، علامة على الخيبة في عالم لم يَعُد يعِدُ بالكثير بعد أن توارى الصَّخبُ الإيديولوجي التقليدي الّذي رافق معظم المشاريع الطليعية، وبعد أن خبا ضوءُ اليوتوبيا التي ظلت تنتظرُ انعتاقَ فينيق التقدم من رماد الأزمنة. لا تولدُ وردة الشوفينية والعنصرية السَّوداء إلاّ على أنقاض الفشل في احتضان التاريخ.
إنّ الظاهرة ذاتُ بُعدٍ أنثروبولوجي أيضا كما يفهمُ ذلك الباحثون الأكثر طليعية في العالم اليوم. فلا تفريغ لشحنة العنف الكامن في العلاقات الاجتماعية إلاّ من خلال توجيهها إلى "كبش فداء" يتمّ تحديدُه باعتباره الآخرَ الّذي يجعل الذاتَ الجماعية تشعرُ بهويتها وتماسكها وحدود تمايزها عن الآخر. هذا تفسيرٌ معقول إلى حدّ كبير لما تتميز به حياتنا اليوم من كراهية وعنصرية وتراشق وتعصب وتكفير. ألم يكتشف الجزائريون، مثلا، وطنيتهم وشوفينيتهم المُبالغ فيها سنة 2009 ومنتخبُهم لكرة القدم يُواجه نظيره المصريّ؟ ألم يستثمر النظامُ السياسيّ في هذا الأمر بصورةٍ جعلته يربحُ جولة من جولات مناوراته مع أزمة فشله المدوّي على كلّ المستويات من خلال توجيه الغضب الكامن عند الجماهير إلى "كبش الفداء" المصريّ؟ لقد وقعنا، بكلّ أسفٍ، في شرك ما كان يُسمّيه البصيرُ نيتشه "غريزة القطيع". والمؤسفُ في الأمر هو انجرافُ الكثير من "المثقفين" في القطرين الشقيقين إلى أرضية الشوفينية تحت تأثير "أفيون الشعب" الجديد. لقد غاب عنهم بكلّ بساطةٍ تمثل دور المثقف النقدي الّذي ينزل كأورفيوس في دركات الجحيم السوسيو- سياسي من أجل استنطاق المكبوت ومساءلة الذات العميقة في أبعادها الخفية وفضح ألاعيب السياسة والخطابات الإيديولوجية الرسمية التي تحاول الاستثمارَ في هذا المجال بطريقة مخزية.
يكشفُ هذا الأمرُ، أيضا، عن فشل محاولات بناء هوية جماعية تتجاوز العصبيات التقليدية وأشكال التضامن السَّابقة على الدولة الحديثة الناشئة بعد الاستقلال. وبالتالي فالمشكلة ثقافية وسياسية بالأساس. لم ننجح –كالكثير من بلدان العالم بعد انهيار الإيديولوجيات الخلاصية– في تعويض الخطاب التقدمي الكلاسيكي بخطابٍ ينفتحُ على ما ظل غائبا: الحقوق الثقافية التي تبقى الضامنَ الأكبر للاحترام المتبادل ولبناء هوية جديدةٍ تعددية الطابع تكونُ سبيلا واثقة إلى ترسيخ أسُس العيش المُشترك. لا تنفعُ المناحة على ما آل إليه الجزائريُّ في هذا الشأن. كما لا تنفعُ المواعظ الأخلاقية البائسة بالطبع. على العقل السياسيّ الجزائريّ أن يتجدَّد وأن يُعالجَ تصلبَ شرايينه بالانفتاح على الروافد التي بإمكانها أن تجعله غضًا دائمًا: الواقع المتحول وفتوحات المعرفة.
خليل بن الدين/ كاتب وإعلامي جزائري
الفيسبوك تحوّل إلى وسيلة لإشاعة الكراهية
خِطاب الكراهية والتعصب، تحدٍ مثير ومُرعب في زمن تعرف فيه وسائل الإعلام الحديثة تنافسًا شرسًا في إيصال المعلومات إلى الجمهور، فالتريث والتحقق من الصور والمعلومات أصبح يُشكل هاجسًا حقيقيًا للصحفيين المحترفين، بينما أصبح الفيسبوك شارعًا افتراضيًا يلتقي فيه الناس كما كانوا يفعلون في المقاهي يتبادلون الأخبار صحيحها وإشاعاتها دون تمحيص ولا استدلال.
ولكن الفيسبوك لم يعُد مجرّد وسيلة لتبادل الأخبار، والصور. ولكنّه تحوّل إلى وسيلة يستعملها البعض في إشاعة الكراهية بين الناس، كما استغل الإعلام سياسيون وناشطون للدفاع عن الجهوية والثقافة المحلية، والدين، والمذهب، والعِرق. ما أدى إلى احتمال إحداث أذى. فسرعة التواصل وسهولته، وسهولة الرد والتحاور والانتشار، كلها عوامل أدت إلى تشجيع انتشار خِطاب الكراهية الّذي كان قبل ذلك حبيس اللقاءات المباشرة أو وسائل الاتصال التقليدية والتي كانت محدودة في السرعة وفي التأثير.
هذا المدى الخطير الّذي وصل إليه خِطاب الكراهية عبر الفيسبوك ووسائل الاتصال الحديثة أدى بالأمم المتحدة إلى تحذير شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك" بكونها تُخاطر بتقديمها إلى مُحاكمات جرائم حرب دولية لدورها في انتهاكات حقوق الإنسان المُقبلة، ودعتها لمعالجة خِطاب الكراهية بسرعة أكبر. وهو الاستنتاج الّذي وصل إليه المفوض السامي لحقوق الإنسان بمنظمة الأمم المتحدة "زيد رعد الحسين" الّذي قال: "إنّ فيسبوك تُخاطر بأن تصبح شريكًا في الجرائم المُروعة". يأتي ذلك بعد أن قال تقريرٌ أُممي حول الأعمال الوحشية في ميانمار إنّ فيسبوك كانت "أداة فعّالة" لأولئك الذين يسعون لنشر الكراهية.
أمثلة ذلك كثيرة، لعل أحدثها على الإطلاق ما تعرضت له شركة فيسبوك من انتقاد شديد بعد مجزرة المسجدين في مدينة "كرايستشيرش" بنيوزيلندا، حيث قام المُهاجم الأسترالي "برينتونتارانت" (28 عاما) المُؤمن بفكرة "استعلاء العِرق الأبيض" ببث أحداث قتله بدم بارد، وحقد واضح للمصلين، مُباشرة على موقع فيسبوك في 15 مارس 2019.
صحيح أنّ شركة فيسبوك تقوم يوميًا بغلق عشرات الحسابات المُتطرفة والداعية للكراهية الإنسانية، كمثل قرارها حظر حسابات في ميانمار التي عرفت مجازر كبرى في حق مسلمي الروهينغا الذين فر منهم آلاف الأشخاص بما فيهم الأطفال والنساء إلى دول الجوار خاصّة إلى بنغلاديش، خوفًا من تعرضهم لما أصاب قومهم من قتل جماعي واغتصاب وسرقة وتعذيب، وكانت فيسبوك قد اتُّهمت بالسماح بنشر معلومات كاذبة وخِطاب الكراهية على موقعها مِمَا زاد من حِدة العنف.
لم تعُد فيسبوك مكانًا آمنًا بعد سرقة بيانات خمسين مليون من مستخدميها نفذتها شركة الاستشارات السياسية "كامبريدج أناليتيكا. ولكن هل تكفي اعتذارات فيسبوك المتكررة لمستخدميها عبر العالم في الحد من ظاهرة العنف اللفظي والاستغلال التجاري وانتشار خِطاب الكراهية بين الناس.
ما حدث من مجازر في بقاع كثيرة من العالم يحتاج إلى إجراءات صارمة تتخذها الدول لتنظيم هذا الفضاء الافتراضي، وليس انتظار ما يجود به مهندسو فيسبوك فقط من حظر لمواد الكراهية، لأنّ النار انتشرت في هشيم الفضاء الافتراضي، ويحتاج الأمر لإطفائها إلى مواد حظر خاصة وإجراءات ردع صارمة. وبالتالي فإنّ الإنترنت برمته يحتاج إلى قواعد جديدة لمنع انتشار خِطاب الكراهية وحماية الخصوصية والبيانات. لقد رحبت رئيسة وزراء نيوزيلندا "جاسيندا أرديرن" بقرار فيسبوك بحظر مواد "استعلاء البيض" من على منصّاته. وقال موقع الفيسبوك إنّه "سوف يُوسع من تعريفه لمحتوى الكراهية المحظور على الفيسبوك وإنستغرام". وقامت أستراليا وآيرلندا وألمانيا باتخاذ خطوات لتغريم شركات التواصل الاجتماعي إذا لم تعمل على تقييد انتشار المحتوى المُتطرف. ولكن هل تُعد هذه الإجراءات كافية لإطفاء نار الفتنة العالمية؟.
قال المُفوض السامي لحقوق الإنسان بمنظمة الأمم المتحدة "إنّ فيسبوك تُخاطر باستدعائها في محاكمات مُقبلة (للمتهمين بارتكاب أسوأ الجرائم) إذا لم تتعلم درسها من العنف". ويرى زيد رعد الحسين "أنّه ينبغي تنظيم فيسبوك بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، وليس من خلال الحكومات الوطنية". بينما يرى "مارك زوكربيرج"، مؤسس "فيسبوك" ورئيسه التنفيذي، إنّ هناك حاجة "لدور أكثر فعالية" من قِبل الحكومات والهيئات التنظيمية. وأضاف أنّه في كلّ يوم، تُتخذ قرارات بشأن تصنيف الخِطابات وأيّها يُعدُ خِطاب كراهية، وما الّذي يمكن أن يُعد دعاية سياسية، وكيفية مَنع هجمات إلكترونية مُعقدة.
تختلف الآراء وتتعدّد في كيفية الحد من ظاهرة انتشار خِطاب الكراهية عبر الفيسبوك، ولكن الخطر لا ينتظر مُجادلات السياسيين وتُجار تدفق المعلومات، والألياف البصرية، وأصحاب المصالح، وقادة موقع فيسبوك ولواحقه. فالحاجة أصبحت مُلحة لحوار يجب أن يجري مع المجتمع الدولي حول جدوى الإجراءات التي اُتخذت وهل كانت كافية أم لا؟. للأسف لا يبدو الرد إيجابيًا في هذه المرحلة الحبلى بالنقاشات على مستوى المهتمين والمختصين، ولكنّها نقاشات تغيب أو تكاد، عن لقاءات الفاعلين السياسيين، وأصحاب القرار الحقيقيين، ولا تعود إلاّ بعودة العنف إلى الظهور من جديد.
عبد الحليم مهورباشة/ باحث وأستاذ محاضر بقسم عِلم الاجتماع -جامعة سطيف2
خِطاب الكراهية تغذيه الصراعات الاقتصادية والسياسية والثقافية
هل هناك علاقة بين خِطاب الكراهية ووسائل التواصل الاجتماعي في المجتمعات الحداثية؟ كيف تغذي منصّات التواصل الاجتماعي خِطاب الكراهية؛ الّذي يتشكل في البيئات الإنسانية، وتحوله إلى مادة قابلة للتداول على منصّات التواصل الاجتماعي؟ أم أنّ الأمر لا يعدو أن يكون تلازمًا ظرفيًا وتوافقًا لحظيًا بين خِطاب الكراهية ووسائل التواصل الاجتماعي، لأنّ هذه المواقع الالكترونية أُنشأت بغرض التواصل بين الأفراد في المجتمعات العولمية؟
أعلم أنّ الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج إلى دراسات عملية، تنجزها مختبرات علمية، لكنّنا يمكن أن ندون ملاحظات سوسيولوجية حول واقع خِطاب الكراهية على منصّات التواصل الاجتماعي في المجتمع الجزائري، لذلك سنحاول على الأقل البحث في العلاقة بين الفئات الاجتماعية التي تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، كما هو رائج عندنا في الجزائر شبكة الفايس بوك، لأنّ الفروق الجوهرية بين هذه الفئات الاجتماعية تؤثر على خِطاب الكراهية وعلى رواجه على منصات التواصل الاجتماعي، كما أنّه من الواجب عِلميًا الإحاطة بمفهوم الكراهية، لأنّه مفهومٌ مُلتبس مع مفاهيم أخرى كالعنصرية، العداوة الاجتماعية، العدوانية...، لذلك سنلقي حزمة من الأسئلة لعلها تسعفنا في الوقوف على تخوم مفهوم الكراهية، من قبيل: هل الكراهية موقف اجتماعي وثقافي مبني على تمثلات سلبية تجاه الآخر؟ أم أنّ الكراهية وعي اجتماعي أثثته مسارات التنشئة الاجتماعية والثقافية للأفراد في المجتمعات الحداثية؟ كيف تُجذِر الصراعات الاجتماعية خِطاب الكراهية، وكيف تُغذيه التمايزات الاجتماعية في المجتمعات الحديثة؟ وكيف تحولت الكراهية إلى خِطاب على منصات التواصل الاجتماعي في الجزائر، بمعنى له مفرداته ومنظروه وأدواته؟
ليس مرادنا من طرح هذه الأسئلة الإجابة عنها في هذه المساهمة المُختزلة، وإنّما مُرادنا أن نضع القارئ في عمق إشكاليات الصلة بين خِطاب الكراهية ومنصات التواصل الاجتماعي، بالنظر إلى خصوصية المجتمع الجزائري، لذلك سنحاول لملمة الموضوع، من خلال مجموعة تصورات أولية حوله، ربّما يكون فيها الكثير من الذاتية، لكنّها تحاول أن تصف واقع الحال، وسنكون مسلحين بالخلفية السوسيولوجية في مقاربة الإنسان التواصلي، لنرسم معالم هذه العلاقة الملتبسة بين الخِطاب والتواصل، فمن الملاحظات السوسيولوجية الواجب تدوينها في هذا المقام، اختلاف الفئات الاجتماعية التي تتعاطى مع وسائل التواصل الاجتماعي (الفايس بوك نموذجا) من ناحية العمر(السن)، لأنّ هذه الفروق لها دلالتها السوسيولوجية، فهناك على الأقل ثلاث فئات اجتماعية مُتمايزة عمريًا، الفئة الاجتماعية الأولى، وهي الفئة التي استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي بعد اكتمال دائرة رشدها الاجتماعي، نرى أنّ هذه الفئة قامت بنقل الكراهية من الواقع الاجتماعي والثقافي والجغرافي إلى الواقع الافتراضي، بمعنى أنّ خِطاب الكراهية ليس صناعة منصات التواصل الاجتماعي، وإنّما نقلت الذوات الاجتماعية ما خبرته من كراهية في المعيش اليومي إلى الفضاء الافتراضي، طبعًا هنا دوافعه عديدة: كالصراع الأيديولوجي، الثقافي، العرقي،..، الفئة الاجتماعية الثانية، وهي التي تقع مباشرة بعد الفئة الأولى، وهذه الفئة استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي في منتصف رشدها الاجتماعي، فهي تجمع بين الكراهية التي اكتسبتها من خلال فعل التنشئة الاجتماعية والثقافية في البيئات الإنسانية، وبين انخراطها في خِطاب الكراهية الّذي تروجه منصات التواصل الاجتماعي، أمّا الفئة الثالثة، فهي الفئات الاجتماعية التي تعرفت على خِطاب الكراهية في مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب حداثة سنها من جهة، وانخراطها المُبكر في وسائل التواصل الاجتماعي من جهة أخرى، هذه الفئة خِطاب الكراهية لديها مصدره وسائل التواصل الاجتماعي، لأنّها تعيش بلغة السوسيولوجيين عزلة اجتماعية، وطبعًا، تعيد ربّما عن غير قصد صناعة الكراهية التي تروج له الفئات الاجتماعية الأولى، ويتجلى خِطاب الكراهية لديها في مواقف سلبية من بعض القضايا الاجتماعية التي لا وجود واقعي لها، ككراهية أنصار نادي رياضي ما.
الملاحظة السوسيولوجية الثانية؛ التمايز الاجتماعي وخِطاب الكراهية في وسائل التواصل الاجتماعي في المجتمع الجزائري، مثلا يسهم التمايز الجندري في تغذية خِطاب الكراهية على منصات التواصل الاجتماعي، فهناك خِطاب كراهية تؤسسه التمثلات السلبية لكلّ من الذكورة والأنوثة، ينطلق من الواقع الاجتماعي ليتمظهر في منصات التواصل الاجتماعي، مثلا التمثل السلبي تجاه عمل المرأة، فهناك خِطاب كراهية في منصات التواصل الاجتماعي تجاه المرأة العاملة، وهنا ليست مسألة موقف ثقافي من العمل، وإنّما موقف متعلق بالصراع من أجل الظفر بفرصة عمل، كذلك هناك علاقة ما بين خِطاب الكراهية والتمايزات الاجتماعية في المجتمعات الحديثة، وكأنّ منصات التواصل الاجتماعي تعيد إنتاج تلك التمايزات الثقافية والاجتماعية بين الأفراد، فكلّ تمايز اجتماعي يقوم على تصنيف اجتماعي للأفراد، وطبعا كلّ تصنيف يحمل في طياته كراهية في شكل رؤية دونية لفئات اجتماعية ما، لتبسيط الأمر، مثلا الفئات الاجتماعية العاملة لديها موقف سلبي من أرباب العمل، ينطوي على كراهية خفية تجاهها، تنعكس هذه الكراهية على مواقع التواصل الاجتماعي، فلاحظنا كيف يلجأ بعض العاملين إلى وضع أسماء مستعارة للترويج لكراهيتهم مرؤوسيهم ولكل من لا يتفقون معه في بيئة العمل.
في الأخير، هناك نوع من خِطاب الكراهية تصنعه مؤسسات أو منظمات أو أحزاب داخل المجتمعات الحديثة، تستخدم هذه المؤسسات وسائل التواصل الاجتماعي لترويج لخِطاب الكراهية، فنحن هنا أمام صناعة خِطاب بأتم معنى الكلمة، وليست مسألة عبور الكراهية من الواقع الاجتماعي إلى الواقع الافتراضي، وهذا النوع من خِطاب الكراهية تغذيه الصراعات الاقتصادية والسياسية والثقافية، ويكون هذا الخِطاب أكثر رواجًا في المنعطفات التاريخية الكبرى للمجتمعات الإنسانية، فهناك اليوم خِطاب كراهية تجاه أفراد وأحزاب وشخصيات عمومية على منصات التواصل الاجتماعي في المجتمع الجزائري.