السبت 23 نوفمبر 2024 الموافق لـ 21 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

عن الميديا الجديدة و دمقرطة الثقافة

في ظل انتشار واتساع وتأثير رقعة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والفكرية وغيرها، انتشرت مصطلحات ومفاهيم كثيرة، وأخرى تجدّدت وامتدت مساحاتها بفضل وسائل الميديا التي ساهمت أيضا في خلق تسميات ومفردات ومصطلحات ومفاهيم جديدة، وأعطتها أبعادا تكنولوجية وحتى إيديولوجية أحيانا. في هذا السياق، نحاول مقاربة مفهوم الثقافة الجماهيرية راهنًا باعتباره عاملا في تشكيل الوعي العام لدى النّاس، وكذا عُمق المفهوم الجماهيري للثقافة والتشاركية الثقافية.
إستطلاع/ نــوّارة لحــرش
ومع كلّ هذا نفتح سؤال «دمقرطة الثّقافة»: فهل يمكن تحقيق دمقرطة الثقافة، لتصبح مِلكًا/وسلوكا جماهيريًا. وكيف يمكن ذلك ومتى تصبح الثقافة فِعلا أو شأنًا جماهيريًا أو تشاركية جماهيرية؟

* عبد الحفيظ بن جلولي/ كاتب وناقد
تنبع أهمّية دمقرطة الثقافة في توجيهها للرّأي العام
عندما يُطرح مفهوم الثقافة الجماهيرية راهنًا، تثور عِدّة أسئلة في الذهن، ومنها: هل أصبح مُمكنًا هذا المفهوم في ظل ما حازته وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل التواصل الحديثة كالإنترنت من أهمية وأولوية لدى الأشخاص؟ أيضا خفوت مفهوم الإيديولوجيا بثقليه الثقافي والسياسي، وتطور الوعي لدى الشعوب التي اعتمدت الميادين والساحات كبديل عن الانصياع الأعمى للخِطاب الواحد الّذي يُشكل عُمق المفهوم الجماهيري للثقافة، حين كان الزّعيم يُوجّه الجماهير وفق رؤاه الواحدة التي تدور حولها الثقافة المجتمعية المُنقادة لحزب واحد وفكرة واحدة وتوجّه واحد، وبالتالي يُمكن القول بأنّ الثقافة الجماهيرية، اشتدّ عودها وتطوّرت مفاهيمها بصورة مُلفتة في المجتمعات الاشتراكية التي تبنّت الإيديولوجيا كرافد أساس لتشكيل ثقافة تقدّمية مُناهضة للمدّ الإمبريالي العالمي، وهو ما يجعلنا نطرح سؤالا مُهمًا حول انتشار المفهوم: هل تهتم الدول الديمقراطية الغربية بمفهوم الثقافة الجماهيرية باعتباره عاملا في تشكيل الوعي العام لدى النّاس؟
تعتمد الثقافة الجماهيرية على وسائل الإعلام والتأثير والتوجيه الفكري الّذي تُمارسه على الجماهير، والإشكال الّذي يثور هنا هو مدى قدرة الاستيعاب النقدي للجماهير لما تبثّه وسائل الإعلام، إذ تُعتبر الحرية والعقل العمودان الأساسان لتشكيل ثقافة جماهيرية ثورية مُتحرّرة من التوجيه العمودي والأُحادي، ولهذا يبدو لي إنّ مفهوم الثقافة الجماهيرية يختلف باختلاف طُرق التلقي وطبيعة وسائل الإعلام.
لا تعني ديمقراطية الثقافة بالمفهوم الساري المفعول في المجتمعات ما بعد الإيديولوجية سِوى تلك الثقافة القادرة على التوافق مع مفاهيم وواقع المجتمع المدني وحرّية التعبير والممارسة السياسية وفق الاقتراع واحترام حقوق الإنسان والقبول بالاختلاف والتنوّع المفاهيمي والتعدّد الثقافي، وأينما استوعبت الجماهير هذا المعنى واستطاعت أن تندمج فيه وفق رؤى –طبعا– نخبوية قادرة على فتح الفضاء المجتمعي على التشكل وفق معايير تيار اجتماعي ذو حركة سهمية نحو أفق التغيير واحترام الخصوصيات، وبالتالي ترميم الفجوة بين مستويات الثقافة: النّخبية والجماهيرية والشّعبية وإيجاد جسور التقارب بينها بحيث تصبح رافدا مُهمّا ينفتح عليها كلّ مستوى متى وجد نفسه منغلقا داخل إطار ثقافته الواحدة، فالواحدية لا يمكن أن تنشئ مفعولا تغييريًا يستقصد الذات والمجتمع، ومن ثمّة، فالجماهير باعتبارها المجموع الّذي تنصهر فيه الفعاليات حين ترفع سقف مطالبها الوطنية، كرفض التضييق على الحرّيات ونبذ الفساد والتأكيد تُعلى احترام الثابت الدستوري الّذي يحفظ الحقوق ويحترم الفصل بين السلطات، من هنا يبدو لي، تنبع أهمّية دمقرطة الثقافة في توجيهها للرّأي العام ومحاولة تشكيل المساحة المُشتركة بين الفعاليات لتفعيل الإحساس بالجماهيرية في عُمق كلّ من الفعاليتين: النّخبية والشعبية.
اليوم وبواقع الحال، الثقافة أصبحت جماهيرية بفعل التطور التكنولوجي الهائل في وسائل التواصل، بحيث أصبح التأثير الّذي يُنتج الثقافة الجماهيرية، أي وسائل الإعلام، مُتبادلا إن لم يكن مُنتَجا من الجهة المُستقبلة، أي الجماهير، بحيث أصبحت هذه الأخيرة تُـنتج وسائل إعلامها انطلاقًا مِمَا وفّرته وسائل التواصل الاجتماعي واليوتيوب، وصار التفاعل عكسيًا، إذ أصبحت الجماهير هي التي تُؤثر في وسائل الإعلام بمفهومها التقليدي، فجماهيرية الثقافة تحقّقت بالقوة وبالفعل انطلاقًا من مفهوم جديد سهّل عملية التواصل والتوجيه والانتشار، وغدت الجماهير أو جُلّها مُنتجًا للثقافة والحوار الفعّال على مستويات المنتديات الالكترونية التي أنتجت في الواقع حالة من النشاط والفعالية عالية الثقافة والوعي، ولعل حراك الجزائر أظهر شيئًا من تأثير وسائط التواصل الإعلامية على الرّأي العام ومستوى الثقافة الفاعلة التي أنتجتها.
الثقافة بمفهومها التايلوري باعتبارها مجموع العادات والتقاليد والأخلاق والعقائد، تُمثل فِعلا جماهيريًا، لكن يبقى ساكنًا ما لم يتحوّل إلى مظهرا اجتماعيًا يتجلى من خلال الحركة الجماهيرية، ويتحقّق هذا بفعل التأثير العميق والجدّي لوسائل الإعلام وخصوصًا العمومية، أي تلك التي تَشعر الجماهير بأنّها ملكًا لها من خلال مساهماتها الضريبية، وهو ما يُبعد وسائل الإعلام عن التأطير الأيديولوجي الّذي يُسخّرها لخدمة السُلطة والأفكار التي تُؤمن بها وتريد تعميمها على المجتمع، فيصبح التأثير سلبيًا يُنتج مُجتمعًا جماهيريًا موحّد الثقافة خاليًا من أي شعور نقدي اتّجاه هذه الثقافة والوسائل التي تُنتجها.
إنّ تحقق الاتّجاه النقدي لدى الجماهير يجعل من الثقافة الجماهيرية حالة مُستشعرة للمسؤولية المُلقاة على عاتقها ككيان مُنشئ للمواطن الّذي يُساهم في تثوير البنيات المجتمعية القادرة على تحريك الجماهير في اللحظات الحاسمة التي تُقدّر فيها هذه الجماهير ضرورة حماية البيان المُؤسس للمجتمع، وهو ما يكشف عن البنية الجوهرية الكامنة في معنى الثقافة الجماهيرية.

* محمّد تحريشي/ كاتب وناقد وباحث أكاديمي
دمقرطة الثقافة أصبحت أكثر من ضرورة لتجاوز بعض المظاهر السلبية
إنّ الحديث عن الديمقراطية والثقافة حديثٌ ذو شجون تتجاذبه أطرافٌ فاعلة وتؤسسه مصالح وغايات، ويقوم على الحوار والحوارية حتى تعبر الثقافة عن أمال الشعب وطموحاته مع تكافؤ الفُرص في حرية التعبير من دون وصاية أو رعاية أو استثمار سياسي. إنّ هذا الحديث يجرنا للوقوف عند المثقف: كون المثقف مُمارسًا للثقافة عبر ما ينتجه من ممارسات أدبية من شعر ونثر ومسرح، أو عبر الفن من رسم ونحت وفن تشكيلي على العموم، وهو بذلك يعبر عن رؤيته للعالم وشعوره المُرهف تُجاه الواقع مُرا كان أو سعيدا، ومن ثمّ يكون ما ينتجه مرآة عاكسة للواقع.
ومن جهة أخرى، كون المُثقف مُنتجًا للثقافة عبر ممارسات للفكر الفلسفي والعلوم الاجتماعية والإنسانية، ومن ثم يكون على المثقف وفق هذا التوجه تقديم معرفة مُنظمة وعقلانية للواقع الإنساني لما يتوفر عليه من أدوات إجرائية للتحليل والمعالجة للوصول إلى مواطن الخلل التي تعتري الإنسان في مسيرته في تنظيم حياته داخل المجتمع، ومحاولة تقديم حلول لتلك الانكسارات. هذا ما قلته تقريبا في كتابي “قراءات في الخِطاب الروائي”، الصادر عن دار Ekutub ،2017.
إنّ دمقرطة الثقافة أصبحت أكثر من ضرورة لتجاوز بعض المظاهر السلبية لبعض المُمارسات التي أضرت بالثقافة في أن تكون ديمقراطية؛ فقد ظهر عندنا ما يُسمى بالاسترزاق الثقافي وتوظيف الشللية. يقودنا هذا المنحى من التفكير إلى الإشارة إلى الاستثمار السياسي للثقافة لتمرير مجموعة من الخطابات السياسية، وفي المُقابل هناك الاستثمار الثقافي للسياسة للحصول على مجموعة من المكاسب المادية والمعنوية. إنّ هذه العلاقة أنتجت جهازا مفاهيميًا من مثل الالتزام السياسي للمثقف، المثقف العضوي مع غرامشي، المثقف المدجن، والمثقف الحالم، والمثقف المشروع، المثقف الانتهازي، المثقف النموذج. وفي جميع الحالات أصبح المُثقف، نظرا لسياسة ثقافية، يعيش إما في أبراج عاجية يُخاطب الناس باستعلاء وتضخم للأنا، وإما في جرح منعزل يعيش البؤس والتعاسة بكلّ أشكالها.
إنّ الحوار الجاد بين كلّ الأطراف الفاعلة هو السبيل إلى دمقرطة الثقافة حتى تصبح ممارسة الحرية في التعبير واقعًا مُعاشًا، وقد تسهم ثقافة الحوار في التأسيس للعمل الثقافي وتطهيره من الدخلاء والمدعين، ومن ثم تقوم الثقافة بدورها التنويري في المجتمع عوض أن تكون مُضللة أو زائفة أو ثقافة قشور ودعاية مُغرضة. إنّ الدمقرطة تقتضي وجوبًا انتفاء الوصاية والرعاية بقصة توجيه المثقفين لتدجين المجتمع خدمة لمصالح فئة معينة، فالمثقف في جميع المجتمعات الديمقراطية هو لسان حال الجماعة وليس لسان حاله أو لسان حال شلة أو فئة احتكارية. إنّ دمقرطة الثقافة قبل أن تكون مُمارسة ثقافية هي وعيٌ ونضجٌ وفكرٌ يجب أن يعيشه المثقف نفسه قبل أي شخص آخر، ويجب أن يحرص على عدم التفريط في هذا الحق المُكتسب  التي أسهمت البشرية كلها في ترقيته وتعميمه، ثمّ إنّ هذه الدمقرطة يجب أن تكون على مستوى المنتوج الثقافي الّذي يعبّر عن تطلعات الشعب وأماله وآفاقه، ويقدّر عاليًا كلّ التضحيات التي قدمتها الشعوب لترقية الثقافة. إنّ الشعوب كلما تحركت فإنّها تبغي من وراء ذلك التعبير عن حقها في الوجود وحقها في التعبير ورغبتها في الحرية؛ مِمَا يجعل الثقافة تشعر بكلّ تلك الاهتزازات لتجسدها في أشكال تعبير فنية وجمالية حتى ترسخ كلّ تلك القيم حتى وإن بدت المحاولات تستهدف تمييع الثقافة. إنّ السياسة الثقافية تقوم على الرقابة لكلّ الأشكال التعبيرية حتى لا تتجاوز المحظور والممنوع في نظرها، ولكن هل أنّ الرقابة مُمكنة في عالم أصبح قرية من دون حدود؟. ومع هذا فإنّ المنع مهما كان يحد من سلطان الحرية والحرية رغبة جامعة في تجاوز الممنوع والمحظور.

* عبد الكريم ينينة/ قاص وناشر
لا يمكن لها أن تنمو إلاّ في ظل الديمقراطية القائمة على التنوع والمغايرة والاختلاف
الأصل في الثقافة أنّها من ضمن المشاع الكوني، وفي الغالب العام هي ذات طبيعة متحركة، متنقلة، ومفتوحة، تحمل خاصية الإرسال والاستقبال فلا يوجد هناك ما يحول بينها وبين الفرد أو الجماعة إلا الثقافة نفسها، وهو ما يحدث في بعض المجتمعات المُنغلقة على ثقافتها، أو في بعض المجموعات من داخل المجتمع الواحد، إذ تحمل بعض الثقافات مغاليقها (الثقافية) القائمة على العِرق أو الدين. مثلما يحدث في الثقافة العبرية لدى المجموعة اليهودية.
فإذا نظرنا إلى الثقافة من زاوية أخرى غير ما تعارف عليه الناس من اعتبارها قيمًا وسلوكًا، أي في إطار مُمارساتها الفنية والإبداعية داخل المجتمع، والتي هي أيضا ذات مغزى ترويجي لقيم وسلوكيات تُكرس أو تدفع باتجاه ثقافة مُعينة، بغض النظر عما إن كانت في السياق المجتمعي السائد أو مُغايرة له، فإنّه لا يمكن لها أن تنمو أفقيًا إلاّ في ظل الحرية التي لا تترسخ ولا تتجذر إلاّ في ظل الديمقراطية الحقيقية، القائمة على التنوع والمغايرة والاختلاف.
ففي بلدنا الجزائر، يتجسد التعدّد الثقافي بوضوح، وهو تنوعٌ إيجابي لا يتضاد، بل يتكامل، ويمكن أن يزيدنا قوة لو أحسنا توظيفه، وحررناه من قيد الجِهة والإثنية، أو التجاذبات الإيديولوجية، بمعنى أن نعطيه الحرية ليقفز على هذه المُكبلات، وهنا أستعمل لفظ الحرية، لأنّ مصطلح الديمقراطية يعبر أكثر عن الآلية الوظيفية المُحدّدة للمعايير والأُطر في المُمارسات الأخرى غير الثقافية. يجب ألا نخاف من الثقافة، وأن نُطلق العنان لها، فتتمدّد وتمتد في نطاقها الحيوي، كما كانت عبر العصور، أحيانًا تتجاوز ما تعارفت عليه النُظم الحديثة بالحدود، مِثال أغنية «الراي» التي ولدت ونشأت في الجزائر، وانتقلت إلى المغرب. وأيضا «المالوف»، والقاموس المشترك والطبخ المشترك والعادات والتقاليد المشتركة، وكلها لم تعر الحدود الجغرافية اهتمامًا. هذا لا يعفي المؤسسة الرسمية في الدولة الديمقراطية الحقة من القيام بدورها في أن تعمل على جعل الثقافة بتمظهراتها المختلفة على الأرض وبمكوناتها الحضارية أو الإنسانية واقعًا يوميًا في ظل الحرية والانفتاح وتقبل الرأي المُخالف، لكن تحول الثقافة إلى فِعل تشاركي تمارسه الجماهير، هو نسبيٌ في الحقيقة، وهو ليس من طبيعة المجتمعات الديمقراطية الحقيقية التي تعتمد على الحرية الفردية وتكتلات مصلحية أقل من جماهيرية. يكفي في رأيي كما أشرتُ سابقًا ما يلزم من الحرية ليتداول المجتمع على المُعطى الثقافي في حماية المؤسسة الرسمية الديمقراطية الحقيقية، وجعله ضمن يومياته الحياتية، سواء كانت الحماية مادية أو معنوية، بعيدا عن الوصاية وعن الحزبية والعشائرية والجهوية، لإضفاء البُعد الوطني، ثم الإنساني، لا غير.

* عبد الحميد هيمة/ كاتب وناقد وباحث أكاديمي
دمقرطتها لا تتم إلاّ بجعل الديمقراطية متجذرة في التربة الاجتماعية والسياسية والفكرية
في البداية يجب أن نُنبه إلى أنّ مفهوم الثقافة عندنا في الجزائر شُوِه وحُرِف عن إطاره السليم، فقد اختصرت الثقافة عندنا نتيجة سياساتنا العرجاء ونتيجة لعملية التسطيح التي مُورست على الوعي، اُختصرت في مجال الغناء، والحفلات والمهرجانات، هذا الجانب الّذي لا يُمثل في الحقيقة إلاّ جانبًا ضئيلا من النشاطات الثقافية الترفيهية، لقد اُختزلت الثقافة عندنا بشكل تعسفي لتنحصر كلّ معانيها في هذه المظاهر التي ساهمت في تمييع مفهومها، لذا من الضروري إيجاد سُبل ناجعة لتفعيل دور الثقافة الحقيقية في الجزائر التي تُعاني إفلاسًا حقيقيًا نتيجة وضعها في قالب تجاري محض واختصار معانيها في كلّ ما هو ترفيهي، لأنّ هذا المصطلح أي الثقافة أكبر بكثير من أن يختصر في هذا النطاق الضيق والجانب المحدود، الثقافة مصطلح مُرادف لعملية الوعي والبناء، مرادف لأي مشروع لتقدم الأمة وتطورها، وهذا التقدم والتطور يبدأ بتربية الأبناء، وإعداد الأجيال وتحصينهم بالثقافة البناءة. وجعل الثقافة الحلقة الأقوى في أي مشروع تنموي، وفي هذا المجال ينبغي التأكيد على العلاقة الجدلية بين الثقافة والديمقراطية، أو الحرية، فهي أي الثقافة ترتبط  ارتباطا عميقًا بالحرية، لاعتبارات مُتعدّدة، منها أنّ الديمقراطية هي الانفتاح الخلاق، هي الحرية التي تتلاقح فيها الأفكار والآراء والإبداعات وتتواشج بالشكل الّذي يجعل منها  كُلاً متكاملا لا مُتناقضًا، وهذا التلاقح يجعل هذه الاختلافات الاجتماعية والثقافية عامل ثراء للمجتمع لا عامل هدم وتدمير، لأنّ الممارسات السياسية السابقة أورثتنا الكثير من السلبيات وجعلت من التنوع الثقافي الّذي يتسم به المجتمع الجزائري عامل هدم لا بناء، يجب أن نتفطن لهذا الأمر ونعيد بناء الذات الجزائرية والإنسان الجزائري الّذي يُؤمن بأهمية الثقافة في حياتنا، وبناء المثقف الواعي المثقف العضوي حسب الفيلسوف الإيطالي المعروف غرامشي الّذي يطرح، في إطار تحليله لقضية المثقفين ودورهم الاجتماعي، مقولة «إنّ كلّ البشر مثقفون»، والحجة الرئيسية التي يطرحها غرامشي لهذه المقولة، هي أنّ تصور «المثقفين» كفئة اجتماعية مُتميزة ومستقلة عن غيرها ليس إلاّ خرافة، فكلّ الناس يمكنهم أن يكونوا مثقفين، بمعنى أنّ لديهم ذكاء، وأنّهم يستخدمونه، في التغيير وتوجيه أفكار وتطلعات المجتمع.
وعليه فإنّنا نعتقد أنّ دمقرطة الثقافة كما ورد في سؤالكم لا يتم إلاّ بجعل  الديمقراطية متجذرة في التربة الاجتماعية والسياسية والفكرية، ونشر الثقافة بين كلّ أفراد المجتمع، وجعل الثقافة أقرب إلى إمكانية التعبير عن هذا التعدّد الّذي يَمُور به المجتمع، والعكس صحيح، فكلما ساد الاستبداد والطغيان يصبح المثقف الحلقة الأضعف، بينما حين تسود الديموقراطية تتخلص السياسة من شوائب ليست منها، فيضيق مجالها ولكن تصبح قيمتها عالية، وتصير الحرية مبدأ ومنطلقًا وليس مجرّد موضوع لمديح ومناجاة، ويصبح الهم الثقافي همًا مجتمعيًا، وتصبح الثقافة أكبر من حقيبة وزارية أو منصب في مؤسسة ثقافية. إذ تصبح الثقافة هي الأصل، ويصبح المثقفون سُلطة مُؤثرة وفاعلة في المجتمع. ولذلك فإنّنا اليوم نقول بأنّ ما مرت به الجزائر من مِحن وما عانته من أزمات سببه غياب العامل الثقافي أو تغييب الثقافة من حياة الناس، وبقاء المُثقف في ذلك البرج العاجي الّذي حصر نفسه فيه، ومن ثم انحصار دوره في الحياة الاجتماعية، إنّ المُراهنة على العامل الثقافي هي السبيل للنهضة الاجتماعية الشاملة، لأنّ الثقافة تبني الإنسان، والإنسان هو أساس تقدم الأمم ونهضتها. يقولون أنّ الصينيين قاموا ببناء سور الصين العظيم ليحموا أنفسهم من الأعداء الخارجيين، ولكن يُقال أنّ الصين تعرضت في المائة سنة الأولى من بناء السور إلى ثلاث غزوات خارجية، ولم يكن الأعداء بحاجة إلى اقتحام أو هدم الأسوار، لأنّهم كانوا يقدمون رشوة للحراس ويدخلون من الباب، لأنّ الصينيين اهتموا ببناء الجدار ولم يهتموا ببناء الإنسان، وبناء الإنسان مُقدمٌ على كلّ بناء.

* محمّد بن زيان/ كاتب وناقد
تحقيق دمقرطة الثقافة يتصل بمراجعات للسياسة الثقافية
بداية تمثلنا للثقافة هو الّذي يُشكل الرؤية والتعاطي، ولقد أحدثت الحداثة قلبًا لسلطة المعيار والنموذج، ثم تضاعف القلب مع موجات ما بعد الحداثة. فالثقافة حاضرة في كلّ مستوى ووسط، حاضرة كرؤية وكمعايير وكخِطاب. وانطلاقًا من ذلك يتموضع موضوع دمقرطة الثقافة في صُلب النضال من أجل الدمقرطة بدلالتها الواسعة، بل لا يمكن دمقرطة أي مُجتمع بدون التركيز على الثقافة، وفي تحليلاته الدقيقة بيّن المرحوم مصطفى لشرف ذلك في كتابه «الجزائر أمة ومجتمع» بأنّ «الشعب العريق في الثقافة لا يتحمل الفراغ الثقافي». ولذلك يُبدع آليات تحقيق إنوجاده ثقافيًا.
ومنذ سنين أجرى الكاتب إبراهيم منصور، مجموعة حوارات مع كُتاب مصريين حول ما أسماه «الازدواج الثقافي» والمقصود تلك الهُوة الفاصلة بين ثقافة المؤسسة الرسمية والثقافة التي تتصل بالشارع. فبسبب الفصل بين ما يُسمى ثقافة عالمة وبين الثقافة الشعبية، ساد الانفصال بين النُّخب والمجتمع، وضاعت موجات التواصل.
في الهامش يُبدع ربّما ما يُمكن التعبير عنه بلغة الأنثربولوجي كلود ليفي شتروس النيئ، والمفروض أن يكون الشق العالم ثقافيًا هو الّذي يرتقي بالنيئ إلى المطبوخ، وهذا ما تشتغل عليه المؤسسات الغربية التي استثمرت في ثقافتنا وأصبحت تُصدرها لنا.ولقد كان منح نوبل لبوب ديلان، ووجهة مفكرين كأونفري وجيجك مؤشرا على محورية ما ينبض به الهامش ثقافيًا.
المُثقف دوره أساسًا مُرتبط بإنتاج الرأسمال الرمزي بتعبير بورديو، إحداث زعزعة للرتابة والركود والوثوقية اليقينية، انزياح عن الإذعان ولهذا وصف حسن حنفي الشيخ إمام بإمام المثقفين، وظلت حِكم المجذوب وأشعار الملحون أو الشعبي مُلهمة ومُؤثرة. وفي الحراك الّذي تشهده البلد تجدّد ما يُؤكد خصوبة الشارع وخصوبة رحم الهامش، فأغنية ليبرتي لسولكينغ وما غنته رجاء مزيان وأغاني ألتراس المولودية العاصمية وغيرها وما يُبدعه مبدعو البوداكست، كلّ ذلك صاغ مانفيستو شارع زعزع وثوقية النُّخب.ولقد استوعبت دول محورية ما يُسمى ثقافة شعبية أو جماهيرية، وانطلقت في صياغة إستراتيجية انتشار عابر للقارات كما هو الحال مع خطة كوريا الجنوبية المشهورة بتعبير «الهاليو» أي التدفق الكوري، خطة تهدف إلى تحقيق مرجعية محورية عالميًا في هذا المجال بتصدير كلّ ما يتصل بذلك من طبخ وموسيقى وأفلام ودراما وألعاب إلكترونية.
ولكن تحقيق الدمقرطة أو التشاركية أو تحويل الثقافة شأنًا جماهيريًا، يتصل بمراجعة للسياسة الثقافية، ويمكن أن نذكر أنّ من مقدمات الحراك الحالي موجات الرفض لحفلات وزارة الثقافة في الجنوب. فالّذي ساد نمط الثقافة في استعراضات مهرجانية ونشاطوية تقوض الأثر وتبدّد معنى الثقافة كتهذيب وترشيد وصياغة للمواطنة والأنسنة. وبدأت التشاركية تتحقق بفضل الحراك الّذي استعاد الفضاء العمومي، فالساحات في عِدة مُدن صارت تشهد نقاشات، وهي تمارينٌ مُهمة حتى يتحرّر الجزائري من الاحتباس التعبيري، وحتى يُحقق ما يسميه الخطيبي بــ»السلم الألسني».. ومع النقاشات عروض مسرح الشارع وعروض موسيقية والغرافيك.والحديث عن شراكة ثقافية أو دمقرطة ثقافية مُتصل بنُخب تواجه التحدي، تحدي مطروح منذ عقود، طرحًا دفع المرحوم عمار بلحسن إلى التساؤل: مثقفون أم أنتلجنسيا؟.. ومتصل بحس إستراتيجي لدولة تعي أنّ الثقافة محور المحاور كما كان يرى ديغول لما عين مالرو وزيرا للثقافة وجعل له المحورية.. والدولة في حد ذاتها تتحقق ثقافيًا، ولا يمكن ذلك بدون تحقق تثقيف شعب لأنّه هو المُكون الأساسي للدولة، بل هو مرجعية ومبرر وغاية وجودها.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com