ممّا يميّز الموسيقار الإيطاليّ روسيني عن غيره فضلا عن تقلّبه الفنّيّ بين الأوبرا الجادة(Opera Seria) والأوبرا الهزليّة(Opera Buffa) كثرة الموضوعات الشرقيّة في أعماله، وتنوّعها اللافت للانتباه، فكان عمله الأول: “كيروش في بابل”(Ciro In Babilonia) سنة 1812، وقد استُلهمت مادّتُه من «العهد القديم»: الإصحاح الخامس من «سفر دانيال» الذي يرصد تفاصيل آخر ليلة من حكم «بلشصّر» (Baldassare) على بابل، حيث تمّ قتلُه بحكمٍ إلهيٍّ، صارمٍ، دون تحديد تفاصيل القتل وملابساته سوى أنّها نتيجة إغراقه في الظلم، والتهالك على المتع والملذّات، وما أضافته الأوبرا هو أنّ “بلشصّر” هذا كان قد اختطف “أميرا”(Amira) زوجة «كيروش» ملك فارس، الذي يهبّ لإنقاذها هي وابنه الأسير أيضا، غير أنّه يفشل، فيُسجَن، ويُعذّب، ولا تُكتَب له السلامة إلا لدى مقتل عدوِّه، وانتهاء حكمه.
بهاء بن نوار
وكذلك الأمر في أوبرا «أوريليانو في تدمر»(Aureliano In Palmira) سنة 1813، التي تنهل من التاريخ القديم، وتعود إلى تفاصيل دمار مدينة «تدمر» التي غزاها الرومان وهزيمة ملكتها «زنوبيا» على يد الإمبراطور «أورليان»، غير أنّها لا تكتفي بهذا الإطار التاريخيّ، بل تنسج من تفاصيله حكايات حب موازية، فتطالعنا شخصيّة «أرساس»(Arsace) حبيب الملكة “زنوبيا”(Zenobia) الذي يدافع عن المدينة بشراسةٍ، محاولا حمايتها من الرومان، غير أنّه يُؤسَر، ويخيِّره “أورليان” بين التخلّي عن حبيبته أو الموت، فيختار أن يموت، ويرفض الخيانة. ويبدأ الفصلُ الثاني بأورليان يعرض حبَّه على “زنوبيا” التي ترفضه بإباءٍ، فيسجنها، ولا تلبث “بوبليا”(Publia) ابنة القائد الرومانيّ “فاليريانو”(Valeriano) التي تعشق «أرساس» في سرِّها أن تناشد «أورليان» كي يرحمه، وهو ما يتحقّق في المشهد الأخير، حيث يلين قلبُه كثيرا، ويعفو عن الحبيبيْن، وتنتهي الأوبرا بنشيدٍ جماعيّ من الكورس، يشيد بحكمة «أورليان» وصلاحه. وممّا يشوب مرحلة البدايات هذه تسرّعٌ واستعجالٌ، غلبا على جميع أعماله، فلا يكاد العامُ ينقضي حتّى يكون قد أعدّ ثلاثة أعمالٍ أو أربعةً، أو حتّى خمسة، بل ستّة، كما في سنة 1812*، فكان يستعير بعض النغمات من هذا العنوان، ليضيفها إلى ذاك، أو يحوِّر في بعضها، فيخفى الأمرُ قليلا، ولكنّه لا يفوت الأذنَ المتنبّهة، والمتابِعة.
واستمرّ روسيني في نزعته التشريقيّة بالعودة إلى العهد القديم مجدّدا، من خلال: “موسى في مصر”(Mosé In Egitto) سنة 1818، التي أعاد تأليفها بالفرنسيّة، وقدّمها في باريس بعنوان: «موسى وفرعون»(Moïse et Pharaon) سنة 1827، وكان موضوعها المفصليّ مستوحى من «سفر الخروج» بتفاصيله المعروفة، مع إضافة قصّة حبّ تلوّن القصّة الدينيّة، وتمنحها مذاقا إنسانيّا، يأتي ليشكّل جوهر الأوبرا، ويمنحها تميّزها؛ وتأتي قصة الحب هنا لترصد علاقة «إلتشا»(Elcìa) ابنة عمّ موسى بأوزيريد (Osiride) ابن الفرعون، حيث ترفض الرحيلَ مع قومها العبرانيّين، وتفضّل البقاءَ مع حبيبها، ورغم استحالة هذا الحب، وفداحة تحدّياته، فقد تمّ التركيزُ على فداحة الهمّ الجمعيّ؛ عبوديّة اليهود، والظلم الذي يلقونه من المصريّين، وانتهى العملُ بتمكّنهم من عبور البحر الأحمر، واندحار أعدائهم.
وفي عمله المقدَّم في السنة نفسها: “ريتشارد وزورايد”(Ricciardo e Zoraide) يستمرّ في توغّله الشرقيّ، ويمضي بنا إلى بلاد النوبة، حيث يطالعنا العاشقان المتيّمان: “ريتشارد” المسيحيّ و”زورايد” النوبيّة، التي هُزم والدُها “إركانو”(Ircano) على يد الملك الجديد” “أغورانت”(Agorante) الذي يودّ ضمّها إلى حريمه، ويحاول حبيبُها إنقاذها، فيفشل، وتكاد قصّتهما أن تنتهي نهايةً داميةً لولا تدخّل “زوميرا”(Zomira) زوجة الملك الغيور، التي من مصلحتها إنقاذ العاشقيْن، فتفعل ذلك لتحفظ مكانتها في نفس زوجها، ولا يلبث الجيشُ المسيحيُّ أن يصل، ويهزم النوبيّين، وينتهي العملُ بلقاء الحبيبيْن، وعفوهما عن عدوّهما “أغورانت”.
وفي عمله الشهير:
“سميراميس»(Semiramide) سنة 1823، يأخذنا إلى الحضارة الآشوريّة، ويغوص عميقا في تفاصيل مأساة هذه الملكة، حين تقع في حبّ الجنديّ الشاب «أرساس»(Arsace) الذي ليس سوى ابنها، والذي قتلت سابقا أباه “نينو”(Nino) بمساعدة عشيقها “آشور”(Assur) وتتشابك خيوط المأساة حين يعلم “أرساس” المتيّم بالأميرة “أزيما”(Azema) حقيقة نسَبه، الذي تجهله أمّه أيضا، ولدى علمها أخيرا بالأمر، تحاول حمايته، غير أنّه يقتلها عن غير قصدٍ، وينتهي العملُ باعتلائه العرشَ وزواجه من “أزيما”.
وفضلا عن هذا، فقد كان للموضوعات التركيّة حضورها الكبير في أعمال روسيني، فنجده يعدّ عمله الشهير، ونموذج هذه الدراسة: “الإيطاليّة في الجزائر” (L'Italiana in Algeri) سنة 1813، ويردفه بعمله الثاني الذي لا يقلّ عن الأول شهرةً: «التركيّ في إيطاليا»(Il Turco In Italia) سنة 1814، والذي يأتي على نقيضه في الحبكة، وإن اشتركا في الموضوع؛ حيث يرتحل التركيّ/ الشرقيّ: «سليم» إلى أوربا/ إيطاليا، بحثا عن بعض المغامرات الطائشة، وتربطه هناك علاقة بسيدة متزوجة: «فيوريلّا» (Fiorilla) التي سرعان ما يكشف أمرَها زوجُها الثريّ: “جيرونيو”(Geronio) بوشايةٍ من الغجريّة “سعيدة”(Zaida) التي فرّت سابقا من الحريم، وبعد مفارقاتٍ ومصادفاتٍ مضحكةٍ كثيرة، يتصالحون جميعا.
وواضحٌ من خلال هذا العمل الهزليّ كيف بدت صورة “الشرقيّ”/ التركيّ وقد غدا معادلا للغفلة، والبلاهة، والتهالك على الملذات، ممّا يشكّل الصورة النمطيّة، التي شاعت في كامل أوربا منذ القرن الثامن عشر، فأتت أعمال روسيني المنصبّة في هذا الإطار مسايِرَةً لهذا التصوّر، ومنساقةً وراء ما يمليه الذوقُ العامُّ، فلم يكن يملك حريّة تخيّر الموضوعات أو انتقاء الحبكات، بل كان يستنفد جهدا كبيرا في سبيل إرضاء طلبات وأذواق وكلاء الأعمال.
وهو ما سيواصله في عمله الشرقيّ اللاحق، الذي أعدّه سنة 1820، أي بعد ستِّ سنواتٍ من «التركيّ في إيطاليا»: «محمد الثاني»(Maometto Secondo) وعاد فيه إلى المنحى التاريخيّ، ملتقِطا بعضَ الظلال الخفيّة من سيرة السلطان التركيّ «محمد الفاتح» وناسجا خيوط قصّة حبّ تجمعه بابنة حاكم المستعمرة الفينيسيّة في اليونان. ولم يلبث بعد ستِّ سنواتٍ أن أعاد تأليفها بنسخة ثانية بالفرنسيّة، بعنوانٍ جديدٍ: حصار كورنثة(Le Siège de Corinthe)
ويبدو من خلال تفاصيل هذه الأعمال كلّها ما يأتي:
ازدواج الأصول المرجعيّة، وتنوّع خطابها بين النصّ الدينيّ؛ الكتاب المقدّس، والنصّ التاريخيّ ممثّلا في محطّات التفاعل والاحتراب بين قطبيْ: الشرق والغرب، وقد بدا واضحا ذلك الحرص على تنويع الأقطار وتعدّدها، فحضرت «مصر» و»تدمر» و»بابل» و»آشور» و»النوبة» و»الجزائر» وغيرها.
تأليف هذه الأعمال خلال سنواتٍ متلاحقةٍ وإعادة كتابة بعضها بالفرنسيّة وتقديمها في باريس، وكذا جمعها بين الطابعيْن: الجادّ والهزليّ، ممّا يوحي بمدى حرص «روسيني» أو بالأحرى اضطراره إلى إرضاء الذوق العامّ، ومجاملته.
تخلّل قصّة حب افتراضيّة مجرى الأحداث التاريخيّة/ الدينيّة المعروفة، ممّا يعني ازدواج الحبكة، وتراوحها بين ما هو مرجعيٌّ وما هو تخييليٌّ، ولعلّ في هذا النزوع التخييليّ ما يجذب المتلقّي، ويشدّه أكثر نحو المتابعة، وبخاصّةٍ حين تكون الخواتيمُ سعيدةً، وينتصر خطابُ الحبّ – الذي يكرّسه الغربيّ الأوروبيّ غالبا – على خطاب الحرب والكراهية.
* قدّم خلال هذه السنة: «الحيلة البهيجة»(L'inganno felice) و"كيروش في بابل" و"السلّم الحريريّ"(La scala di seta) و "ديميتريو وبوليبيو"(Demetrio e Polibio) و"حجر المحكّ"(La pietra del paragone) و"الفرصة تصنع اللّصّ"(L'occasione fa il ladro)