قصة قصيرة
الطيب طهوري
حين وضعوه في القبر وألقوا بالتراب عليه ابتسم..
قال لرجليه ويديه: إلى مكانك عودي.. تحركت رجلاه ويداه والتصقت بجسده..
لرأسه قال: عد إلى مكانك يا رأسي.. وعاد الرأس إلى مكانه..
تفرق الذين دفنوه وعادوا إلى بيوتهم..
ارتفع أيها التراب، قال آمرا ما على قبره من تراب.. وارتفع التراب مبتعدا بشاهدتيه وطوبه..
وقف الحلاج.. نفض التراب عن جسده وكفنه وخرج.. لف الكفن على جسده وسار.. ببطء سار..
كل القبور وقفت له..
أشار إلى قبرين.. خرج اثنان منهما.. مشى الأول على يمينه.. الثاني راح يمشي على يساره..
قال لرجله اليمنى: تحركي بسرعة أكثـر يا يمناي..
لرجله اليسرى قال: تحركي بسرعة أكثـر أنت الأخرى..
حاولت الرجلان السير بسرعة أكثـر دون جدوى.. كان وهنهما واضحا..
قالتا معا: نحتاج إلى بعض الدم يا حلاج..
يا دمي، نادى الحلاج..
كان دم الحلاج بعيدا.. سمع النداء.. تحرك.. لكنه كان جامدا في جسد التراب..
ليس في مقدوري الإتيان إليك، رد الدم..
سمع الحلاج أصوات دمه في الريح التي مرت مسرعة به..
أشرقي يا شمس.. قال للشمس آمرا.. كان الوقت منتصف ليله..
أشرقت الشمس على دم الحلاج.. أرسلت أشعتها الساخنة جدا.. ذاب الدم وطار تحضنه الريح إلى الحلاج..
مد الحلاج دمه إلى الرجْلين، وأسرعت الرجلان..
كانت نبضات قلبه سريعة أكثـر من عادتها.. كان تنفسه متعبا..
صاح قلب الحلاج: أحتاج إلى بعض الدم حتى ينتظم نبضي ويستقيم تنفسك يا حلاج..
مد بعض الدم إلى قلبه..
مد البعض إلى يديه..
واصل سيره..
إلى أين يا حلاج؟ سأل رأسه..
إلى الحياة، أجاب الحلاج..
لا أرى جيدا، صاحت عيناه..
مد الدم إلى عينيه ورأسه..
واصل سيره.. سريعا كان..
جبة كانت في منزله لبسها.. ما في الجبة إلا الله، قال..
نظر من نافذة غرفته إلى البعيد.. ابتسم كعادته وخرج..
لبس مرافقاه ثيابهما.. وراحوا يتجولون هنا وهناك متأملين ما حولهم ..
كان الوقت ليلا صقيعيا وكانت شمس الحلاج مشرقة ترسل أشعتها الدافئة على جسده، وعلى جسديهما..
***
لا جثة للحلاج في القبر..
نظيفا قبره كان..
من أخرج جثته؟ تساءل الناس..
من تجرأ وفعلها؟ سأل الخليفة حراسه..
عليكم بإحضار جثة الحلاج.. ابحثوا عنها في كل مكان.. تحت الأرض ابحثوا.. في السماء ابحثوا، أمر الخليفة..
راح الحراس يبحثون ويسألون ليلا ونهارا..
في كل الأمكنة بحثوا، ولم يجدوا الجثة..
في المكان كذا رأيناه يقف، يقول الناس.. رأينا اثنين لا نعرفهما يرافقانه، يضيفون..
حيث يقفون تنحني أغصان الأشجار لهم.. أسرابا أسرابا تحوم العصافير مزقزقة والطيور مغردة فوقهم، يكملون.. وكما يظهرون فجأة يختفون فجأة.. ما إن نتقدم إليهم حتى يختفوا..
بعض فقرائهم يشهقون باكين وهم يسمعون صوته الشجي أمواجا أمواجا تأتي من كل الجهات، تارة:
والله ما طلعت شمس ولا غربت *** إلا وحبك مقرون بأنفاسي
وتارة:
روحه روحي وروحي روحه *** إن يشا شئت وإن شئت يشا
كيف يظهرون؟ كيف يختفون؟ كيف يأتي صوته من كل الجهات؟ لا ندري، يكملون حائرين متعجبين..
إلى المكان ذاك يسرع الحراس..
خذ بعض الحراس واردم قبره، قال الخليفة لقائد حراسه آمرا..
ردم الحراس القبر وعادوا.. مساء كان القبر عاريا..
ردموه مرة أخرى.. صباحا رآه الناس عاريا..
في المرة الثالثة صار التراب عاصفة غبارية هوجاء راحت تلطم وجوه الحراس وتملأ عيونهم..و..
عاد الحراس خائبين، ترتعد أجسادهم رعبا..
***
رأيته يقف هنا، قال الخليفة لحراسه.. أسرعت إليه بسيفي، لكنه اختفى.. كيف سمحتم له بالدخول؟ صاح..
في ليل الخليفة يأتي.. في نهاره يأتي..
وزع الخليفة حراسه.. داخل القصر وحوله.. شبرا شبرا وزعهم..
ما زال الحلاج يأتيني ليلا ونهارا.. كيف سمحتم له بالدخول؟ غاضبا، حانقا كان يسأل حراسه..
لا جواب عند فقهائه..
كوابيس فقط مولانا الخليفة، قال بعضهم..
تحتاج إلى بعض الراحة، قال بعضٌ آخرون..
غير مكان إقامتك، قال آخرون..
واصل الحلاج سيره..
لم يغب أبدا عن عيني الخليفة.. ليلا ونهارا كان يأتيه في إقامته الجديدة..
***
جن الخليفة، سمع الناس ورأوا..
راح الخليفة شبه عار يجول في الشوارع والأسواق.. أمامه كان الحلاج يسير.. خلفه كان يسير..
يا حلاج، انتظرني.. لا تبتعد.. سآتيك، كان الخليفة الضائع يصيح..
***
على أكتافهم حملوا الخليفة إلى قبره..
بجانب قبر الحلاج دفنوه..
كان قبر الحلاج كما كل القبور.