مر المسرح الجزائري، بمراحل وتجارب مختلفة، مضيئة، مزدهرة ومتعثرة أحيانا أخرى، ورغم بعض المصاعب والعراقيل التي اِصطدم بها خلال سنوات الاِحتلال وما بعد الاِستقلال، وحتى خلال العشرية السوداء (فترة الإرهاب التي عاشتها الجزائر)، إلاّ أنّه اِستطاع أن يصنع في وقتٍ من الأوقات تميزه وأمجاده بفضل قامات فنيّة كبيرة كمصطفى كاتب، كاتب ياسين، عبد الرحمن كاكي، عبد القادر علولة، عز الدين مجوبي، محمّد بن قطاف وغيرهم. كما اِستطاع هذا -المسرح الجزائري- أن يُسجل حضوره الذهبي، وأن يفتك أهم وأكبر الجوائز والتتويجات في أكبر المحافل والمهرجانات العربيّة المسرحيّة على مدى سنوات، وأن ينال تقدير أهل الفن والمسرح والثقافة والجمهور العريض، في كلّ مكان تمت فيه برمجة عروضه المتنوعة.
نــوّارة لحـــرش
لكن لم يسلم هذا المسرح من الاِنتقاد، من النقاد والمختصين فيه وفي شؤونه، مؤكدين على أنّه دخل في مرحلة خفوت وتقهقر، وأنّه اِبتعد قليلا عن أمجاده وعصره الذهبي. فهل حقا هناك أزمة يعاني منها المسرح الجزائري رغم الكثير من التتويجات العربية، وهل هي أزمة نصوص واِقتباسات، أم أزمة إنتاج وإخراج، أم هي بالأساس أزمة في المُتلقي/الجمهور؟
حول هذا الشأن اِستطلع «كراس الثقافة» أراء بعض الكُتاب والمهتمين بالمسرح.
المسرح الجزائري يُعاني من أزمة لكنّها أزمة في سياقات أخرى غير أزمة النصوص
يقول، الكاتب والناقد محمّد بن زيان، أنّه لا يمكن أن نتحدث عن المسرح بمعزل عن السياق العام. وأنّ المسرح في زمن صعوده مع الرواد الأوائل مثل عبد الرحمن كاكي ومصطفى كاتب وكاتب ياسين وعبد القادر علولة، وسليمان بن عيسى وغيرهم كان مرتبطا بحراك في الجامعات والمنابر الصحفية وفضاءات النقاش العمومي التي اِمتدت حتى إلى بعض المقاهي.
صاحب «حرائق قلب»، يرى أنّ المسرح الجزائري يُعاني حقًا من أزمة، لكنّها أزمة في سياقات أخرى غير أزمة النصوص كما يقول بعض المهتمين والمشتغلين بالمسرح، وهو يقول بهذا الخصوص: «لا يمكن ربط أزمة المسرح، بالنصوص وإنّما هي أزمة مرتبطة بالمنظومة وبالاِختلال القيمي الّذي كرّس علاقات زبائنية وفرض اِحتكارا أجهض إرهاصات وبدّد طاقات، كما تمّ فرض تنميطا جعل المحورية للسكاتشات الخفيفة الفارغة من أيّ فنٍ ومحتوى على حساب المسرح الحقيقي. ورغم ذلك هناك تجارب لا زالت تحمل الوعد وتواصل مسيرة الرواد. الأزمة ليست في النصوص، وإنّما في غياب الالتفات لما تراكم في المنجز السردي. الأزمة لا يمكن ربطها بالمتلقي لأنّ التلقي مستويات وهناك شباب يُقبلون بشغف على متابعة بعض مسرحيات الرواد المؤرشفة في اليوتيوب».
بن زيان، يؤكد من جهة أخرى أنّ: «الأزمة اِرتبطت بهيمنة البيروقراطية التي عطلت مبادرات وارتبطت أيضا بتغييب المعايير الاِحترافية في اِنتقاء النصوص من طرف اللجان المُكلفة بالقراءة. كما اِرتبطت أيضا بغياب التواصل مع مختلف مكونات المنظومة التي من المفروض أن تمد مسرحيًا جسور التواصل معها. وهناك مسارح سدت الباب أمام الشباب ولم تُحقق التواصل».
وخلُص بن زيان في الأخير إلى أنّ الأزمة مُرتبطة أيضا بسوء التسيير أحيانا: «الأزمة مرتبطة أيضا وبشكلٍ كبير، بالتسيير، لأنّ للتسيير في المجال الثقافي خصوصياته وقواعده وهو ما نفتقده للأسف».
أزمة هوية معرفيّة
أمّا الباحث والناقد، حبيب بن مالك، فيرى أنّ المسرح هو القاطرة المُحركة لبناء ثقافات المجتمعات، إذ يقول في هذا السياق: «المسرح، ذلك التعبير الجماليّ الفنيّ عن خبايا الإنسان وطموحاته في محيط تتجلّى فيه كلّ اِنفعالات البشر وعواطفهم، هو حاجة حضارية ميّزت سيرورة التعابير الفنيّة بمختلف أشكالها، وكان -المسرح- وما يزال القاطرة المُحركة لبناء ثقافة مجتمعية متميزة».
ثم يضيف متسائلا: «هل حقا يعاني (المسرح) أزمة بعد مضي سنوات زاخرة من العطاء والألق، خاصة خلال المد الثوري والنضالي في إطار تيارات ميّزت فترة من حركة تاريخ الإنسانية والتي تأثر بها مثقفونا». ثم واصل مستطردا: «يمكن أن نسبر الإشكال المطروح بمعايير شتى، لكن من وجهة نظري كمتلق لمنتوج ثقافي مسرحي، أرى أنّ المسرح في الجزائر، يعاني في أساسه من أزمة هوية معرفيّة، حاول بعض من رواده أن يشتغلوا على بلورتها لقدر ما، لكنّها ظلّت مرتبطة بانتماءات إيديولوجية وسياسية أحيانا. فقط عطاءات مصطفى كاتب، ولَبِنات عبد الرحمان كاكي وتجديدات عبد القادر علولة كانت متميزة وأرست دعائم أولى لضبط هوية مسرحية جزائرية، لكن الاِستمرارية لم تُـــثمر بما كان يطمح إليه هؤلاء الرواد».
بن مالك، وفي ذات السياق، واصل قائلا: «إضافة إلى كلّ ما سبق، فإنّ النصّ المسرحي ظلّ يرتكز على اِقتباساتٍ مُمنهجة في تيارات فكرية مُحدّدة، وبالتالي غاب ذلك التنوّع الثقافيّ الّذي تزخر به الجزائر بمختلف مناطقها، حتى اِرتبط عند بعض الأذهان بالحركة اليسارية أساسًا، ثمّ إنّ النصّ المسرحي المكتوب والمطبوع في كُتب، لم يجد ذلك الرواج الّذي يلفت اِنتباه صانع الفرجة المسرحية، من مخرجين وفنيين، وحتى مُتلقين، إذ ليس هناك كُتّابًا مسرحيين محترفين، باِستثناء الراحل مصطفى كاتب وبعض نصوص كُتّاب في الأصل هم إمّا روائيين أو شعراء ولم يكن هاجسهم الكتابة المسرحية المحترفة، كما أنّ عامل اللّغة ترك بصمته على نفور جمهور المسرح أو عدم تبلور فئة من المجتمع تتغذى بالمنتوج المسرحي وتسايره كما يحصل مع الموسيقى والسينما».
ويؤكد بن مالك دائمًا، على أنّ اللّغة المسرحية كانت تعتمد على لغة ثالثة وسط، عادة يكون الأصل اِقتباسًا بلغة فرنسية ثمّ يُحوّل إلى لهجة قريبة من العامية، مع اِبتعاد شبه دائم عن اللّغة الفصحى، رغم وجود محاولات جادة لمسرحيات باللّغة العربيّة.
وخلص في الأخير إلى أنّ -المسرح- كمنتوج يتشكل من عناصر مُتشابكة، وإن كان فنًا فإنّه أضحى صناعة قائمة بذاتها تحتاج ورشات وأموال داعمة وتقنيات حديثة لتسويق المنتوج والترويج له والإشهار الواسع لبلورة القابلية عند جمهور مستقبلي، تمامًا كما يحدث مع فنون قريبة مثل السينما والموسيقى، وهنا نجد هذا الإشكال دومًا مطروحًا، عند جمعيات المسرحيين سواء هُواة أو محترفين، فنقص التمويل يُؤدي إلى تذبذب العروض وعدم اِحترافيتها وبالتالي بقاءها محدودة الاِنتشار والتأثير في المجتمع ويبقى المسرح حالة مجتمعية تتأثر بمّا يتأثر به المجتمع سلبًا أو إيجابًا.
رغم ما تحمله الاِقتباسات من قيم وجماليات إلاّ أنّها لا تتماشى مع رسالة المسرح الجزائري
من جهته، يرى، الكاتب والمترجم محمّد عاطف بريكي، أنّه لا يمكننا التكلم عن واقع المسرح بمعزل عن الوضع الثقافي العام في بلادنا وإذا كانت هناك بعض الأسباب الخاصة بالمسرح، فيجب أيضا أن لا نفصل بين غياب النص المسرحي وغياب الشروط الأخرى التي تدفع المسرح نحو التحرك الشامل.
ويواصل مُحلِلا: « الأكيد هناك جمهورٌ عريض متعطش للعروض المسرحية، فالجزائري عمومًا أصبح من الوعي بمكان يجعله لا يرضى بالمعالجة السطحية للقضايا المطروحة ولطالما كان المسرح الجزائري نبض الشارع والأحداث».
وبالنسبة للاِقتباسات، فهو يرى أنّه «بالرغم مِمّا تحمله من قيم وجماليات تقارب الزخم المجتمعي إلاّ أنّها لا تركب صهوة النفحة الجزائرية البحتة ولا تتماشى مع رسالة المسرح الجزائري الّذي صنعت مجده سلسلة نصوص جزائرية تحمل رائحة الهم الجزائري الّذي يعتصر قلب كلّ واحد فينا، وعليه لا يمكن العودة إلى أمجاد المسرح إلاّ بالرجوع إلى جزأرة النص المسرحي في حد ذاته».
ظلّ مُقاومًا وأنتج أعمالا كبيرة وأسماءً لامعة لن تكرر
في حين يذهب الكاتب محمّد بن جلول، إلى القول أنّ العلاقة التي تربطه بالمسرح علاقة نصيّة في الأساس تحكمها عدّة ظروف آخرها الجغرافيا. ثمّ يضيف موضحًا: «كنتُ مولعًا بأعمال عبد القادر علولة التي كان التلفزيون الجزائري يبثها، إلى جانب عروض كثيرة حضرتها تحت مسميات مختلفة وفي مناسبات ثقافية ومسرحية متنوعة، والحقيقة أنّني لا أجد تفسيرا لمفردة (أزمة) ولا أي مبرر لها إذا ما تحدثنا عن المسرح، كونه وعبر مراحل عصيبة عاشها، ظلّ المسرح الجزائري مُقاومًا، بل وأنتج أعمالا كبيرة وأسماءً لامعة أظنها لن تكرر».
ويستطرد صاحب «أوجاع باردة»: «المسرح برسالته وقيمه الجمالية والإنسانية التي رفعها طويلا، اِنزلق دوره للأسف وحاد خطابه وذابت خصوصيته نتيجة غياب إستراتجية شاملة تضم وتراعي كلّ الأطراف والمشتغلين في حقله. عوامل عِدة كانت السبب في تدهور وضعيته وتأزمها، أذكر من بينها، تحوّل المسرح إلى مقاولة بقصد الربح السريع على حساب النوعية، وان كانت هناك بعض الأعمال التي تستحق الإشادة. كما تحوّل المُخرج إلى كاتب سيناريو وممثل وتقني إضاءة أمام عروض ونصوصٍ حقيقية لكُتّاب أكفاء، ولهم رؤية ولمسة في المجال».
بن جلول، يرى من جهة أخرى، أنّ «فكرة الاِقتباس وجزأرة الكثير من الأعمال المسرحية، أيّ من المسرح إلى المسرح بدل الاِقتباس من حقول إبداعية أخرى مثل الرواية والقصة والشّعر وغيرها، أضرّت بنوعية القضايا التي يطرحها ومدى ملاءمتها وحداثتها».
مؤكدا في الأخير أنّ «المسرح وأثناء عصر (البحوحة) وعديد الأعمال التي أنتجها لم يستطع أن يُسوق لها إعلاميًا، بل بقى عاجزا أمام إيجاد حلول كافية كفكرة فتح قناة تلفزيونية خاصة به مثلا، تبث جديده وتُعرِّف بعروضه وأهم رواده وتاريخه».
ن. ل