قافية الجهاديين
نشرت مجلة «نيويوركر» في عددها الأخير 08 أفريل 2015 على موقعها الإلكتروني مقالة لروبن كريسوال و برنار هايكل عن شعر الجهاديين المقاتلين الإسلاميين الذين يشنون الحرب و يقولون الشعر المستوحى من أمجاد القافية العربية الكلاسيكية. نترجم مقاطع من المقال للتعريف بشعر الجهاديين من عناصر «داعش» في محاولة لمعرفة من يكونون و ماذا يفكرون.
في 11 أكتوبر 2014 حسبما نشر حساب مرتبط بتنظيم الدولة الإسلامية على تويتر تزوجت امرأة سمت نفسها أحلام النصر في محكمة الرقة بسوريا مع أبو أسامة الغريب المولود في العاصمة النمساوية فيينا، و هو مقرب من قيادة تنظيم داعش، و نادرا ما تعلن شبكات التنظيم عن الزيجات، لكن الغريب و النصر كانا من قيادات الجهاد.
الغريب كان نشطا في مجال الدعاية لتنظيم القاعدة أولا قبل أن يتحول إلى داعش، و عروسه كانت صاحبة باع طويل في مجال الدعاية و تعرف بأنها «شاعرة الدولة الإسلامية»، ديوان شعرها الأول بعنوان «لهب الحقيقة» نشر على الأنترنت الصيف الماضي و انتشر بسرعة في أوساط الشبكات المرتبطة بالإسلاميين، و كان من السهل العثور على مقاطع غنائية لأشعارها على موقع يوتوب في صورة أناشيد بما أن داعش تحرم الغناء.
«لهب الحقيقة» يتألف من مئة و سبعة قصائد بالعربية تدور حول مدح «المجاهدين» و الحسرة على السجناء، و التباهي بالانتصارات، و قصائد قصيرة كانت في الأصل تغريدات على تويتر. كل القصائد كانت على نسق واحد من الشعر العمودي العربي الكلاسيكي.
نعرف القليل عن أحلام النصر، يبدو فقط أنها من دمشق و هي الآن في بداية العشرينات، أمها أستاذة قانون سابقة كتبت تقول أن النصر ولدت بقاموس في فمها، بدأت كتابة الشعر في مراهقتها لدعم القضية الفلسطينية في الغالب. و لما اندلعت المظاهرات في سوريا في ربيع 2011 ضد نظام بشار الأسد، وقفت النصر في صف المتظاهرين. بعض أشعارها توحي بأنها شهدت قمع المظاهرات بنفسها و ربما تكون قد جنحت إلى التطرف بفعل ما رأته.
رصاصاتهم تفجر أدمغتنا كزلزال،
حتى العظام القوية تتضعضع ثم تنكسر
أفرغوا حناجرنا ثم بعثروا أطرافنا، كان مثل درس تشريح
أغلقوا الشوارع بينما الدماء تسيل، كتهاطل المطر من السحاب.
هربت أحلام إلى واحدة من دول الخليج العام الماضي، لكنها عادت إلى الرقة عاصمة داعش و بسرعة صارت شاعرة البلاط و داعية رسمية للتنظيم، كتبت قصائد في مدح أبي بكر البغدادي الذي نصب نفسه خليفة، و في فيفري الماضي كتبت مقالة في ثلاثين صفحة تدافع فيها عن قرار داعش بحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبه حيا. و في وصف للمهاجرين صورت أحلام داعش بأنها جنة إسلامية، كدولة حكامها غير مرتشين و رعيتها تسير وفق تعاليم التقوى، كتبت تقول «في دولة الخلافة رأيت النساء يرتدين الحجاب، كل واحد يعامل الآخر بأخلاق، الناس يغلقون متاجرهم وقت الصلاة». و قالت من وحي الانتصارات التي حققتها داعش في الموصل و غرب العراق أنها رأت الأطفال يلعبون في الشوارع بعصي يتخذونها سلاحا في وجه الهراطقة و الكفار و اعتبرت تلك الانتصارات فجرا جديدا للعراق.
سل الموصل مدينة الإسلام عن الأسود، كيف جلب صراعهم الشرس التحرير، أرض الأمجاد تخلت عن ذلتها و نست الهزيمة و ارتدت لباس العز.
تنتج القاعدة و داعش و العديد من التنظيمات الإسلامية كما كبيرا من الأشعار، أغلبيتها تنتشر عبر الأنترنت، من خلال شبكة سرية في مواقع التواصل الاجتماعي، و المواقع العاكسة، تظهر فيها بسرعة و تختفي بأسرع مما ظهرت، و الفضل في ذلك للرقابة على الشبكة و للقدرات على الإختراق، و في مواقع الجهاديين تعليقات على القصائد و مناظرات و منافسات بين الشعراء.
المحللون غالبا ما يتجاهلون تلك النصوص، و يعتبرون أن الشعر تنميق و لهو ينتجه الجهاديون، لكن هذا خطأ فيمكن فهم الجهاديين و أهدافهم و دعواتهم للتجنيد و مدى قدرتهم على الاستمرار في النشاط من خلال الشعارات و الأناشيد و الفيديوهات ولكن الشعر هو قلب ذلك كله. و على العكس من فيديوهات قطع الرؤوس الموجهة بالأساس للاستهلاك الخارجي، فالشعر يفتح نافذة على داعش و هي تتحدث إلى نفسها و فيما بين عناصرها، ففي أبيات شعرية يصيغون أحلامهم و يعبرون عن رؤاهم. «الشعر ديوان العرب» مقولة قديمة و هو أرشيف للتجارب التاريخية و سلطة القصيدة لا تضاهيها سلطة في الثقافة العربية و الأشعار الأولى تم تأليفها في الصحراء قبل ظهور القرآن، و الشعراء كانوا الناطقين بلسان قبائلهم. يمجدون أفعال بني جلدتهم و يلعنون أعداءهم و يستذكرون حبهم القديم و يرثون موتاهم، خاصة القتلى في المعارك. و قد حمل القرآن على هؤلاء الشعراء و قال في سورة تحمل اسمهم «ألم تر أنهم في كل واد يهيمون و أنهم يقولون ما لا يفعلون». و لكن لم يكن التخلي عن الشعراء بسهولة و قد صار عدد من الشعراء بعد دخولهم في الإسلام من صحابة محمد، مدحوه حيا و رثوه ميتا. الثقافة العربية في العصر الكلاسيكي من القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر كانت تدور حول قصور الخلافة في دمشق و بغداد و قرطبة و صار الشعراء يكتبون قصائدهم لكن بنفس طريقة أسلافهم. و الشعراء العرب المعاصرون ينتجون قصائد متنوعة و مختلفة المواضيع أغلبها في نسق شعر النثر بعد أن تخلوا عن الشعر العمودي، الذي لا يزال رغم فقدانه لقوة حضوره يمتلك سلطة الإمتاع لدى المثقفين من الناطقين بالعربية. و هنالك برامج تلفزيونية باسم شاعر المليون و شاعر الشعب يتهافت عليها الشعراء الهواة من مختلف الدول العربية لإلقاء قصائدهم أمام جمهور داخل أستوديو في أبوظبي و ينال الفائزون جوائز تصل قيمتها إلى 1.3 مليون دولار أمريكي أكثر من قيمة جائزة نوبل للآداب. و البرنامج يتابعه أكثر من سبعين مليون مشاهد عبر العالم. و في واحدة من حلقات البرنامج سنة 2010 في بداية الربيع العربي انتقدت الشاعرة السعودية حصة هلال في قصيدتها المتزمتين من أئمة السعودية، و ألقى المصري هشام الجخ قصيدة في مدح المتظاهرين في ساحة التحرير بالقاهرة، فصار نجما و تم ترديد أشعاره من طرف المتظاهرين في الساحة نفسها. التعابير في شعر الجهاديين بالطبع دموية، تتوعد الشيعة و اليهود و القوى الغربية بشتى أنواع الدمار. و من الغريب أن تجد شخصا مطلوبا و ملاحقا من مختلف أجهزة الأمن يمنح وقتا لتأليف القصائد بالطريقة الكلاسيكية طبعا فهي بالعربية أسهل من الإنكليزية، و تتطلب ممارسة و تمرنا، لكنها تعبر عن الأهمية التي يوليها هؤلاء الدواعش للشكل.
القصائد مليئة بالإيحاءات و الألفاظ المبتكرة و المتسمة بأسلوب في التعبير، و ذات سلسلة كلمات لها نفس الطول، متناسقة و متسقة، و إحدى قصائد أحلام التي تعبر فيها عن ولائها لداعش مبنية على اسم التنظيم. و لكن بما أن عناصر التنظيم يعيشون في معزل عن أهلهم و بيوتهم و عائلاتهم و عن المجتمع ككل فهم يجدون في ممارستهم الشعر وسيلة ليكونوا مرتبطين بالتقاليد العربية الإسلامية، محاولين من خلال ذلك تبديد خوفهم من عدم الانتماء للمجموعة التي نشأوا فيها.
في الهجوم على أبوت أباد في باكستان حيث قتل أسامة بن لادن تم العثور على رسالة مكتوبة يوم 06 أوت 2010 يطلب فيها بن لادن من أحد مساعديه تولي قيادة «عملية كبيرة داخل أمريكا» و في الجملة الموالية مباشرة من الرسالة يطلب بن لادن «إن كان هناك واحد من الإخوة معك يعرف شيئا عن نظم القوافي، رجاء أخبرني و إذا كانت لديك كتب عن علم العروض، رجاء أرسلها إلي».
كان بن لادن الأكثر مدحا من طرف الشعراء الجهاديين، و كان يتفاخر بنفسه بمعرفته لهذا الفن، و كان اسم أول معسكر له في أفغانستان «المأسدة» مستوحى من بيت في قصيدة كعب بن مالك الشاعر الجاهلي الذي أسلم و صار صحابيا، و كان جزء كبير من كاريزما بن لادن كقائد يعود إلى قدرته على الخطابة بالأسلوب الكلاسيكي. من بين قصائد بن لادن الشهيرة واحدة كتبت في نهاية التسعينات في فترة ما عقب عودته إلى أفغانستان سنة 1996، و هي قصيدة من جزئين تتألف من أربعة و أربعين بيتا جزؤها الأول على لسان ابنه الصغير حمزة و الجزء الثاني ردا من الوالد عليه. و العديد من قصائد الجهاديين تتضمن طفلا يتحدث، و هي تمنح لهم صورة بريئة و توحي بأن التعابير الصادرة على لسان الأطفال صادقة. و بدا حمزة بسؤال والده عن شظف حياتهم و لماذا لا يستطيعون الاستقرار في مكان واحد، و هذه مقدمة طللية و هي الصيغة مستوحاة من الشعر الجاهلي التي تبدأ بالبكاء على الأطلال، و فيها يتحدث الشاعر عن صعوبة رحلته ويشتكي من الوحدة و الأخطار و يقارن ما لقيه منها بما تعانيه حيوانات ووحوش الصحراء.
/أبتاه لقد رحلت طويلا بين الصحاري و المدن، كانت رحلة طويلة أبتاه، بين الوهاد و الجبال، طويلة حتى أنني نسيت قبيلتي، أبناء عمومتي، و حتى بني البشر/.
و يسترسل حمزة متحدثا عن عائلة بن لادن و خروجها من المملكة العربية السعودية، و إقامتها في السودان، و طردها منه و أخيرا وصولها إلى أفغانستان « أين يكون الرجال من أشجع الشجعان» و حتى هناك لا يجد الجهاديون شيئا من الراحة لأن أمريكا «ترسل سيلا من الصواريخ كالأمطار». و ينهي حمزة أشعاره بطلب النصح من أبيه.
و يستخدم بن لادن في الجزء الثاني من القصيدة نفس البحر الشعري الذي استخدمه في الأبيات التي نظمها على لسان ابنه، مما يجعل القصيدة ليست فقط وحدة متجانسة، بل يمنحها بعدا حميميا. و يخبر أسامة بن لادن حمزة بألا يتوقع أن تصير حياتهم أسهل: عذرا بني، لا أرى شيئا غير الشقاء، طرقا مغبرة، سنوات من الهجرة و الترحال. و يذكره بأنه معاناة الأبرياء المسلمين غالبا ما يتم تجاهلها، فالأطفال يذبحون كقطعان الماشية، و حتى المسلمين أنفسهم لا يكترثون لمصيرهم. و الأبيات الأكثر قسوة في القصيدة موجهة للأنظمة العربية فالصهاينة يقتلون إخواننا و العرب يعقدون مؤتمرا، و يتساءل «لماذا لا يرسلون جيوشا لحماية الصغار من الأذى؟».
ينشر الجهاديون من خلال قصائدهم أفكارهم المبينة على معتقداتهم و يعلنون من خلالها أنهم يرفضون مفاهيم الدولة الأمة و الحدود التي تعرفها منطقة الشرق الأوسط حاليا موروثة عن وضعتها بريطانيا و فرنسا و هي تشكل أبرز مواضع الغضب المعبر عنه في أشعار الجهاديين، و من بين أهم فيديوهات داعش مشهد تدمير معبر حدودي بين سوريا و العراق على الخط المشؤوم المرسوم بموجب إتفاقية سايكس بيكو سنة 1916.