عندما يدان الكاتب بجرائم شخوصه
هذه مسرحية جميلة، ابتداء من عنوانها «سرير الدم» ، وهذان ممثلان يسيران في الطريق الجيدة لهذا الفن الكبير، ولقد اجتمع في هذا العرض ما يرتفع به ليكون عرضا راقيا ماتعا، ابتداء من النص وموضوعه خاصة مع إخراج الدكتور قدّور جدي، ومساعد المخرج الدكتور عيسى رأس الماء وهما الأستاذان بقسم الفنون جامعة وهران، سينوغرافيا عبد المجيد سريّج وموسيقى وإضاءة إكرام يوسفي، إنتاج تعاونية السبيل للفنون المسرحية والسمعية البصرية بوهران، غير أنّ المتلقي قد يرى في العرض نقاطا أو جزئيات يحب أن يظهرها ويعبر عنها. وقد تكون مثالب أو هفوات، كما قد تكون رؤية خاصة للمتلقي يرى فيها أصحاب العرض ابتعادا عن رؤيتهم ومنطق عملهم.من منطلق أنه لا عمل إنساني كامل، وأنّ وظيفة النقد الحقة هي الإضافة والبناء بقدر ما يكون الهدم والإنقاص.
يتناول العرض موضوع العلاقة بين الكاتب أو المثقف بنفسه وأفكاره من جهة، وعلاقته بالواقع من جهة أخرى، ويظهر هذا من خلال حكاية كاتب (يجسد الدور الممثل ميلود نهاري) له رواياته وأفكاره، يعيش في بيت بسيط بعيدا عن الناس، متفرغا لأعماله، في آخر الليل وهو غارق في لجة التفكير والكتابة يدق الباب، وبعد خوف وتردد يعرف أنّ الواقف بالباب امرأة، ثم وبعد تقديم قدم وتأخير أخرى وبصعوبة يفتح لها الباب للدخول، ويكتشف أنها هاربة، وأن هناك من يلاحقها، رجال وشباب يطاردونها، وكلاب تتبع هؤلاء المطاردين وتشاركهم البحث عنها. يضطر لإدخالها، رجل في خلوة مع امرأة، يتحدثان عن الكتابة، يكتشف أنها قارئة جيدة لما كتب، بل يكتشف أنها عشقت من خلال كتاباته، يتحدث الاثنان عن أفكاره، عن ابتعاده عن المجتمع وانزوائه، عن تهربه من المواجهة، يحاول ألا يقبل بها، خوفا، يحاول إخراجها، رهبةً، تعترف له أنها قتلت عشيقها الذي أحبته، لأنه استغل جسدها فقط، أحبت فيه الروح وأحبّ فيها المادة، وتطلب من مضيفها أن يتزوجها تكفيرا عن أخطائه، إنها تحاسبه على جرائم حبرية...جريمة التفكير والإدلاء بالرأي...جريمة الكتابة والتعبير بالحرف. يرفض الكاتب، تحاول المرأة إغراءه وتستمر في المحاولة، وينتهي الأمر بالنوم في سرير واحد. تقول له : « السرير يكفينا في زوج إذا راك باغي» فيظهر أنّ السرير الذي كان يظنه بعد تردد وخوف مكانا للمتعة أنه سرير للطعن بالخنجر...يظهر أنه «سرير الدم».
هكذا تقتل المرأة الغريبة الكاتب في بيته وتغادر.يبدو صوت يأتي من الفضاء يقول بأنها ليست الجريمة الوحيدة للمرأة، فما أكثر جرائمها وما أكثر من “ينقلبون إلى فرائس مهملة على هامش الحياة” بتعبير ورقة الإرشادات.
لا شكّ أنّ حكاية المسرحية نخبوية بامتياز، المثقف المغترب وعلاقته الماهوية مع أفكاره ومع مستهلكي إنتاجه. وهي تطرح دوما فكرة إساءة الفهم في اللحظة التداولية أو التراسلية للعمل، بين قطبي الرسالة ذات الصبغة الفنية، الكتاب الذين قتلتهم أفكارهم كثر، يعج بهم التاريخ وصفحات الكتب، وفي الجزائر بصفة خاصة، والعشرية السوداء أقرب دليل على ذلك. المبدع مسؤول عن التعبير عن قضايا مجتمعه، وعدم ممارسة القطيعة الفكرية والنفسية مع البيئة التي يعيش فيها، ما دام عقلَها المفكر وروحها المتيقظة وهو ما يقترب من فكرة الالتزام كما يعبر عنها سارتر، غير أنه ليس بالضرورة مسؤولا عن تطبيقات فكرته، فإن له دور التفكير والإبداع، ولغيره تطبيق ما يشاء وفق ما يشاء، وتحميله أخطاء الواقع وخطاياه بوصفها نتاج مباشر أو إفراز حتمي لما تمت كتابته من قِبَله ليس إلاّ جوْرا على منطق الكتابة وظلما لصاحبها، كنسبة ما قام به هتلر في الحرب الأوروبية الثانية كنتاج لأفكار وآراء نيتشه التي بثها في تآليفه المتكاثرة.
هذا إن أخذنا منطق المسرحية على ظاهره، علاقة كاتب بقارئة استهامت حبا بكتاباته وظنتها واقعا، وحسبت أن ما يكتبه هو الحق، فأحبت كما كتب،وعشقت كما قال، فوقعت في المحظور، فجاءت لتنتقم لأنها انتهت إلى نهاية غير التي توقعت أو غير التي آمنت بها بسبب كاتبها، فكان انتقامها بقتل الكاتب لأنه تسبب في قتل أشياء في ذاتها. غير أنّ هناك منطقا آخر يمكن النظر إليه. إنّ المبدع، كاتبا أو شاعرا أو موسيقيا أو غيره، أليس في الكثير من الأحيان ضحية لأفكاره؟ كما أنه ضحية لتحميل المجتمع على كاهله ما لا يحتمل؟ قد تبدو المرأة مجرد فكرة، نهاية غير متوقعة، زلة زمن، خاطر بإبداعها –أي الفكرة- المثقفُ فنال عنها النهاية الحزينة. كما قد يكون الموت، أو الخنجر المغروز في قلب الرجل مجازا، أو بديلا عن طرائق كثيرة للاغتيال، أولها القتل الرمزي. فالكاتب قد قتل قبل الخنجر، وقبل مجيء المرأة، لأنه اضطر للانزواء، تم قتل العلاقة بينه وبين المجتمع عندما آوى إلى كوخ يعصمه من الناس. أو عندما توحد مع كتاباته واستغنى بها عن كل حاجة أو رغبة منهم، حيث تحول إلى منفي، مقصي، مخصي الأحلام والرؤى، يحاول تعويض مجموعة الاغتيالات هذه بالكتابة كتنفيس لا أكثر. إنه اغتيال حلم، واغتيال حياة، قبل أن يأتي الخنجر. لأن الخنجر تتويج لكل هذه الأشكال من القتل وليس وجهها الكريه الأوحد.
ظهر تمثيل دور «الكاتب» كما يبتغي أي متلقٍ، حيث نجح الممثل «ميلود نهاري» في إخراج مكنونات الشخصية وإيصالها إلى الجمهور أحببنا الكاتب الذي جسده الممثل، وأحببنا شخصيته، بخوفها، بجدها، بهزلها في بعض المواطن، بلحظات انسياقها للإغراء الذي مارسته عليه المرأة. و«ميلود» في الحقيقة شاب مقتدر، تشاركنا معا طلابا في قسم الفنون الدرامية بجامعة وهران، وكنا نعرف محبته للتمثيل، وانشداده لممثلي وهران، كما سبق أن شارك في بعض العروض، من بينها أعمال موجهة للأطفال، غير أننا ما كنا نلتفت إلى هذا كثيرا، حتى دعينا مع رفقة لنا دعوة راقية من أصحاب العرض فشاهدناه ممثلا يحقُّ أن يكون له بين الممثلين الجزائريين مكانة يستحقها.
مع ذلك فلم يحدث التناغم الكافي بين الممثلين الاثنين، وكان دور “العاشقة” كما سمتها ورقة الإرشادات أقل تأثيرا من دور الكاتب، ذلك أنّ الصوت كان بنبرة واحدة، لا تتغير، والحركات والإيماءات كان بعضها شديد التكلف، ويبدو هذا أكثر ما يبدو عندما تبدأ في “سرد” قصتها مع عشيقها إذ يظهر عليها ما يشبه لحظات الجنون، في تمثيلية واضحة تبتعد عن أي تقمص مقبول للشخصية، بينما كان الأفضل لو اكتفت بـ”سرد” تلك القصة مع تعابير وجه حزينة، وربما يكون لدمعة أو دمعتين التأثير الكافي للمتلقي وإثراء المشهد وخدمة العمل بأكمله.
لا أعرف ما الذي كانت تفعله «إكرام يوسفي» في هذا العمل وهي معدّة موسيقى العرض؟ حيث غابت الموسيقى في أغلب أجزائه، ونحن إذا كنا نعرف أنه يجب ألا تطغى الموسيقى على العرض بحيث يتحول إلى ميوزيكال، إلاّ أنّه لا يمكن أن يصل الإجحاف، وعدم التقدير هذا المبلغ. إذ رأينا غياب الموسيقى في أهم اللحظات التي كان يفترض أن تكون فيه حاضرة (مشهد مقتل الكاتب في نهاية العمل مثلا) حيث ظهرت فجوة كبيرة كان يمكن أن تملأها الموسيقى مع المؤثرات الصوتية باقتدار. وعلى المخرج في هذا الصدد أن يبتعد عن منطق الرضا بالموجود ولو كان معتلا أجوف (راجع مقالنا: الموسيقى والغناء في المسرح من الإغريق إلى القرن العشرين، مجلة المعرفة السورية، آذار 2015) أما السينوغرافيا فكانت اقتصادية بشكل جيد، وظيفية إلى أقصى درجة، الباب، المكتب بكل لوازمه من أوراق وكتب وقارورة ماء، المكتبة المنزلية، والسرير والمشجب، كلها كانت وظيفة وتمت الاستعانة بهاز استخدامها. لم نجد في العرض شيئا زائدا عن الحاجة. بحيث تكون السينوغرافيا في هذا العرض قد مارست دورها المنوط بها كما ينبغي ويجب في مثل هذه العروض.
يبدو أن قسم الفنون الدرامية في جامعة وهران أصبح مشتلة تكبر فيها المواهب وتبرز، فإذا تذكرنا فعاليات تخرج طلبة ماستر تخصص إخراج العام الماضي، ومجموعة العروض التي قدمت، وأشرف عليها مجموعة من أساتذة القسم، وبعض العروض التي قدمت من طرف طلبة القسم ومؤازرة أساتذتهم مثل «تساؤلات»، «قلعة الكرامة» وغيرهما، وانتظرانا لعروض التخرج هذا العام أيام 13 إلى 15 جوان القادم في مسرح علولة بوهران، يظهر لنا أننا أمام مجموعة من المبدعين الذين يرفدون الحركة المسرحية الوطنية بأعمال تستحق المتابعة المشهدية والنقدية على حد سواء.