لم أكن أفكر أبدًا بالذهاب إلى كينيا، إلى هذا البلد الجواري مع تانزانيا والصومال والقريب من أثيوبيا والسودان. في الحقيقة، ابنتي ياسمين (14 عامًا) هي التي كانت تريد السفر إلى أفريقيا بعيدًا عن الجغرافية الأوروبية، فزملاؤها وزميلاتها في الإعدادية أغلبيتهم من أصول أفريقية، كانت ياسمين تفكر في البداية في تانزانيا، ثمّ غيرت وجهة السفر إلى كينيا، لأنّ الاتجاه الكيني أقل تكلفة.
باريس: محمّد زاوي
حينما اكتشفَ بعض الأصدقاء عبر الفيسبوك أنّني موجود في كينيا، ضحكوا وطرحوا عليّ نفس السؤال: ماذا تفعل في كينيا يا محمّد؟ فأجبتهم أنّ ابنتي ياسمين هي التي قادتني أنا وأمّها إلى هذا البلد. والحقيقة أنّني سعيد جدا ولم أندم أبدا على هذه الرحلة الجميلة التي قادتنا لكينيا الغنية بالألوان التي تملأ أريافها وقُراها ومُدنها.
كنتُ إلى آخر هذه الساعة أنشر صورا عن هذه الرحلة، أنشرُ صور الحيوانات التي أشاهدها لأوّل مرّة في حياتي، وصور الناس وهُم أمام بيوتهم أو أمام محلاتٍ تجارية صغيرة، أو صورا لنساء يطبخنّ أمام بيوتهنّ. من بين ما اكتشفته من كادر السيارة، أنّ الكينيات يُحضرنّ أطباق الغذاء خارج البيت وليس داخله. ومن بين ما اكتشفت أيضا أنّ وسائل النقل هي عبارة عن دراجات قد تحمل أربعة إلى خمسة أشخاص…
لقد طرح عليّ الصديق طهاري عز الدين (صحفي ورئيس تحرير سابق في الإذاعة) السؤال التالي: «لماذا كلّ الصور التقطتها من نافذة السيارة أخ محمّد؟». فعلا كان الكادر الوحيد الّذي أرى من خلاله الناس والمُدن والقُرى والأشياء الثابتة والمُتحركة، هي نافذة السيارة التي تُقلُنا، وليس أي شيءٍ آخر، فالبرنامج المُسطر لا يسمح لنا بالوقوف في أي مكان، فمثلا من أجل زيارة حظيرة الحيوانات البرية قطعنا مئات الكيلومترات، وحينما توقفنا، لم يُوقف السائق المُرشد السياحي سيارته في أي مكان كان، بل في مكانٍ مُخصص ومُرخص لهذا الوقوف، تُباع فيه كلّ أنواع الهدايا والتُحف. مكانٌ مُجهزٌ بمراحيض وبيوت غسيل نظيفة ويلتقي فيه كلّ السياح الذين يتوجهون لحظيرة الحيوانات، وقد بدا لي أنّ الترخيص بالخروج من السيارة ليس ممنوعًا في حظيرة الحيوانات البرية فحسب لأنّ هناك حيوانات مُفترسة ومُتوحشة، بل إنّ منع السياح من الاختلاط بالناس أيضا أمر غير مُقنن لكنّه سائد.
إنّ النظام السياحي الّذي تُسيطر عليه كِبار الشركات هو معمول بالطريقة التي تُلبي طلب الزبائن وثقافتهم الاستهلاكية، فالكثير من السياح الذين يحلون من بلدان أوروبية أو أي مكان آخر من العالم في أغلبهم تجدهم قد جاؤوا إلى البحر ولرؤية الحيوانات البرية، وليس لزيارة السكان المحليين، ولذلك تجدهم في عالمٍ مُغلق، تُلبَى لهم فيه كلّ حاجياتهم الغذائية والترفيهية، ويدخلون بعدها راضين ببعض الهدايا.
في الحقيقة لقد كنتُ أفضل المشي والتيه في القُرى والمُدن الكينية، والتعرف على معاش الكينيين وعلاقتهم بالحيوانات… فأنا أريد أن أعرف هذا الرجل الشاب الّذي يحمل خنجرا ويمشي بلباس أحمد… لماذا يحمل الخنجر؟
وكيف يعيش أهل (نساء ورجال) قبيلة الماساي والتحدث معهم ومعرفة نمط معيشتهم وثقافاتهم وعاداتهم… لكن لم يكن ذلك بالمُمكن، لأنّ الخدمات السياحية التي تُقدمها الشركات والوكالات السياحية الكُبرى لا تعطي حرية الحركة والتنقل.
فمثلا الستة أيّام التي قضيناها في فندقٍ أنيقٍ وجميل، بضواحي مومباسا، جعلتنا لا نخرج إلى الخارج.. لقد كُنا كامل هذه الأيّام قرب البحر، باستثناء يومٍ واحد ذهبنا فيه إلى سوق التوابل والخُضر والفواكه، وزيارة إلى حي عربي يُقيم به كينيون مسلمون من جذور عربية عمانية.
إنّ أغلب الأيّام التي يقضيها السياح في كينيا، تجعلهم يكتفون عادة بشاطئ البحر الّذي هو تحت حراسة من قِبل عُمال الفندق وتُقدم للسائحين جميع الخدمات، الأمر الّذي لا يجعل السياح يفكرون في الخروج إلى المدينة أو إلى القُرى.
إنّ الكثير من السياح يأتون بأفكارٍ مُسبقة، نتيجة لمقالات قرؤوها في صحافتهم أو إرشادات استمعوا إليها والتي تُعطَى لهم من الموقع الرّسميّ لوزارة خارجية بلدانهم، وهي إرشادات تُطالبهم بالحذر خاصة بعد التفجيرات التي عرفتها العاصمة الكينية من سنوات وكان وراءها تنظيم الشباب الصومالي.
لقد كانت كلّ الصور التي التقطها لهذا البلد ورجاله ونسائه من كادر النافذة الوحيد… حتى أنّ النافذة لم تكن نظيفة مثلما أريد وقد تحفظت أن أطلب ذلك من السائق المُرشد، ولا أعتقد أبدا بأنّ السلطات الكينية تمنع السياح من التصوير، بل يسري المنع على الثكنات العسكرية والأمنية فقط. إنّ الّذي لاحظته أنّ للسياح الأولوية في السير والحركة. بل لا يتم إيقاف سيارات الوكالات السياحية في الحواجز الأمنية التي كانت مُتواجدة بكثرة على الحدود مع تانزانيا... إنّها اختيارات هذا البلد الّذي يُعول على الموارد السياحية.
كينيا بلدٌ إفريقي، سعيد جدا بزيارته. وقد قربتني هذه الزيارة أكثر من لون البشرة السوداء… حينما كنتُ في لحظة الخروج من المطار، قالت لي مضيفة: إنّ وجه بشرتك ليس غريبًا علينا نحن الكينيون وأعتقد أنّني أعرف ابن عمك في مومباسا. نعم ففي مومباسا مثلا التي زرتها تمثل نسبة المسلمين أكثر من 35 بالمائة. جامبو كينيا، هي التحية التي تسمعها يوميًا عند الكينيين.