هل بإمكان المذكرات والسِيَر الذاتية والشهادات الشفوية أن تكتب التاريخ؟ وهل تشكلُ أداة أو وسيلة يمكن أن تُوظف أو تُساهم في كتابة التاريخ إذا ما أحسن المُؤرخ اِستغلالها وِفْقَ المنهجية العلمية التي يتطلبها منهج البحث التاريخي. المذكرات والشهادات هي أيضا بشكلٍ ما تجارب شخصية، تروي أحداث ومعايشات وآراء أصحابها، وهي مصادر بقدر ما هي مُهمة في كتابة التاريخ إلاّ أنّها ربّما تحمل بعض المُبالغة أو التزييف الّذي يمس بحقائق تاريخية معينة. وهذا ما يستدعي ربّما توظيف مناهج البحث العلمي بغية التنزه عن الوقوع في بعض الأخطاء التي من شأنها أن تُؤدي إلى بعض المزالق في الجانب المعرفي خصوصًا وأنّ الأمر يتعلق بالتأريخ، وكذا محاولة إيجاد آليات لتوظيف الشهادات والمذكرات في الكِتابة التاريخيّة، فالأمر هنا يخص المذكرات والشهادات وحدود الكتابة التاريخية. وهي إشكالية كثيرا ما تتكرر. حول هذا الشأن «مدى أهمية المذكرات والسِيَر الذاتية والشهادات الشفوية في كتابة التاريخ؟»،
استطلاع/ نــوّارة لـحـرش
كان ملف هذا العدد من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من الدكاترة الباحثين والأكاديميين المختصين في التاريخ، الذين تناولوا المسألة من وجهات نظر مختلفة ومتعددة. لكنّها تلتقي في الكثير من المفاصل والتفاصيل.
* محمـّد بن ساعو/ أستاذ وباحث في التاريخ -جامعة سطيف2
ينبغي إخضاعها للنقد والتمحيص
يُحيلنا موضوع توظيف الشهادات والروايات الشفوية في الكتابة التاريخية إلى النقاشات التي لازمت لعقود الباحثين في التاريخ، وتتعلق أساسًا بمسألة المُفاضلة بين الرواية الشفوية والوثيقة المكتوبة والرسمية. لقد اِستهلك هذا النقاش جهدا كبيرا ووقتا طويلا –ولا يزال يُثار أحيانًا-، لكنّه اِستطاع أن يفرز مخرجات على غاية من الأهمية، إذ وبعد هيمنة تصورات المدرسة الوضعانية التي رسّخت مبدأ تقديس الوثيقة في الكتابة التاريخية لمدة من الزمن، راح المؤرخون يُعيدون النظر في طبيعة المظانّ التاريخيّة، خاصة مع اِنفتاح مدرسة الحوليات الفرنسية على مواضيع جديدة في الدراسات التاريخية والجُهد الّذي قدّمه السوسيولوجيون في الولايات المتحدة الأمريكية، وظهرت معها الحاجة لتوظيف مصادر متنوعة تستجيب لضرورة توظيف أدوات جديدة.
تعدّ الرواية الشفهية في اِرتباطها بالتأريخ غالبًا صوتًا للبسطاء، وبالتالي فقد تُمثل قراءة ثانية أو قراءة من زاوية أخرى للتاريخ؛ لكن السؤال المطروح: هل يمكن بناء تاريخ المجموعات الإنسانية والثورات والأحداث الكُبرى من خلال الرواية الشفوية؟
يُقرّ «آرثر مارويك»Arthur Marwick صاحب كِتاب The Nature of History أنّ التاريخ القائم حصريًا على مصادر غير وثائقية، هو في الغالب تاريخ أكثر سطحية وأقل إرضاءً من التاريخ المُستمد من الوثائق، ولكنّه تاريخ على أيّة حال. هذا القبول على مضض لتبني تاريخ مؤسس على الشفوي والّذي يُبديه قطاعٌ مُهم من المشتغلين على التاريخ دفع «يان فانسينا» Jan Vansina إلى التأكيد على أنّ العلاقة بين المصادر الشفهية والمكتوبة ليست هي «العلاقة بين المغنية الأولى في الأوبرا وبديلتها: عندما لا تستطيع النجمة أن تغني تظهر البديلة.
لا تتأتى أهمية الرواية الشفهية فيما تقدّمه من معارف ومعلومات تاريخية فحسب، بل أيضًا لِمَا تحمله من تصورات وتمثلات تُتيح خلق تقاطعات معرفية بين الثقافة العامية والثقافة العالمة، غير أنّ مُشكلة الرواية الشفهية تكمن في أنّها تحمل جانبًا من الذاتية والاِنطباعية والاِنفعالية، لأنّها تعكس تصور الناس للأحداث السياسيّة والمظاهر الاِجتماعية، ولأنّها تُعدّ شكلا من أشكال الذاكرة، فهي تتميّز بطغيان الذاتية في طابعها الفردي أو الجماعي، حيثُ تنزع إلى إضفاء نوع من الرمزية على الأحداث، حتّى يحسّ المُؤرخ أنّه أمام بيوغرافيات ميثولوجية لا شهادات تاريخيّة حقيقيّة، وإن كانت هذه المرويات مُقاومةً ضدّ النسيان إلاّ أنّها تُحاط بهالة من التقدير تجعل العامة لا تتقبل نقدها، وهنا يَكمنُ دور المؤرخ الّذي ينبغي له أن ينتصر إلى متطلبات المنهج التاريخي في البحث العلمي، ويكون ملزمًا بتفكيك مستوياتها وتفسير تداخلاتها وقراءة خفاياها، بغية مُعالجتها بالنقد والبرهنة.
على مستوى آخر، يمكنُ الحديث عن ضعف إقبال الفاعلين في الجزائر على تسجيل رواياتهم وشهاداتهم التاريخية، ومع ضعف المستوى العلمي لبعضهم فإنّ ذلك أثّر بدوره على مستوى ما يُنشر ويُسجّل، بل حتّى تلك البرامج التسجيلية التي أشرفت عليها متاحف المُجاهد تنقصها الجدّية، وما يُلاحَظ عليها هو عدم الاِستعانة بالباحثين الأكاديميين للحضور أثناء تسجيل الشهادات، لأنّ الحصول على شهادة مُتكاملة تخدم المعرفة التاريخيّة لا يتمّ بمجرّد إجلاس المعني على أريكة فاخرة وتصويب الكاميرا نحوه؛ ثمّ نحن نتساءل عن مصير هذه التسجيلات وآليات إتاحتها للباحثين بما أنّنا بصدّد إنتاج أرشيف جديد؛ وهنا يُمكن أن نُثمّن عملية جمع الأرشيف سريع الزوال «الروايات الشفوية» بالضفة الأخرى من المتوسط، والتي يَقوم بها مجموعة من الباحثين ضمن مشاريع بحث جامعية، وهو ما يزيد من أهمية الجُهد المُوثّق.كمحصّلة لِمَا ذهبنا إليه، لا ننكر أهمية الروايات الشفوية في الكتابة التاريخية، ولا نرفض التعامل معها، كما أنّنا في الوقت نفسه لا نعتبرها تاريخًا، بل هي مصادر مُكمّلة وبديلة أحيانًا، ذلك أنّها تُساهم في سد الثغرات حتّى في ظل وجود الوثيقة الأرشيفية، غير أنّ الاِعتماد عليها ينبغي أن ينبني على منهجية أكاديمية من خلال إخضاعها للنقد والتمحيص، مع أخذ المُؤرخ لمسافة بينه وبينها حتى لا يتورط في اِستباحة الحقيقة التاريخية.
* كمال خليل/أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر -جامعة محمّد لمين دباغين– سطيف2
المُذكرات الشخصية من أهم مصادر كِتابة التاريخ لكنّها لا تخلو من العيوب
عرفت الجزائر خلال العقدين الأخيرين ثورة هامة في الكتابة التاريخية، تعدّدت أنواعها ومشاربها بين: الشهادات المُختلفة، والمُذكرات الشخصية لكثير من المُجاهدين والقادة الذين عايشوا عن قرب الثورة وأحداثها، والرسائل والمُذكرات الأكاديمية للطلبة والباحثين المُهتمين بإجلاء الحقيقة التاريخية. وتعتبر المُذكرات الشخصية من أهم مصادر هذه الكِتابة، لأنّ أصحابها عاشوا الثورة وساهموا فيها بشكلٍ مُباشر سواء كأفراد أو جماعات، مجاهدين أو مسؤولين؛ لهذا فهم أقرب إلى الحقيقة من غيرهم في التعريف بالوقائع والتسميات للأماكن، أو الطُرق والمسالك التي عرفها اِنتشار الثورة طيلة أزيد من سبع سنوات.
تتنوع هذه المذكرات حسب ثقافة أصحابها، والغاية من كِتابتها، لأنّها غالبًا ما تأتي في آخر أيّام أصحابها للإدلاء بالحقيقة كاملة وتصحيح مسارٍ ظهرَ لهم أنّه اِنحرف عن حقيقته بعد الاِستقلال، أو توضيح وإجلاء وقائع بقيت في نظرهم غائبة، وتبليغ رسالة الشهداء كاملة، لهذا تهافت الطلبة والباحثون على اِقتنائها ومحاولة التقرب من أصحابها للظفر بها وتوظيفها في بحوثهم المُختلفة.
لكن على الرغم من هذه الأهمية البالغة لهذا المجهود الّذي ساهمت فيه وبدون هوادة وزارة المجاهدين بعد تأسيس المركز الوطني للبحث في الحركة الوطنية وثورة أوّل نوفمبر1954 (1996)، من خلال طبع هذه الأعمال وترجمتها وجمع كلّ ما يتعلق بالثورة عبر تسجيل مختلف الشهادات في المتاحف الولائية لتقديم مادة خام للباحثين والمهتمين، وإقامة المعارض الوطنية والدولية لمختلف محطات تاريخ الجزائر والثورة التحريرية، وإنجاز الأشرطة السمعية البصرية، إلاّ أنّ ذلك يبقى غير كاف، لأنّ الكتابة التاريخية تحتاج إلى مشروع مجتمع تتضافر فيه جميع الجهود وتلتقي فيه كلّ المؤسسات.
والكتابة التاريخية تستند إلى الوعي بالأحداث، والتحكُم في النظريات العلمية والأكاديمية لجمع الحادثة التي لا تتصل بالمذكرات الشخصية فقط، بل تتعداها إلى الأرشيف الّذي تحوزه المؤسسات الرسمية الجزائرية أو الفرنسية والأجنبية، وكذلك الوثائق الشخصية والصور، والجرائد، والحوارات التي يُجريها العديد من الباحثين مع المجاهدين الذين لا يقدرون على كتابة مذكراتهم ومشاهداتهم أو مُساهماتهم خلال الثورة التحريرية.
ونعتقد أنّ على الباحث التحكم في هذه الوسائط كلّها، لأنّه لا يمكن الاِعتماد على واحدة منها فقط، فالشهادات الشفوية والمُذكرات لها عيوبها التي لا ينكرها عاقل، لأنّها تأتي مُتأخرة حسب عمر صاحبها وما يُرافقها من تعرض الذاكرة لعوامل التعرية التي يفقد بسببها الإنسان قدرته على التركيز وتذكر الأحداث التي اِبتعد عنها لعشرات السنين. كما لا يمكن الوثوق ببقية الوثائق خاصّة الأرشيف الفرنسي وما تحتويه التقارير الشرطية والعسكرية من مُغالطات وأحكام مُسبقة وتشويه صارخ للأسماء والأماكن والأحداث المُختلفة، وهذا الحُكم يتـشاطر فيه الجميع حتّى المؤرخون الفرنسيون، حيث لاحظتْ (أني راي غولدزيغلر) ذلك في بحوثها المُختلفة (جذور حرب الجزائر 1940-1945).
كما أنّ الصحافة الكولونيالية شكلت فيلقا آخر إلى جانب الجيش الفرنسي في حربه ضدّ الشعب الجزائري وسخرت الأقلام والصور والأشرطة، لنقل الصورة التي تريدها إلى العالم الخارجي في تطويق الأحداث واِعتبار المسألة قضية داخلية يمكن التحكم فيها بكلّ بساطة، ولكي تُغطي عن جرائمها التي فقدت فيها معنى الإنسانية.
ومن هنا، فإنّ الكتابة التاريخية تحتاج إلى: توظيف كلّ هذه الوسائط المُتنوعة من: شهادات شفوية، مُذكرات شخصية، صحافة محلية وحتّى الكولونيالية، والأرشيفات المُختلفة لجمع الأحداث وتركيب الصورة الحقيقية للواقعة التاريخية. وإلى عدم الاِنسياق وراء العاطفة الجارفة في الكتابة التاريخية لأنّها ستعصف بالحقيقة وتُبعد الباحث عن النقد العلمي والتمحيص الّذي يقوم على معرفة الحقيقة مهما كانت، وهو الدور المنوط به وبالمؤرخ. وكذا تسخير المؤسسات العلمية من جامعات ومخابر ومؤسسات ودور الأرشيف ومتاحف مختلفة ومراكز البحث، وتزويدها بالباحثين ووضع كلّ الإمكانيات لهم للاِنخراط في عملية كتابة التاريخ وتخليصه من شوائب الأحكام المُسبقة والذاتية القاتلة، وتقديمه بصورة تليقُ بتضحيات الشعب الجزائري.
أيضا التفتُح على جميع الدراسات ومُناقشة كلّ الآراء والرد عليها بصورة علمية وعدم الاِكتفاء بالأمجاد والبطولات، بل التوقف عند الصعوبات والإخفاقات حتّى تكون مُنطلقا للنقد وتصحيح المسار نحو المستقبل. وتنويع دراسة تاريخ الجزائر والثورة التحريرية والخروج من تاريخ الصدمة إلى دراسة الأوضاع الاِقتصادية والاِجتماعية والثقافية، ورسالة الثورة كمنهج فريد في المقاومة، ومُساهمة كلّ الشعب الجزائري بمختلف أطيافه في معركة التحرير إلى مرحلة البناء والتشييد. وتكريس تدريس التاريخ ومناهجه في المدارس حتّى نربط الناشئة بماضيهم ووطنهم، ويكون هو الحصن المنيع من التيارات التي تعتمد التشكيك في بطولات الشعب الجزائري، ومُساهماته المُختلفة في تسطير الخطوط الأولى لمستقبله.
* هشام ذياب/ أستاذ وباحث في التاريخ -جامعة محمّد خيضر- بسكرة
لا يمكن التعويل عليها كثيرا إلاّ بعد تحليلها وفحصها
تناولت العديد من الأقلام وبكثيرٍ من التفاصيل أهمية المُذكرات والسِيَر الذاتية والشهادات الشفوية في تعزيز البحث التاريخي، إذ تُعتبر من مصادر الكتابة التي لا غِنى لنا عنها لفهم تَشكُل الوعي لدى المجتمعات، ومصدرًا مُهمًا للوقائع التي وثقها رجال الأدب والسياسة والمؤرخين والإعلاميين والمجاهدين والعسكريين... الذين اِقتربوا أو عاصروا أو شاركوا في خِضم الحدث، ليصف كلّ واحدٍ منهم بأسلوبه الخاص مشاعره وملحوظاته ومشاهداته حيال التجارب والمواقف الإنسانية التي عايشها ورآها ومرّ بها، لهذا فإنّ إعطاء هذا المصدر الهام والمُتنوع في الكِتابة، يظلُ «مُنفردًا» من بين الكِتابات المُتعدّدة حول قضايا مُحدّدة في زمانها وفي مكانها، فكتابة المُذكرات والسيَّر وتدوين الشهادات الشفوية عملية شديدة الحساسية وبالغة الدقة، وأنّ الاِعتماد عليها في كِتابة التاريخ جدّ خطير، لذا ينبغي على المُؤرخ أن يكون حذرا في تعامله معها، ولا يقع في فخّ إحداها عندما يرى أنّها تحمل معلومات جديدة عليه، فقد تكون الرواية المُشار إليها صادقة وهادفة وتخدم هدفه العلمي، لكن في المُقابل قد تكون الرواية نفسها وبالاً على المُتلقي، فقد تحملُ في طياتها العديد من المُغالطات لِمَا فيها من المُبالغة والتضليل والإساءة للآخرين، فيكون قبولها أخطر من عدم وجودها أساسًا.
ومهما كان السّارد أميناً ومُؤتمنا إلاّ أنّه لدوافع شخصية أو مصلحية سيقع في هوى نفسه وسينجر للتعصب لذاته ويتأثر بأفكاره… فهذه طبيعة بشرية لا ينجو منها إلاّ من رحم ربي، لذلك على القارئ الحصيف الحذر عند المُطالعة وتدبر كلّ صغيرة وكبيرة، ثمّ التمحيص حتّى الوصول للغربلة، كما أنّها مُتفاوتة القيمة وتتوقف أهميتها على عوامل عديدة ولا يمكن التعويل عليها كثيراً كمصدر لكتابة التاريخ إلاّ بعد نظرة تحليلية فاحصة يتمّ من خلالها الإحاطة الدقيقة بشخصية كاتبها وموقعه ودوره في الأحداث التي يتحدث عنها، وبالتالي مدى اِطّلاعه على تفاصيل تلك الأحداث ومدى اِلتزامه بالموضوعية والحياد في سرد مذكراته وهي شروط قد لا تتحقق إلاّ نادراً، ذلك لأنّ المُذكرات والسيَّر والرواية الشفوية ذات طابع ذاتي ومن الصعب على أيّ إنسان أن يتجرّد من أهوائه وميوله وآرائه ورؤيته للحياة خلال تدوين تفاصيل الأحداث التي كان طرفاً فيها، وهي بمثابة اِعترافات وتبريرات واِتهامات وتأمّلات شخصيّة وذاتيّة، فصاحب المذكرات والرواية الشفوية يودّ في المقام الأوّل أن يظهر أو يُبرز دوره في الأحداث التي يسردها، ومن المُهم ملاحظة مدى إمكانية الاِعتماد عليها ومدى قدرة المؤلف على تقديم المعلومات عن الحدث بدقة، رغم أنّ اِلتزام الصمت بصدّد بعض المعلومات وعدم التطرق إليها لا يدل على ضعف الذاكرة، بل يُشيرُ إلى وجود شكلٍ ما من أشكال الرقابة الرسميّة أو الذاتيّة، ومن جانبٍ آخر وبخصوص الرواية الشفوية؛ نقرّ بتفوق الوثيقة المكتوبة على الرواية الشفوية، ففي مُقابل الوثيقة المكتوبة التي تُحافظ على المضمون ولا يمكن محوها فإنّ الرواية الشفوية تتغير صيغتها كلّما اِنتشرت، وهذه هي نقطة الضُعف الكبيرة في الرواية الشفوية.
وبالرغم من ذلك كلّه فكثيرةٌ هي أصوات المُؤرخين الذين نادوا بضرورة اِعتماد المذكرات والسِيَر الذاتية والتراث الشفوي في تدوين تاريخ حياة المجموعات البشرية المُختلفة، وخصوصًا تلك التي تُقدس الكلمة والإيحاء الجسدي والتداول الشفوي للعادات والأحوال الحسيّة الماديّة والشفويّة اللامادية، ولذلك بات هذا الفريق من المؤرخين أشد اِقتناعًا بضرورة النزول إلى الميدان والسياحة في المجال، والتحرك على الأرض من أجل تسجيل وتوثيق خبرات مهمشي التاريخ من الطبقات المسحوقة، وتخزينها في أشرطة، وتفريغها على الورق في أُفق دراستها وتحليلها تحليلا منظمًا، وبالطبع لن تكون جاهزة نهائيًا للإدراج ضمن المصادر التاريخية المُعتمدة إلاّ إذا خضعت عمليًا للمرور عبر مراحل منهجية من حيث التجميع والحفظ والتصنيف والترتيب وأخيرا التحليل والتعليق.
* فؤاد شيحي/ باحث أكاديمي مختص في التاريخ الحديث والمعاصر-جامعة البليدة 2
على الباحث أن يتعامل مع الشهادات بعلمية
تتنوع مصادر اِستقاء المادة العلمية بالنسبة للباحثين في حقل الدراسات التاريخية من الكِتاب والوثيقة إلى الرواية الشفوية والمذكرات الشخصية، لاسيما إذا ما تعلق الأمر بالبحث والكِتابة حول أحداث الثورة التحريرية 1954-1962، ومِمّا لاشكّ فيه أنّ هذا التنوع في المصادر قد يُشكل في بعض الأحيان أحد الصعوبات التي تُواجه الباحث أثناء عملية اِستقائه للمادة العلمية وتحريرها، ذلك أنّ التأريخ لأحداثها كُتب وِفْقَ مناهج وتصورات تَصُبُ في السياقات والتحوّلات التي مرت بها الجزائر منذ الاِستقلال إلى يومنا هذا من جهة؛ ومن جهةٍ أخرى الأهمية البالغة التي تحظى بها الثورة الجزائرية في التاريخ الجزائري المُعاصر، ونظرًا لهذه الأهمية فقد أسالت الكثير من الحِبر حول أحداثها ووقائِعها، مِمَّا جعلها مَحلَ تضارب وتفاوت في الكِتابة والتأريخ.
ولعلَّ ما نُلاحظه على هذه الكِتابات أنّها لم تقتصر على الأكاديميين فحسب، بل تعدت إلى المهتمين بالتاريخ، إضافةً إلى بعض صانعي الحدث الذين أرخوا لمسيرتهم النضالية خلال الثورة التحريرية سواء كان ذلك عبر إدلاءهم برواياتهم وشهاداتهم الشفوية أو من خلال نشر مذكراتهم الشخصية، وتخضع الرواية الشفوية لعاملين أساسيين وجب على الباحث مُراعاتهما وأخذهما بعين الاِعتبار، بحيث يتوجب عليه أولا الاِنتباه لعامل السن وما ينجرُ عليه من تداخل وتضارب في الذكريات أحيانًا وتعرض أحداث أخرى لملكة النسيان، مع ضرورة التنبه لطغيان الأنا في سرد الوقائع والأحداث المُعايشة. كما يجب عليه أيضا، أي (الباحث) أن يتفادى التعامل مع هذه الروايات الشفوية على أنّها تسوية علمية سريعة ومُحصلة للمعلومة وفقط، بل هو مطالب بتوظيف مناهج البحث العلمي بغية التنزه عن الوقوع في بعض الأخطاء التي من شأنها أن تُؤدي إلى بعض المزالق في الجانب المعرفي خصوصًا وأنّ الأمر يتعلق بالتأريخ للثورة التحريرية، فمن أجل التأكد من صحة الذاكرة يقوم الباحث بمداعبة ذاكرة صاحب الشهادة وِفْقَ منهج التحليل النفسي، اِنطلاقًا من أحداث واضحة وقريبة ووصولا إلى أحداث خاصة ومُتفاوتة من حيث السبق الزمني وتغير الحيّز الجغرافي، أمّا مشكلة الطرح الذاتي وطُغيان الأنا فهي مُهمة سهلة بالنسبة للباحث بحيث يقوم بتقييد المعني بمجموعة من الأسئلة تُجبره على سرد الأحداث والوقائع من منظور مُعايشته لها، لا كونه عنصرا فيها بمعنى الخوض فيها في إطار الذاكرة الجماعية.
أمّا فيما يتعلق بالمُذكرات الشخصيّة التي يعتبرها الباحث مادة دسمة للتأريخ لأحداث الثورة التحريرية، لِمَا تتضمّنه هذه الأخيرة من أحداث ووقائع قد تكون حصرية لصاحبها عايشها خلال مرحلة الثورة التحريرية، لكن من الضروري على الباحث أن يتعاطى معها بحذر أثناء عملية اِستقاء المعلومات منها، ذلك لأنّ صاحب المذكرات يُؤرخ لها باِستناده لمنهج سرد الوقائع التاريخية من جهة أنّه (عنصر) فيها لكن بأسلوب تتخلله النرجسية المُبجِلة للذات، لذلك وجب على الباحث في تاريخ الثورة التحريرية أن يتعامل معها بعلمية عبر إخضاعها للمنهج التاريخي بمختلف آلياته من النقد والتحليل مع ضرورة مُقارنتها ومقابلتها بكِتابات تاريخية أخرى للوصول إلى الحقيقة التاريخية وفي إطارها الموضوعي، خاصّة وأنّ المُؤرخ مُطالبٌ بإظهار الحقيقة التاريخيّة مِمَّا يستوجب عليه اِقتراح مُقاربات جديدة لتغطية جوانب النقص في المذكرات الشخصية بالاِستعانة أيضا بالعلوم المُساعِدة والرافدة لعِلم التاريخ.
* عبد القادر عزام عوادي/أستاذ التاريخ المعاصر -جامعة الشهيد حمه لخضر- الوادي
الشهادات والمذكرات ليست هي التاريخ وإنّما هي مادة مُساعدة في كِتابته
التاريخ هو حقائق ووثائق، ولا يمكن الاِعتداد بالحقيقة التاريخيّة إذا لم تستند على المصادر، ومنها الوثائق والشهادات التي تُثبتُ الواقعة أو الحادثة التاريخيّة، وكم من الحقائق تغيرت وتبدلت بسبب ظهور وثائق جديدة وأدلة أكثر موثوقية، وهذا ما يجعلنا نقول دائمًا بأنّ الحقيقة في التاريخ هي حقيقة نسبية وليست مُطلقة، فحقائق اليوم ربّمَا يظهر زيفها غدًا، وبعض الحقائق الغائبة أو غير المقبولة اليوم قد تُصبح هي الحقيقة المُثبتة في الغد، وهذا كله تتحكم فيه الوثيقة والشهادة.
من هذا المنطلق، نستطيع القول أنّ المُؤرخ لا يمكنه أبدًا الاِستغناء عن المذكرات الشخصية والشهادات الذاتية أو المصادر الشفوية في كِتابة التاريخ، ولكن كما يعرف أهل الاِختصاص جميعًا، أنّ الرواية أو الشهادة ليست هي التاريخ وإنّما هي مادة مُساعدة في كِتابة التاريخ، ولذلك نجد أنّ كِبار المُؤرخين يدعون دائمًا لتسجيل الشهادات الحية والروايات الشفوية من طرف صُناع الحدث حتّى تبقى هذه المادة التاريخية الخام مصدرا يستخدمه الباحث أو من يأتي بعده في كتابة التاريخ بشكلٍ منهجيّ وعلميّ وأكاديميّ خاضع لشروط الكتابة التاريخية.
بعد نهاية ثورة التحرير المُباركة وحصول الجزائر على الاِستقلال، لم تضع الجزائر أي أسس وثوابت في كتابة التاريخ الوطني، وذلك راجع لثقل وحجم المسؤولية التي كانت الدولة الجزائرية المُستقلة تُواجهها في شتّى المجالات والجوانب، وبعدها دخلت البلاد في مرحلة الحزب الواحد والرؤية الواحدة وهذا ما أثر على الكِتابة التاريخية وتوجهاتها ورؤاها وأصبحت هناك كتابة تاريخية مُوجهة، ما جعل المدرسة الاِستعمارية هي المصدر الوحيد للكتابة التاريخية في الجزائر وظهرت كِتابات ومصادر أساسيّة في تاريخ الثورة الجزائرية مُستمدة من الرؤية الفرنسيّة وأصبح الاِستغناء عنها كالصلاة بدون وضوء.هذا الأمر ترك الباب مفتوحًا لتقديم أطروحات وآراء وتوجهات ربّما لا تخدم المسألة الوطنية، لذلك عندما جاءت التعددية وفُتح المجال للكتابة في التاريخ من طرف الفاعلين ومن خلال المُذكرات الشخصية والشهادات والسِيَر الذاتية، أصبح هناك نوعٌ من التضارب والتداخل في المعلومات التي نُشرت في المصادر والمراجع الفرنسية والتي كانت هي الأساس في كتابة التاريخ وبين الروايات الجزائرية المنشورة خلال تلك الفترة لغاية الآن، فبدأت معركة البحث عن الحقيقة التاريخية وأيّهما يحمل الصواب في روايته وأيّهما يعتمد المُؤرخ في كِتابته.
من هُنا، أصبح الاِلتجاء للكِتابات الوطنية والرواية الوطنية شيئا هاما جدا، وأصبحت المُذكرات والسِيَر الشخصية والشهادات الشفوية مُهمة للمؤرخ والباحث في كِتابة التاريخ الوطني، ولكن مع اِستعمال المناهج العلمية الدقيقة واِستخدام منهج المُقارنة والمُقابلة والنقد في جمع هاتِهِ الروايات والشهادات، حتّى يستطيع الوصول للحقيقة أو الاِقتراب منها، والشيء المُهم في كلّ هذا هو ترك مخزون وتراثٌ تاريخيّ خام للباحثين وللأجيال اللاحقة حتّى تستطيع أن تكتب التاريخ برؤية بعيدة عن الإيديولوجيات وعن الأشخاص وصُناع القرار الذين مازالوا على قيد الحياة، وتكون مادة معرفية تاريخيّة لتأسيس مدرسة وطنية لكِتابة التاريخ برؤية مُوحدة جامعة مانعة.
وكمُلاحظة منهجية في الأخير، نُقرّ بأنّ المُذكرات والسِيَر الذاتية والروايات الشفوية هي مصادرٌ تاريخيّة ولكنّها خاضعة للذاتية وأيضا تروي التاريخ برؤية واحدة، وتحكي تجربة شخصية فردية، لذلك يجب على الباحث أن يضع في حُسبانه هذا الأمر ويُمرر هذه الشهادات على ميزان المنهج العلميّ ويُقابلها مع عِدة شهادات وروايات أخرى في نفس الجانب حتّى يستطيع إخراج رواية تاريخية لحادثة معينة من وجهات مُتعدّدة وشهادات مُتنوعة وهذا هو عمل الباحث والمُؤرخ في الوصول للحقيقة التاريخية. وفي الأخير نقول أنّ الشهادات والروايات والمذكرات ذات أهمية بالغة في كِتابة التاريخ والاِحتفاظ بالذاكرة الجمعية للأجيال اللاحقة.
* حليمة مولاي/ مختصة في التاريخ الحديث والمعاصر -المركز الوطني للبحث في الأنثـروبولوجيا الاِجتماعية والثقافية CRASC-وهران
لا يمكن إخراج الروايات والشهادات الشفهية من دائرة المصادر التاريخية
يتفق المُؤرخون على أنّ كلّ ما هو مكتوبٌ أو مسموعٌ يُساهمُ في كتابة التاريخ، ومن ذلك الرواية الشفوية والمُذكرات والسِيَر الذاتية بل وحتّى الروايات الأدبيّة والشِّعر والكُتب الدّينيّة، لأنّ عمل المُؤرخ لا يقتصر على جمع المعلومات وتدوينها كما تلقّاها، وإلاّ سنكون هُنا أمام شخصٍ هاوٍ للكِتابة التاريخيّة وليس بأكاديميّ يُدرك جيدًا منهجية كِتابة التاريخ ويلتزم بها.
يعتمدُ البحث التاريخيّ في أساسه على الوثائق والأرشيف، لذلك تتصدر عملية جمع الوثائق المتنوعة خطوات البحث التاريخيّ، ثمّ يَقومُ المُؤرخ بنقدها نقدًا داخليًا وخارجيًا لأنّه لابدّ عليه من تفحص الوثيقة، غير أنّه لا يُمكِنُنَا حصر عمل المُؤرخ في الوثيقة فقط بأيِّ حالٍ من الأحوال، بل لابدّ له من «الاِستئناس» بالرواية الشفوية وهي الشهادات الحية التي قد تصبح مكتوبة في شكل مذكرات أو تسجيلات صوتية أو صوتية-بصرية، بل وقد يُرجِحُ المُؤرخ الشهادة الحية على الوثيقة، وذلك اِستنادًا لِمَا أسست له مدرسة الحوليات الفرنسية من نقاشٍ علميٍّ واسع حول توظيف الرواية في كتابة التاريخ.
يقفُ مُعظم المؤرخين أمام إشكالية قُدرة الشهادة التاريخيّة (المكتوبة أو غير المكتوبة) ومنها المُذكرات على إنتاج معرفة تاريخية علمية مثلها مثل الوثيقة المكتوبة، ويبدو أنّ الإجابة ستكون بنعم، فالرواية الشفوية تقف في كثير من الأحيان موقف «الندية» أمام الوثيقة المكتوبة لكونها تتعرض لنفس طُرق النقد العلمي، والتمحيص والبحث، فحتّى الوثيقة المكتوبة لا يمكن الأخذ بها دون «نقدها»، وبالتالي فالمؤرخ لا يُمكنه أن يضع نفسه موضع الترجيح بين الوثيقة المكتوبة والرواية الشفوية بكلّ أشكالها وأنواعها، بل يفعل ذلك عندما يقوم بعمله وفق المنهجية المطلوبة من خلال دوره في نقد الوثيقة والرواية نقدا علميًا.
أمّا بخصوص المذكرات، فإنّها تحتوي أحيانًا على وثائق أرشيفية مُهمة يتعذر على المُؤرخ الحصول أو الاِطلاع عليها لأسبابٍ مُختلفة، خصوصًا مذكرات الشخصيات المُهمة بمختلف اِنتماءاتها ونشاطاتها الدينية والسياسية والثقافية والعسكرية، بل سيجد نفسه أمام كِتابة تاريخية فريدة لأنّها تُعبر عن رأي الفاعلين صراحةً بشكلٍ حيويّ يُمكن تحليله، فمثلا أثناء اِستماعنا للشهادات يمكن تتبع حركات الراوي، ملامح وجهه، تفاعله مع الأحداث والأخبار التي يرويها، اِرتباكه، راحته، وغضبه؛ كلّ هذه التفاعلات ينبغي على المُؤرخ الاِنتباه لها أثناء تسجيله للشهادة.
وبالعودة إلى الأهمية التي يكتسيها هذا النوع من المصادر التاريخيّة، فإنّه لا يُمكننا أن نُنكِر أنّ الشهادات ساعدت في التعريف ببعض الأحداث غير المُدوّنَة، وأيضا الشخصيات المُغيّبة، مِّمَّا دفع المؤرخين والباحثين إلى البحث فيها والكشف عنها وإثباتها، وإنّي أستغربُ في كثيرٍ من الأحيان لَمَا أسمع من البعض أنّه لابدّ من الحذر من الشهادات والمُذكرات دون التحذير من الوثائق المُدوّنة والرسميّة أيضا، ولذلك ينبغي أن تكون مسافة حذرنا من الوثائق المكتوبة هي ذات المسافة مع الشهادات والروايات الشفوية.
تحتاج كِتابة التاريخ إلى اِستغلال كلّ المعلومات التي بحوزتنا وتوظيفها وفق المنهج العلميّ الأكاديميّ، دون الاِستغناء بأيِّ حال عن الشهادات والروايات الشفهية، وسنتحرّر من عقدة الوثيقة المكتوبة لَمَا نُسلِم أنّ الشكّ والنقد هما أساس البحث العلميّ، لأنّ الكِتابة التاريخيّة تستندُ لاِستغلال وتوظيف كلّ ما يُوثق الحدث التاريخي بعد النقد والتدقيق والتمحيص، وإنّني ضدّ -بل أرفض تمامًا- إسقاط أو تجاهل مصدر المعلومة لأيِّ سببٍ كان بحجة التزييف أو المُبالغة لأنّ المُؤرخ ليس قاضيًا يُصدر أحكامًا بل هو باحث أكاديمي يعرض معارفه ويقوم بتحليلها.
نحنُ ننتظر إصدار المزيد من المذكرات الشخصية المُرتبطة بتاريخ الجزائر بفارغ الصبر، ولا يمكن تصنيفها خارج إطار المصادر التاريخية لِمَا تحتويه من معلومات قد يعتبرها الكثيرون صادمة وجريئة، ولكنّها تفتح نقاشًا عِلميًّا مُهِمًا حول فتراتٍ مُهمة من التاريخ.