يرتكز الاهتمام الدولي منذ سنوات بعيدة على السياحة الثقافيّة، التي تعتمد على ترويج واستغلال التراث الثقافي والحضاري للمُدن والأقاليم، وقد انتشرت وراجت وتوسعت أكثر مع انتشار الوسائط التكنولوجية والثورة المعلوماتية، وهي عوامل ساهمت في بروز هذا النوع من السياحة وازدهارها إلى حد أن أصبحت أحد أكبر دعائم وروافد ومقومات الاقتصاد في العالم، ما ساهم في إنعاش وانتعاش اقتصاديات الكثير من الدول. فكيف يا ترى هو واقع وحال السياحة الثقافيّة في الجزائر. وما هي أهم العراقيل التي تقف في وجه ازدهارها أو التي تتسبب في عرقلة رواجها ؟
استطلاع/ نوّارة لحـــرش
حول هذا الموضوع «السياحة الثقافيّة في الجزائر» كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد، مع مجموعة من الأساتذة والأكاديميين، في محاولة للوقوف على أهم أسباب تعطل أو تأخر ازدهار ورواج هذا النوع من السياحة الذي يُعد من أكبر مقومات اقتصاديات الدول.
يزيد غزال/ أستاذ وباحث -جامعة سكيكدة
فشل السياسات الترويجية أدى إلى تراجع السياحة الثقافيّة في الجزائر
لا يخفى على الجميع أنّ السبب الأساسي للأزمة التي نعيشها هو اعتماد الجزائر بشكل شبه كلي على مداخيل النفط والغاز كممول رئيسي للخزينة العمومية ولهذا كان لزامًا على صُناع القرار إيجاد النموذج الاقتصادي البديل الّذي يكون قادرا على مُواجهة أي هزات اقتصادية خاصة إذا عَلِمنا أنّ منظمة «أوبك» في حد ذاتها لم تعد قادرة على التحكم في أسعار النفط العالمية، وهذا لا يكون إلاّ بتنويع مصادر الدخل والانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد القائم على القيمة المُضافة، وفي هذا الإطار تُعتبر الجزائر من أغنى دول العالم وأكثرها تمتعًا بكلّ أنواع الموارد التي تؤهلها لتكون رقمًا صعبًا ليس اقتصاديًا فقط بل على كلّ الأصعدة وفي جميع المجالات.
تتمتع الجزائر كما ذكرنا آنفا بموارد كثيرة حباها الله بها في باطن الأرض وظاهرها ومن بين هذه الموارد موروثها الثقافي والحضاري والّذي يظهر مثلا في كمٍ كبير من الآثار والمعالم التاريخية المُنتشرة تقريبًا في كلّ ربوع الوطن والتي تعكس العُمق التاريخي الضارب بجذوره لهذه المنطقة وهذا الشعب العظيم، ساعدها في ذلك موقعها الجيوستراتيجي الّذي جعلها محجًا للكثير من الحضارات القديمة والتي أدت إلى غِنى وكذا تنوع كبير في الموروث الثقافي الّذي تراه كأبسط مثال في تنوع اللهجات من منطقة إلى أخرى وأحيانًا في نفس المنطقة.
ولكن وبالرغم من كلّ ما تقدم هل استطاع القائمون على شؤون السياحة في الجزائر استثمار هذا الكنز الثقافي؟ الإجابة على هذا السؤال للأسف الشديد هي: لا. بل أكثر من ذلك تُعاني هذه الكنوز إهمالا كبيرا قد يؤدي في المستقبل القريب إلى اندثارها والأمثلة هنا كثيرة لا يتسع المقام لحصرها ولكن نُذكِر فقط بآخر حادثة وقعت بالقصبة العتيقة (شهر أفريل من السنة الجارية) حيث أدى سقوط إحدى البنايات إلى وفاة شخصين وبالتالي تحولت هذه المنطقة نتيجة الإهمال من قِبلة سياحية كان يمكن أن تكون مصدر دخل إلى خطرٍ داهم يُهدد حياة المواطن.
وفي رأيي المُتواضع فإنّ غياب الإرادة الحقيقية للنهوض بهذا القطاع واعتباره مجرّد قطاع ثانوي بلا فائدة وإهمال الموروث الحضاري وعدم تثمينه وإعطائه المكانة اللائقة به، إضافة إلى ذلك البنية التحتية المُتهالكة والسياسات الترويجية الفاشلة كلها أسباب أدت إلى تراجع السياحة الثقافية في الجزائر. بالمقابل غياب الثقافة السياحية لدى المواطن وتعامله غير المُبالي مع المعالم الحضارية التي قد يتكبد السياح عناء آلاف الكيلومترات لرؤيتها بينما تبعد عنه ببضعة أمتار ولكنّه لم يرها في حياته، وهذا ما يُحمِله هو الآخر جزءا من المسؤولية.
وخلاصة القول أنّ الموروث السياحي الثقافي الجزائري غني ومتنوع ولكنّه واقع بين مطرقة مسؤولين غير قادرين على رسم سياسة عامة سياحية تكفل الاستغلال الأمثل لهذا الكنز الحضاري وسندان مواطن غير مبالي لا يرى لها أي أهمية تُذكر مقارنة مع أعباء الحياة اليومية الأخرى.
فوضيل خالد/ أستـاذ بجامعة قسنطينة 3 ورئيس جمعية حماية التراث الطبيعي والتاريخي ببجاية
رهَـان هُـويّة وتحدّي إقليـم
كان البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا مهدًا لميلاد مُدن عديدة. فالاستقرار الّذي أدى إلى التحضّر والمدنيّة وإلى انبثاق مُدن مُهيمنة هو تمصير عميق طبع بعمق سواحل المتوسط وترك آثارا تاريخية قيمة تحتاج إلى حفظ وترقية. نجد أنّ برنار كايسر اختتم مُقدمة كتابه «البحر الأبيض المتوسط: جغرافيا التصدّع» بقوله: «إنّ حياة المتوسّط مُمزّقة فهي من مُختلف وجوهها مُنجذبة نحو الخارج ومُحدّدة به، إنّها ليست مجموعة جغرافية بقدر ما هي مَجال ثقافي». فكيف إذا يُمكننا أن نتحدث عن «حواضر» أو مُدن الجزائر بِمَا أنّ هذه التسمية تُفترض وجود سُلطة تُمارسها المُدن سواء على المستوى المجالي أو الثقافي؟
هل هذه المُدن تحمل هُويات ثقافية وتراثية تجعلها ذات شخصية محليّة وهويّة مُميزة؟ أم هي مُجرّد محطّات للعولمة عاجزة عن دفع تطوّر اقتصادي محض ونشر أنماط ثقافية مُستقلّة قائمة بذاتها؟ لا ننفي كون المُدن الأمّ كانت قديمًا حيوية مُنتجة حيّة ناشطة ولعبت دورًا سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا هامّا. وكانت تسعى إلى إثبات وجودها وهويّتها في ملتقى ثلاث قارات إفريقيا أوروبا وآسيا. ونذكر منها مدينة بجاية -الناصرية- وقسنطينة -سيرتا القديمة- وإيكوزيوم عروس المتوسّط. يقول رايموند لاكومب: «لا يوجد إقليم بدون مستقبل، لكن يوجد إقليم بدون مشروع». نعتقد أنّ هذا المدخل كان ضروريًـا للحديث عن واقع السيـاحة الثقافيّة في الجزائر... وأسباب عدم ازدهارها وهو موضوع يكتسي أهمية كبيرة بالنظر إلى بُعده الاقتصادي خاصة مع تراجع مداخيل الريع البترولي.
يجب التوضيح أولاً أنّ التنظيم الإقليمي يفرض التّمييز بين الفضاء الجغرافي المادي العمراني وكذا التناغُمات الاجتماعية والثقافية والرّمزية التي يحملُها. وأي إستراتيجية يجب أن تأخذ البعدين بعين الاعتبار.
ثانيا: حالة السياحة الثقـافيّة في الجزائر في جزء لا يتجزأ من حالة السياحة بصفة عامة. كما نُنوّه لكون السياحة الثقافيّة في الجزائر تقع على عاتق وزارتين مُنفصلتين هُما وزارة السياحة ووزارة الثقافة. وهناك شرخٌ وانفصامٌ بين تصميم السياسات وتوزيع البرامج لمشاريع الثقافة من جهة ومشاريع السياحة من جهة أخرى. في ظل غياب رؤية إستراتيجية مشتركة.
ثالثا: ومن حيث التشخيص الميداني يمكن القول أنّ تراجع وعدم نجاح السيّاحة الثقافيّة في الجزائر يعود إلى الأسباب التالية: خاصية تدهور وهشاشة بعض أصناف التراث الثقافي.
كما أنّ هناك أصناف من التراث الثقافي لم يتمّ تصنيفها ولا تثمينها ولا حمايتها بصفة مقبولة (مواقع ما قبل التاريخ، القصور، المُدن القديمة، القصبات، القُرى التقليدية الجبلية)... أيضا مناطق صحراوية لم تخضع لأي تصنيف ولا حماية، كما توجد مواقع للثورات الشعبية لم تُحم من التخريب والنسيان. وأشكالٌ أخرى من التراث الثقافي المشترك (قرطاجي روماني، إسلامي، عثماني واستعماري...) تُعاني الإهمال والتّدهور.
من جهة أخرى غياب إستراتيجية تطوير وترقية واضحة للتراث الثقافي وإنّما لجأت الدّولة إلى تخصيص أغلفة مالية ضخمة في إطار عواصم الثقافة مثلاً (تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية قسنطينة عاصمة الثقافة العربية) ولكن دون تقديم قيمة مضافة للسيّاحة الثقافيّة. مثلا، قسنطينة التي احتضنت تظاهرة عاصمة الثقافة العربية لم يتمّ فيها ترميم ولو بناية واحدة من المدينة القديمة (السويقة). وبقيت تنهار وتتصدّع جُدرانها في عزّ التظاهرة.
أمّا بخصوص تصوّر إستراتيجية وطنية لترقية السياحة الثقافيّة، يجب أن تتوفر أولاً إرادة سيّاسية حقيقية للتفكير في تشكيل فضاء إقليمي جديد ذي بعد اجتماعي وثقافي يكون فرصة لكل مُواطن المشاركة والتنافس على تشييد إقليم مُستدام ومُنتج يحمل هوية تمكنه من التميّز قاريًا ودوليًا مِمّا يُعمق جاذبيته.
وعلى هذا الأساس أعتقد أنّه يجب العودة إلى المخطّط الوطني لتهيئة الإقليم (SNAT) لآفاق 2030 الّذي حمل بوادر برنامج عمل مُشترك لما تمّ تسميته (أقطاب اقتصاد التّراث). يستلزم فقط إيجاد الميكانيزمات القانونية والإدارية لتطبيق ما ورد فيه من أجل حماية وتثمين التراث الثقافي وجعله عاملا للتنمية المستدامة للمُدن وتفعيل جاذبية الأقاليم مِمَا يجعلها قِبلة سياحيّة تتحول إلى مَورد اقتصادي بديل عن البترول. كلّ هذا عن طريق سياسة سيّاحية ثقافية تشاركية وتكامليّة ما بين جميع القطاعات بصفة براغماتية ودقيقة تقتضي إحداث قطيعة مع المُمارسات القديمة للتخطيط المُمركز البيروقراطي القائم على صرف الأموال فقط.
يجب أن تقوم هذه الإستراتيجية بتنفيذ مَسار إجمالي ومترابط ينطلق بالجرد مرورًا بالتصنيف والاسترجاع وينتهي بالتّرقية والتّثمين، ويتوجّب هنا الحفاظ على القيم الثقافيّة للوقوف في وجه العولمة الكاسحة. فالسياحة الثقافيّة هي رهـان هويّة وتحدّي إقليم.
راضية لعجل/ باحثة في العلوم السياسية -جامعة صالح بوبنيدر قسنطينة 3
نحتاج إلى إشاعة الثقافة السياحية بين المواطنين
تتطلب الثقافة السياحية من المجتمعات المُضيفة التعامل مع ضيوفها بصدق وأدب وترحاب وذلك لإعطاء انطباع حسن عن بلدانها، حيث أصبح سائح اليوم كثير التطلب فلم يعد فقط يهتم بانتقاله إلى الأماكن للاستجمام والمُتعة بل أصبح يتطلع إلى اكتشاف الأماكن التي يزورها لا من ناحية المقومات الطبيعية فحسب وإنّما من ناحية التعرف على عادات وتقاليد وتاريخ هذه الشعوب، فهو لا يزور أماكن جامدة وساكنة بل يزور أماكن لها تاريخ عريق ولها عادات وتقاليد وطقوس، وذلك ما جعل السياحة الثقافيّة تأخذ صيغة أو وجهة عالميّة وأوجب التركيز على المُزاوجة بين الفعل السياحي والتراث الثقافي.
إنّ الجزائر بلد غني بتاريخ عريق وتنوع ثقافي لا نظير له، لهذا فالسياحة الثقافية فيه من أهم الرهانات التي يجب أن يُرفع فيها التحدي للنهوض بالاقتصاد وجعل الجزائر من الدول الأكثر جذبًا للسياحة الداخلية والخارجية، ولا يختلف اثنان في أنّ التراث المادي وغير المادي الّذي تزخر به الجزائر غنيٌ ومتنوع ويعود إلى آلاف السنين، وهو ما جعلها واحدة من البلدان الغنية بموروثها الثقافي، الّذي يمكن أن يُشكل انطلاقة جادة وواعية للسياحة الثقافية، خاصة إذا علِمنا أنّ الثقافة هي أحد أهم المُحفزات الأولية في اختيار الوجهات السياحية، فالجزائر لها موقع مُهم ومتميز على الخارطة السياحية العربية والعالمية نظرا لِمَا تزخر به من آثار عريقة وتراث ثقافي أصيل بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، مِمَا يؤهلها لتكون قِبلة سياحية بامتياز وخاصة للذين يُريدون الجمع بين مُتعة المناخ وجمالية الموقع وغِنى التراث الثقافي والتاريخي.
فإذا أُرِيدَ للجزائر النهوض بهذا القطاع يستوجب الأمر تكوين مواطن مُثقف سياحيًا وإن كانت المحاولة تبدو صعبة لكنّها تصبح سهلة مُستقبلا، حيث سيتم التعود على السياح وعلى استقبالهم، فالمواطن الجزائري بطبعه يتحلى بمكارم الأخلاق وحُسن الضيافة وهذا لا غبار عليه، لكن في هذا الصدد لا يكفي تكوين تقنيين أو أعوان استقبال في الفنادق وغيرها بل لابدّ من غرس ثقافة السياحة حتى لدى الطفل الصغير لأنّه مواطن الغد وهذا بإدخال مادة السياحة ضمن البرامج المدرسية، وكذا الاهتمام بمؤسسات نشر الوعي بداية من الأسرة فالمجتمع المدني وغيرها، إضافة إلى التركيز على إستراتيجية إعلامية مُوجهة وتثقيف المواطن وتحسيسه بمدى أهمية السياحة في تطوير البلد وما يمكن أن يستفيد هو كمواطن بسيط منها بتشجيع سكان المناطق السياحية للمشاركة في تنظيمات محلية لخدمة السياحة كتكوين ما يُسمى بجماعة الإرشاد أو الوعي السياحي.
وهذا التوجه يتطلب ضرورة النظر إلى السياحة كقطاع أفقي تتقاطع معه العديد من القطاعات الاجتماعية والثقافية، وبهذا فقط نستطيع خلق ثقافية سياحية مُستدامة إذا ما تمّ إحياء الموروث الثقافي ووضعه كمنتوج سياحي يسمح بتنمية المجتمعات المحلية ويقوم بالمحافظة والتعريف بهذا الموروث الثقافي على جميع المستويات الوطنية والدولية، وجعل هذا الموروث الثقافي صورة حية ناطقة تُعبِر عن أصالة ونمو حضاري للمواطن الجزائري من خلال احتراف الثقافة السياحية.
محمّد بلعيشة/ باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية -جامعة الجزائر 3
آلية لتجاوز دولة الريع
تُعتبر الجزائر دولة سياحية عالمية تكتسي وضعية استثنائية في السياحة الثقافية بِمَا تملكه من إمكانيات ومقدرات، توحي بأنّ هناك عائدات وأرباح خيالية قد تُنافس قطاع النفط لو أُجيدَ الاستثمار فيها بالشكل الأمثل، فامتلاك شريط ساحلي طويل وعمق صحراوي شاسع مع بيئة جبلية وغابية في الشمال يعطي الجزائر صفة الدولة السياحية بامتياز، لا تتوقف هذه الأهمية عند هذا الحد وإنّما تتعدى ذلك بامتلاكها رصيدا ثقافيًا عميقًا ضاربًا في التاريخ، فالجزائر تمتلك موروثا مختلفًا من الحضارات والثقافات المتنوعة من مُختلف العهود على غرار الاحتلال الروماني والعُمق الأمازيغي والحضارة الإسلامية ثمّ الوجود العثماني والاستعمار الّذي تُعتبر آثاره وآثار مقاومته شواهد حضارية تاريخية تُشكل قِطاعًا سياحيًا آخر بحد ذاته قد يُعادل لوحده الموروث الثقافي لدول أخرى، كلّ هذه الحقبات لا تزال لها آثارٌ ومُدنٌ وقصورٌ وأضرحةٌ ومساجد شاهدة على حياة الإنسان في هذه الأرض، مُعطية بذلك السياحة في هذا البلد وضعًا فريدا جدا، عِلاوة عن موروث تُراثي مُتناغم ومُتمازج ومُتنوع بداية من منطقة الأوراس إلى منطقة القبائل إلى الغرب الجزائري إلى الجنوب والتي تستقطب الفضول السياحي بشكل مُثير، ولأنّ كلّ مُنطقة في الجزائر تُؤرخ وتحكي وتروي تاريخها فإنّ السياحة فيها تكتسي الطابع الثقافي التاريخي فكلّ ولاية في الجزائر تُعتبر متحفًا طبيعيًا شاهدا على الحضارات التي كانت في الجزائر يضيق المقال بسردها تفصيلا.
يُقابل هذا الوضع السياحي المُتميز والإمكانيات الضخمة قصور في استغلال السياحة ذلك الاستغلال الأمثل والمطلوب، ويرجع هذا لعِدة اعتبارات: الاعتبار الأوّل هو خروج الجزائر من حِقبة استعمارية عقبتها فترات حُكم أسست لبناء دولة، عقبتها أزمة وطنية عُرفت بالعشرية السوداء الأمر الّذي جعل السياحة تحتل مراتب مُتأخرة في أولويات الحكومات الجزائرية المتعاقبة، أمّا الاعتبار الثاني فهو قصور وتردي ثقافة السياحة لدى المواطن الجزائري ومرد ذلك إلى المُخلفات الثقافية الاستعمارية والأوضاع التي عرفتها البلاد، والاعتبار الثالث هو وجود صورة نمطية لا تزال لدى السياح حول الأوضاع الأمنية الأمر الّذي ينعكس سلبًا على السياحة، أمّا الاعتبار الرابع فهو عدم وجود إشهار وتكريس الإعلام والفن لخدمة السياحة والتعريف بالجزائر للعالم، وهو ما يُفسِر سوء استغلال تكنولوجيا الاتصالات والاستفادة منها.على هذا فإنّه لإحداث ثورة سياحية في الجزائر لا يجب أن تكون النظرة ضيقة ومقتصرة فقط على مستوى الوزارة الوصية (السياحة والصناعات التقليدية)، بل يحتاج ذلك إلى مشاركة واسعة من طرف كلّ القطاعات (تعليم، ثقافة، أمن، زراعة، بيئة، تجارة....)، ويكون هذا بالعمل وتضافر الجهود لإنعاش هذا المصدر الاقتصادي الحيوي والمهم جدا، ولمعالجة التردي السياحي خاصة الثقافي في الجزائر فإنّه علينا التعامل معه وفق مستويين، مستوى داخلي يُهيئ الشعب ومؤسسات الدولة ويُرسخ ثقافة السياحة وقبول السائح الأجنبي والتشجيع على ذلك عبر المنظومات التعليمية والملتقيات والأيّام التحسيسية، إضافة إلى بناء وتطوير المرافق السياحية وترميم المواقع الأثرية وغيرها من الترتيبات، أمّا المستوى الثاني فهو مستوى خارجي منوط بالاستغلال الأمثل لوسائل التكنولوجيا والإعلام والأعمال الفنية للترويج للأهمية السياحية الثقافية في الجزائر.
وعلى هذا يمكن القول بأنّ الجزائر حاليًا تُنافس دولا سياحية رائدة بدون بذل نفس المجهودات إن لم نقل لا تبذل مجهودات جادة في سبيل ذلك، فكيف بها إذا جندت وحشدت الكفاءات والقدرات والإمكانيات اللازمة على مُختلف الأصعدة منها الحكومي والشعبي والأمني، فإنّ الجزائر بذلك ستتعرف على مداخيل جديدة تُجاري حتى المداخيل الحالية أو تُخفف عنها الضغط، وتُجنبنا هاجس الدولة الريعية وانعكاساته السلبية.
مريامة بريهموش/ أستاذة وباحثة في العلوم السياسية -جامعة صالح بوبنيدر قسنطينة 3
رهان الجزائر الّذي لا بدّ من العمل على تطويره
ليس فقط الجانب المادي هو الّذي يحكم توجهات الأفراد السياحية، وليس دائمًا الهدف هو مُتعة بصرية، حسيّة، لحظية وإنّما قد تكون حالة فكرية خاصة يختارها الفرد ليكون بها في مكان ما، يريد من خلاله أن يُلامس حضارة شعوب ضاربة في الزمان عميقة في فهم رموزها وتفكيكها مُبهرة في عظمة شواهدها، شواهدها التي تركتها هذه الشعوب لتُبين كيف أنّها استطاعت في صراعها مع الطبيعة من أجل البقاء والبناء، أن تتجاوز حدود زمانها المُنقضي قبل عصر الألواح الالكترونية والمتفوق عليها أحيانًا. لم تعد السياحة مُرتبطة بالفكرة التقليدية التي تنحصر في زيارة الشواطئ والغابات وأماكن الترفيه بغية التخلص من متاعب مرحلة من الكد، يُريد بعدها السائح أن يمنح لنفسه فُسحة للهروب من كلّ التزام جهد بدني كان أو حتى فكري، إنّ الشكل الجديد الّذي نتحدث عنه للسياحة هو السياحة الثقافية التي أضحت نشاطا إنسانيًا عالميًا اعترفت به الأمم المتحدة من خلال منظمتها للتربية والعلوم والثقافة اليونيسكو حتى أنّها في إحدى تعريفاتها للسياحة الثقافية تعتبرها طريقا للسلام بين الشعوب.
إنّ ميزة السياحة الثقافية أنّها بعيدة كلّ البُعد عن المُنافسة أو المُقارنة فكما توجد الأهرامات في مصر، توجد كذلك في المكسيك واليابان إلاّ أنّ أبسط استدارة في شكل الحجر أو تغيير بسيط في زاوية الميل يروي قصة مُختلفة، فالسائح هنا لا يتوقف عند فِعل المشاهدة للجماد الّذي يكاد يكون مُتشابهًا ولكنّه يسعى لاكتشاف التميّز الّذي تتركه كلّ حضارة، تميز يصنع الفرق بينها وبين باقي شعوب العالم فيكون لها موروثها الثقافي الخاص وسلوكاتها الحياتية التي تُصور أسلوبًا مختلفًا للعيش.
تُعد السياحة الثقافية رهان الجزائر الّذي لابدّ من العمل على تطويره نظرا لِمَا تتميز به على امتداد رُقعتها المكانية من آثار وشواهد تحكي عديد قصص الإبهار الحضاري التي صنعتها الشعوب السالفة، وقد تأتى لها هذا بحكم موقعها حيث عرفت تعاقبًا وتمازجًا للحضارات قلَّ أن يجود به التاريخ وكذا الجغرافيا، إلاّ أنّ الواقع يُبين غير ذلك، فالموروث الثقافي والحضاري الّذي تزخر به الجزائر مُهملٌ ويكاد يكون مجهولا حتى لدى أبنائها.
عمومًا الّذي يُعاني في الجزائر ليس السياحة الثقافية فقط وإنّما القطاع بأكمله يئنًّ تحت وطأة إهمال السُلطات وضعف التجهيز بل وحتى المواطن الجزائري الّذي من المفروض أن يكون الجِهة غير الرسمية في الترويج لمعالم وطنه وتنوعه الثقافي، ويسعى لابتكار الفعاليات المختلفة والمهرجانات التي تُؤسس لهذا الشكل السياحي الّذي أصبح يستهوي الأفراد عبر العالم الذين يُجِيدُون المزاوجة بين الفِعل السياحي والارتقاء الذهني، المواطن الجزائري غائبٌ تمامًا أنهكته الظروف الأمنية الصعبة التي عاشها سنوات التسعينات وألهته الأوضاع الاقتصادية الصعبة حتى كاد يفقد حسه في تلمس جمال الطبيعة وتذوق عناصر الفِعل الحضاري.
لابدّ أن تدرك الجهات المسؤولة في الجزائر بأنّ الموروث الثقافي هو ذخر الأمة الّذي بِه تَصنع مستقبلها وتثبت ذاتها وخصوصيتها في مواجهة باقي الأمم الأخرى. وعليه لابدّ لها من العمل على إحيائه واستغلاله بطريقة فعّالة لتنتقل به من مجرّد رسوم وأشكال هندسية على حائط إلى مصدر للدخل الوطني يُساهم بشكل فعّال في عملية التنمية المُستدامة للاقتصاد ويسمح بتوفير مناصب عمل للشباب تقضي من خلالها على البطالة وتُعيد لهم ثقتهم بأنفسهم وبوطنهم عندما يدركون كيف أنّ أجدادهم كانوا صُناع حضارة ومن هنا يمكن لهم أن يكونوا هُم صُناع مستقبل.
بلال قريب / أستاذ وباحث -جامعة محمّد خيضر بسكرة
الجزائر لم تستغل الموروث الثقافي ولم تستثمر فيه
توجهت العديد من دول العالم نحو الاهتمام بالسياحة الثقافية، حيث استغلت التراث الثقافي للمُدن والأقاليم الخاصة بها وكذلك جانبها الحضاري من أجل توظيفه توظيفًا يليق بها، وذلك بهدف استقطاب السياح من مُختلف مناطق العالم، وبالتالي هذا ما ينعكس عليها بالإيجاب من خلال جلب العُملة الصعبة وإنعاش الخزينة العمومية وبالتالي استغلالها في إنعاش القطاعات الأخرى (صناعية، زراعية، وخدماتية...الخ)، وهذا بدوره ما ينعكس على الاقتصاد الوطني ككل بالإيجاب، وطبعًا ما ساعدها ( أي الدول) في ذلك هو استغلال التطور التكنولوجي والإعلامي والّذي وظفته توظيفًا إيجابيًا من أجل التعريف بموروثها الثقافي والحضاري والخاص بأقاليمها ومُدنها، وكذلك استخدام مواقع التواصل الاجتماعي من (فيسبوك، وانستغرام، تويتر...الخ)، من أجل تقريب صورة الثقافة والحضارة الخاصة بها أكثر للأجانب والسياح بغية التأثير فيهم وجلبهم، ولنا العديد من الأمثلة سواء على المستوى العربي أو حتى الأجنبي لبعض الدول والتي استطاعت استغلال تراثها الثقافي والحضاري الخاص بأقاليمها ومُدنها من أجل تشجيع السياحة الثقافية وهو ما انعكس بالطبع على اقتصاداتها إيجابيًا ونذكر على سبيل المثال لا الحصر الجمهورية العربية المصرية، حيث استطاعت من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة والإعلامية وكذلك الوسائط الالكترونية، من الترويج للمنتوج الثقافي الفرعوني من كلّ جوانبه وكذلك حضارة النيل وغيرهما، حيث استطاعت مصر في مرحلة سابقة إنعاش اقتصادها الوطني والرفع من قيمة عُملتها الوطنية، وكمثال آخر نأخذ دولة تركيا اليوم وكيف استطاعت من خلال استخدام تكنولوجيا الإعلام إلى جانب الوسائط الرقمية من التعريف بالموروث الحضاري وثقافة أقاليمها، ونأخذ على سبيل المثال لا الحصر المسلسلات والأفلام الدينية، والتي استثمرت فيها تركيا استثمارا جيدا انعكس بدوره على اقتصادها الوطني والّذي عرف قفزة نوعية بفضل توافد السياح العرب والأجانب على أهم المواقع الأثرية التاريخية، وحتى توصل الأمر إلى زيارة مواقع تصوير تلك المسلسلات والأفلام.
وإذا ما تطرقنا إلى الحالة الجزائرية في مجال الترويج للسياحة الثقافية، فلأسف الشديد الجزائر تعرف تأخرا كبيرا في ركب موجة الاستثمار في هذا الجانب، وهذا على الرغم مِمَا تزخر به بلادنا من موروث ثقافي مُتنوع ومتعدّد، سواء تعلق الأمر بالسواحل، أو المناطق الداخلية وحتى صحرائنا، إلاّ أنّ الجزائر لم تستغل هذا الموروث الثقافي والحضاري لأقاليمها والاستثمار فيه من أجل إنعاش اقتصادها الوطني، وفي نفس الوقت عدم استغلالها للتطور التكنولوجي والإعلامي وحتى مواقع التواصل الاجتماعي من أجل التعريف به عربيًا وعالميًا.
ومن بين أهم عوائق السياحة الثقافية بالجزائر نذكر: عدم اهتمام القطاع العام بالسياحة الثقافية بالشكل اللازم وتردّد تام للقطاع الخاص، هذا الأخير الّذي يعتبر أنّ الخوض في هذا الأمر يعتبر مغامرة. أيضا ضُعف المنظومة الإعلامية من أجل الترويج للسياحة الثقافية. وعدم التكوين الكافي للمُرشدين السياحيين في جانبهم الثقافي ما أثر سلبًا على السياحة الثقافية. كما تسبب تطور العمران واللامبالاة في تدهور الموروث الثقافي لعديد الأقاليم ببلادنا. وفي الأخير وجب التنويه إلى أنّ الجزائر تمتلك من إمكانيات سياحية في مجالها الثقافي ما يسمح لها بأن تستغله الاستغلال الأمثل من أجل النهوض باقتصادها.