هل يمكن القول أنّ هناك ما يُسمى بأدب الأوبئة؟ وكيف تناول هذا الأدب موضوع أو «تيمة» الأوبئة، كيف عالجها، كيف اِستثمر فيها إبداعيًا وأدبيًا وروائيا على وجه الخصوص. وهل تناولها من سياقها التوثيقي التسجيلي مُتكئًا على قوة الفن والإبداع، أم فقط اِتكأ على لحظة راهنية للحالة «الوباء». ومن جهةٍ أخرى إذ كانت آداب العالم فيها الكثير من الروايات والقصص وحتّى القصائد التي تناولت أنواع الأوبئة والكوارث التي ألمت بأماكن ومناطق في مختلف جغرافيات العالم وخلدتها في المتون الإبداعية. بالمقابل هل يمكن الحديث عن أدب أوبئة عربي. حول هذا الشأن «الأدب والأوبئة»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد مع مجموعة من الأدباء والكُتّاب والمترجمين من الجزائر ولبنان والمغرب وتونس.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
* عبد الحفيظ بن جلولي/ كاتب وناقد
الحديث عن «أدب أوبئة» عربي يكون قائمًا عندما تتراكم النصوص
ماذا يمكن للإنسان أن يفعله وهو يرى خطرا فتاكًا يُهدّد مستقبله، وباء يُهدد الحياة على وجه الأرض، إنّه الفناء بالنسبة إلى الكائن الهش الّذي يُعايش الكوارث من ثقب مخيلته، حيث يُتابع عرضًا مُقرفًا للنهايات المُحتملة التي يمكن أن يتعرّض لها إذا لم يُقضى على «فيروس» الفظائع المُهدّدة لأمنه البيولوجي.
لماذا حين حدوث الوباء ننفعل بسرعة إزاء أسوأ السيناريوهات المُمكنة؟
لأنّه، وبكلّ بساطة، عند الأزمات القادرة على محق الحياة، عندما نلمس الخطر بأعيننا وبهشاشة أجسادنا، تفرّ الرّوح نحو مناطق الجمال في الحياة فتتشبث بها، وتبدو الحياة حينها أكثر بهاءً وتفجرا في اِنبثاقات غير مُنتظرة من الرغبة واللذة والإغراء، والأدب، وحده القادر على تمثل هذه الحالات لأنّها صنو الخيال الّذي ينبت في زوايا لا تقوم سوى في المناطق المجهولة وغير الآمنة. يتصادم الأديب باِستمرار مع الحياة، يترصد الأعطاب المُمكنة التي قد تُصيبها ليصوغ من تداعياتها إمكانات جمالية تنقالُ باللّغة العصية عن القول لدى غيره من البشر.
يكتب الأدب هذه اللحظات المُتعثرة في الخوف والألم والقلق من مُستقبلٍ مُظلم. يتخيّل الأديب ذاته كما لو كان موضوعًا لحالة الوباء، ليس بطولة، يفعل ذلك والخوف يتملكه ويستولي على بقية البشاشة فيه، وذلك مَكمن الجمالية في متابعته للوباء وللخوف المكين في الضعف والتلاشي الإنسانيين في وهاد المجهول. الوباء مجهول يتصدّى للرّغبة الإنسانية وهي تُمارس تفاهاتها وعدم اِكتراثها بنظام الحياة الصارم، إنّ الحياة والطبيعة كلتاهما تُدافع عن نفسها ضد التشوّه الّذي يريد أن يُحدثه الإنسان في نسيجها، وربّما «الاِستنساخ» Clonage وما أُنجز حوله من تخييل، يكشف جانبًا من اِنفلات ما يتصوّره الإنسان قُدْرَةً على التحكم في الطبيعة، فينتج المسخ، «فركنشتاين» أو النعجة «دولي» تلك التي لم نعرف من مصيرها، سوى ما أحدثته من شو إعلامي!!
يُفرّقُ النقاد ودارسوا الأدب بين قصص الديستوبيا Dystopie التي تتناول المستقبل لكن في شكله المُظلم، عكس اليوتبيا Utopie، وهناك أيضا ما طوّره الأدباء فيما سمّيَ بــ»أدب نهاية العالم» apocalypse، كلّ هذا نتج عن مخيّلة الأديب حين تصدمه الحياة في تحوّلاتها الطافرة، فيعمد إلى إنتاجية العمل الأدبي الّذي يروم من ورائه سبر أغوار الغموض المُسمّى حياة، فالفيروس المُسبّب للوباء، يُعتبر من عناصر الحياة، لكن تلك الحياة التي اِنبثقت في دوائر الخطر، ومن هذا الخطر تنتج الخيالات المُمكنة والمُستحيلة حول ما يُحيط هذا المجهول، فتُبنى نظريات «الحرب البكتريولوجية» كما حدث مع فيروس HIV المُسبّب لمرض نقص المناعة المكتسبة SIDA، وهو ما تكرّر مع «كوفيد19» أو كورونا فيروس Coronavirus الّذي تفجّرت بؤرته في الصين بولاية يوهان، ناهيك عمَّا أحدثه وباء «إيبولا»، وما أنتج حوله من تخييل، كلّ هذا يجعل مصطلح «أدب الأوبئة» وارد وشرعي.
يمكن الإشارة إلى رواية «الطاعون» لألبير كامو، و»حب في زمن الكوليرا» لغابريال غارسيا ماركيز، ورواية «إيبولا 76» للرّوائي السوداني أمير تاج السر، وهذه الرّوايات كلّها تستثمر في ما يخفيه غموض نشأة هذه الأمراض وكيفيات تطورها وفتكها بالإنسان، تستثمر فيها بعديا شركات السينما العالمية وتُمرّر من خلالها الكثير من المشاريع والأفكار التي تخدم جهات من مصلحتها أنّها تبرز وتُضخّم من سوبرمانيتها، كي تضبط العالم وفق ذكاء مخابرها التي تظهر في العمل الفنّي قادرة على نسف العالم من خلال ضرب نسيج الجسد المُتناسق، وكم هي بليغة ومُؤثرة ومُخيفة صور الجسد مُتحوّلا بفعل قدرة الفيروس اللامرئي على تخريب بنية الخلايا الحيوية، وفي ذلك إحالة إلى القِوى المُدمّرة التي تخفيها دوائر الشر أو قِوى العالم الخفية.
تُمثل الرّواية الفضاء الأوسع لتشكيل المُتخيّل حول الأوبئة، باِعتبار الحدث واللّغة، ويمكن أن نثبت هذه المقدرة الفنية على إعادة تشكيل الحدث من خلال زوايا المغامرة وتثوير منطق الغموض فيه من خلال مثلا، عنوان «حب في زمن الكوليرا» لغابريال غارسيا ماركيز، حيث تتفجّر جمالية الحب في بؤرة خطر الفناء الّذي تُسبّبه «الكوليرا»، فتنبثق إرادة الحياة الغالبة من خلال موضوعة «الحب». أمّا رواية دين كونتز «عيون الظلام»، فلقد أشارت فيما يُشبه النبوءة إلى زمنٍ مُحدّد (2020) ومكانٍ مُعيّن (يوهان)، وهما زمكان ظهور الكورونا، والرواية كُتبتْ عام1981. ولا يمكن أن نغفل الشِّعر، كقصيدة «كوليرا» لنازك الملائكة، وقصيدة علي الجارم عام 1895 وقصيدة «معسكر الكوليرا» للصحفي والشاعر الإنجليزي روديارد كيبلنج.
يبدو لي أنّ الحديث عن «أدب أوبئة» عربي، يكون قائمًا عندما تتراكم النصوص وتنطلق من هذا التراكم مشيرة إلى ذاتها، لتصل إلى فضاءات الإنتاج السينمائي الّذي يُطوّر ويُكثف من اِنتشارها عن طريق الصورة التي تُعتبر أكثر تأثيرا في الوعي وفي الوجدان، ومنه يصبح الحديث مبرّرا وفق ما يتداوله النقد فنّيًا، سنمائيًا وروائيًا.
* حسن داوود/ روائي وناقد لبناني
أدبنا الحديث انشغل بالأمراض والأوبئة الاِجتماعية والسياسية
ما كنتُ لأعلم أنّ تاريخ المجتمعات العربية القديمة عانت من تفشّي الأوبئة لو لم أقرأ، مؤخرا وبعامل الصدفة، مخطوط كِتاب تناول الطواعين في العصر الأموي. بدا ذلك لي، أنا اِبن الجيل الّذي كان الأدب العربي سبيله الأوّل إلى تحصيل المعرفة، كمثل حقنة غريبة ضُخَّت في العالم الّذي كنتُ أظن أنّي أعرفه.
آنذاك في العصر الأموي كانت الأوبئة تتتالى على ما يَذكر الكتاب، حاصدة عشرات الآلاف من الأرواح في كلّ مرّة.
لم نقرأ ذلك في الشِّعر، أقصد الشِّعر الّذي في مناهج الأدب المدرسية والجامعية وما حولها. ربّما كان علينا ألا نكتفي بالبقاء في حدود الأدب، فنقرأ المقريزي مثلا، الّذي دوّن شيئًا من ذلك في خططه. لكن التأريخ كان فرعًا آخر من المعرفة، لم يضطرنا الأدب إلى أن نبحث فيه. المهم أن لا كلام عن الأوبئة في الشِّعر القديم الّذي قرأناه وحفظنا منه الكثير الكثير. هذا ولا أحسب أنّ أدبنا الحديث تطرّق إلى ذلك. ربّما اِنشغل بضروب أخرى من الأمراض والأوبئة، الاِجتماعية والسياسية، الفاتكة بمجتمعاته. ثمّ أنّ الأوبئة والجائحات بعيدة، سواء في الزمن أو في الجغرافيا. أي أنّها تحصل في أمكنة تفصلنا عنها أزمنة وأمكنة كثيرة.
ولم يتجشّم الخيال الأدبي العربي الحديث عناء التحليق فوق تلك الأصقاع. كان في الغالب موضعيًا وآنيًا مُنشغلا بِمَا يجري في عالمه القريب، أو عالمه الضيّق القليل. أتذكر مثلا كيف أنّنا «مباشَرون» على ما يصف بعض منا. كيف أنّنا نبقى في محليّتنا مكرّرين الأفكار الأدبية ذاتها، تلك التي سبق لغيرنا أن اِبتكرها. أتذكر كيف اِهتدينا من سنوات إلى أنّنا، في أدبنا، صرنا وجوديين بعد وصول الوجودية إلينا؛ واقعيين بعد أن جرى التبشير بالأدب الواقعي؛ وكيف صرنا سحريين بعد أن حقق هذا الضرب من الأدب نجاحات قوية. نحن، لكون ثقافتنا ثقافة ثانية، أو ثانوية، لسنا مطالبين بأن نكون عالميين أو كونيين، فهذه مهمة آخرين سوانا. أقصد أنّنا لسنا مطالَبين بأن نُوسع رقعة مساحة العالم. ما يمكننا فعله هو أن نأخذ موضوعات العالم كما سبق أن تعيّنت وتحدّدت.
أن نكتب أدبًا عن الوباء يعني ألا نكتفي بأن نصفه أو نُؤرخ له أو أن نفّصل أهواله. أتذكر هنا رواية توماس مان «موت في البندقية» التي نقلها فيسكونتي بعملٍ مبدع إلى السينما، هل هي رواية عن الوباء أم عن الزمن العادي لكن المتقلّب المتغيّر. ذلك الوباء الحاضر بكلّ ثقله في الرواية بدا أقرب إلى خلفية مسمومة لحياة ذلك الموسيقي المهزوم والمتسائل عن تلك الرغبة التي أطبقت على وجوده. موت في البندقية ذهبت إلى أبعد من الطاعون، رغم هوله. أو هي أدلته في النسيج المتداخل لأزمة بطلها.
كما لا أحسب أنّ رواية ألبير كامو قد توقّفت عند الطاعون. لقد مرت سنوات بل عقود على قراءتي لها، أما أكثر ما أذكره منها فشخصية مسيو جوردان الّذي، فيما هو يسعى إلى مكافحة الزمن الوبائي بالكتابة، لم يتمكن من إنجاز إلاّ جملة اِفتتاحية واحدة، ظلّ يقلّبها على مدار زمن الرواية. ليس جوردان، كما غيره من شخصيات الرواية، مجرّد شخصيات وُضعت في مجهر الوباء، بل تكاد تكون معاناتها أوسع من فضائه. فهي لم تستخدم لأجله (لأجل أن تُعرّف أو تعيّن أم حتّى تستفيض بإظهار سطوته على ضحاياه).
* لونيس بن علي/ كاتب وناقد أدبي
روايات قليلة تناولت الأوبئة كتمثيل رمزي لمشكلات سياسية ودينية
ينبغي أن نعترف أنّ الرواية في الجزائر لم تعطِ قيمةً للمشاكل البيئية، فقد هيمنت فيها الموضوعات النفسية والاِجتماعية والسياسية والأخلاقية والتاريخية التي تُشكّل حقيقة هواجس الكُتّاب، في حين أهملت أسئلة البيئة ومخاطر التلوث والأوبئة الناجمة عنها. فالطبيعة تظهر فقط كديكور رومانسي في غالب الأحيان.
من هنا، فإنّ هذا التوجّه في إقصاء البيئة من اِهتمامات الأدب خلق قارئاً مُفرغًا من هذه الهموم، بل أنّ هذا النوع من الأدب، حتّى لو أنّه وُجِد، فلن يَلقى الاِهتمام الّذي يستحقه؛ فالقارئ عندنا مازال مُرتبطا بقصص الحب، أو بالأدب السياسي أو الاِجتماعي الّذي ينتقد المجتمع أو السلطة السياسية.
يُمكن أن نُفسّر هذا العزوف بنقص الثقافة البيئية عند الجزائريين، فالبيئة لا تشكّل هاجسًا ثقافيًا ولا أخلاقيًا ولا علميًا إلاّ عند أهل الاِختصاص فقط.
أضف إلى ذلك، أنّ الأدب الّذي يكتب عن مخاطر البيئة والأوبئة ليس أدبًا مُعتمدا مؤسساتيًا، بل يُدرج في أدب الدرجة الثانية، الّذي ينتمي أصلا إلى أدب الخيال العلمي وأدب الديسوتوبيا وأدب الكوارث. في حين يُحظى بمقروئية مُهمة في الغرب، وربّما يَعد ذلك أيضا إلى دور السينما التي نقلت العديد من هذه الروايات إلى الشاشة الفضية.
في الجزائر، لم نُؤسس بعد لهذا النوع من الأدب، على الرغم من أنّه ينطلق من الواقع البيئي الّذي أصبح مُهددا بسبب التلوث والمُمارسات اللا إنسانية الأنانية، خاصة وأنّ الطبيعة طرأت عليها تحولات خطيرة تجلت في الكوارث الطبيعية التي اِزدادت وتيرتها في السنوات الأخيرة.
لقد غرق أدبنا في أسئلته الوجودية والنفسية وفي نقد السياسة والمجتمع، لكنّه ظل بعيدا عن طرح أسئلة البيئة، وفي نظري أنّ هذا راجع إلى طبيعة التربية التي يتلقاها الجزائري، فهو يأخذ المعارف عن المجتمع وعن التاريخ وعن تضاريس الجنة والجحيم في حين يظل وعيه بالبيئة محصورا في معلومات عامة فقط. في السنوات الأخيرة ظهرت بعض الروايات القليلة التي تجرأت واقتحمت مجال هذا النوع من الكتابة الأدبية، وأنا شخصيًا اِطلعت على روايتين، وهما: رواية «هالوسين» لإسماعيل مهنانة (منشورات الجزائر تقرأ 2018)، ورواية «الآدميون لإبراهيم سعدي» (منشورات ضفاف والاِختلاف 2018).
وقد لاحظتُ عند قراءتي للعملين أنّ الوباء لا يظهر فيهما إلاّ كرمز للتعبير عن خطرٍ من نوعٍ آخر، بمعنى أنّ الاِشتغال على فكرة الوباء لم تكن ضمن نسق التعريف بمخاطره والتحذير منه أو تخيل التأثيرات المُمكنة له على صعيد الأفراد والمجتمع.
ففي رواية مهنانة تخيل وباءً خطيرا أصاب منطقة شمال إفريقيا، لكنّه وباء من طبيعة غير طبيعية يضرب الجهاز الفكري عند الإنسان، فيحوّله إلى أصولي مُتعصّب يرغب في الاِنتحار والموت. وسيكشف لنا الروائي خصوصية هذا الوباء، الّذي يتنقّل من خلال الكلام، وينتشر أكثر في البيئة المتدينة.
أمّا في رواية (الآدمييون) لإبراهيم سعدي، فيتخيل الروائي مدينة ديسوتوبية بعد أن أُصيبت منذ قرون بوباء خطير ينتقل هو الآخر من خلال الكلام، ما دفع بالناجين إلى اِلتزام الصمت لسبع سنوات.
غير أنّنا نلاحظ بأنّ الروايتين لم تتطرقا إلى الوباء كخطر بيولوجي، بل قدمتاه كتمثيل رمزي لمشكلات سياسية ودينية كنقدٍ للمجتمع.
* بوداود عميّر/كاتب ومترجم
لا يوجد في ثقافتنا العربية أدب أوبئة أو كوارث بعكس الغرب
شهد العالم على مر التاريخ، العديد من الكوارث التي كبدت البشرية خسائر مادية وبشرية كبيرة، تتفاوت في الحجم والخطورة والتأثير والتأثر؛ فليس غريبًا أن يُواكب الأدب الحدث، يُسجل اللحظة ويُوثقها في عنفوانها ومأساويتها وتداعياتها. وأمام تراكم النصوص التي اِتخذت من خلال مُختلف الأجناس الأدبية وجهتها، نشأ في خضم ذلك، ما صار يُطلق عليه في الغرب بأدب الكوارث، والّذي يشمل الزلازل والبراكين وسقوط الطائرات وغرق السُفن... وحتى وإن كان الوباء يدخل ضمن هذا الإطار، لكنّه ينفرد بخصوصيته «الكارثية» في سرعة الاِنتشار والعدوى وتعداد الضحايا، من هنا يبدو تأثيره على فِكر ووجدان الناس، أكثر حِدة ومأساوية ورسوخًا في الذاكرة الإنسانية.
هكذا وبعد تفشي وباء كورونا المُستجد، واِنتشاره السريع؛ أخذ العالم، فجأة يُولي اِهتمامه لهذا النوع من الأدب، في محاولة إدراك ما يدور حول العالم الآن، في فهم ظاهرة جديدة، لم يدرك كُنهها، لم يعشها أو يعرفها عن قرب كجيلٍ أو أجيال، كان يتصور واثقا من نفسه، أنّ الوباء اِنتهى إلى غير رجعة، وأنّه تمَّ القضاء عليه نهائيًا، بفضل ما وصل إليه الطب من اِنجازات في العالم، وهو لا يُنكر، وكذلك بفضل تحسن الوضع الاِجتماعي في العصور الحديثة بالمقارنة مع العصور الغابرة، فقد اِرتبط في ذاكرته العلاقة بين البؤس والوباء، كعلاقة جدلية.
رواية «الطاعون» للكاتب الفرنسي ألبير كامو، اِحتلت صدارة الاِهتمام، نظرا لمقاربتها الأدبية والفلسفية للوباء المُستجد، من خلال وباءٍ آخر حدث منذ قرن، وخلفَ الكثير من الخسائر في الأرواح. الرواية ومنذ تاريخ صدورها سنة 1947، لم يتوقف طبعها وترجمتها، إلى لغات العالم، بحيث أصبحت تحتل المرتبة الثالثة في مبيعات دار «غاليمار» الشهيرة، بعد كلّ من روايتي «الأمير الصغير»، لاكزوبيري و»الغريب» لألبير كامو. أحداث الرواية تجري في مدينة وهران، عن الوباء الّذي اِجتاحها على حين غرة، وتصرفات سكانها، من حالة الاِستخفاف والاِستهتار إلى حالة الإذعان والرضوخ للأمر الواقع.
فالطاعون الّذي أصاب مدينة وهران، صنع مقاومة داخلية للوباء، وغيَّر الكثير من طباع سكانها. ورغم أنّ الرواية تنتهي ببعض الأمل في إيجاد العلاج الّذي ينقذ الناس، من خلال بطل الرواية الطبيب ريو؛ لكن الفقرة الأخيرة من الرواية تُجدد اللقاء مع الوباء، ذات قادم، مادام الاِستهتار قائمًا: «هذا الوباء لا يموت ولا يختفي، وإنّه يستطيع أن يظل عشرات السنوات نائمًا في الأثاث والملبس، وأنّه يترقب بصبر في الغُرف والأقبية والمحافظ والمناديل، والأوراق التي لا حاجة لها، وأنّ يومًا قد يأتي يُوقظ فيه الطاعون جرذانه، مصيبةً للناس وتعليمًا لهم، ويرسلها تموت في مدينة سعيدة». رواية «العمى» للكاتب البرتغالي جوزيه سارماغو، الصادرة سنة 1995، نالت نصيبها الوافر من الاِهتمام هي كذلك، الرواية تتحدث عن وباءٍ خطير اِجتاح العالم يُصيبُ ضحاياه بالعمى، إنّ العمى كما تقول الرواية «هو أيضا أن يعيش المرء في عالمٍ تبددت فيه الآمال كلها».
هكذا الأدب يُؤثر ويتأثر، حدث ذلك في كثير من المناسبات؛ العام الماضي، وبعد حريق كاتدرائية نوتردام التاريخية، وسط العاصمة الفرنسية باريس، تصدرت رواية «أحدب نوتردام» لفيكتور هوغو، قائمة المبيعات. وإذا كان الغرب قد نجح في التمكين لهذا النوع من الأدب، الحاضر عبر أجناس أدبية مُختلفة، ومن خلال التراكم الّذي صنع منه نوعًا أدبيًا قائمًا بذاته؛ لكنّه في الثقافة العربية، يبدو الأمر مُختلفًا، قد يعود ذلك ربّما إلى اِعتمادها عمومًا على الشِّعر في التوثيق الإبداعي، والّذي لا يمكنه أن يستوعب الكوارث بجميع أبعادها الإنسانية، بالقياس إلى الأجناس الأدبية الأخرى كالمسرح والرواية خاصة، والتي عرفتها الثقافة العربية متأخرة.
* وليد سليمان/كاتب ومترجم تونسي
الكُتب العربية التي تناولت الأوبئة يغلب عليها الطابع التوثيقي والتأريخي
ما إن اِنتشر وباء «الكورونا» الّذي سرعان ما تحوّل إلى جائحة عالمية في ظرف أسابيع قليلة حتّى تركّز اِهتمام القُراء ومحبي الأدب على الأعمال الأدبية التي تتناول موضوع الأوبئة بكلّ تفرعاتها مثل الطاعون والكوليرا... وهو ما جعل عديد الأعمال الأدبية التي لها علاقة بهذا الموضوع تعود إلى واجهة المكتبات. والحقيقة أنّ القائمة طويلة نسبيًا ويمكن أن نذكر منها: «الديكاميرون» لبوكاتشيو، و"يوميات سنة الطاعون» لدانييل ليفو، و"الموت في البندقية" لتوماس مان، و"العمى" لجوزيه ساراماغو، و"طاعون وكوليرا" للروائي الفرنسي باتريك دوفيل، و"الحب في زمن الكوليرا"لماركيز، و"الطاعون" لألبير كامو التي أعلنت دار غاليمار للنشر أنّها توجد على رأس قائمة كُتبها الأكثر مبيعًا منذ عقود. وكلّ هذا يقودنا إلى التساؤل عمَّا إذا كان هناك ما يمكن أن نطلق عليه «أدب الوباء» أو «أدب الأوبئة»، أو بعبارة أخرى: هل هناك تيّار أدبي منظّم ومعترف به يتناول هذه التيمة مثلما هناك "أدب الحرب" و"أدب البحر" وغيرها من الموضوعات؟
أوّل ملاحظة يمكن أن نسوقها هي أنّ الأدباء الذين كتبوا أعمالا تتناول هذا الموضوع لم يعلنوا بشكلٍ صريح أنّ ما كتبوه ينتمي إلى تقليد أدبي له علاقة بالوباء، وبالتالي تنتفي مقولة أنّ هناك تيّار أدبي يُسمى «أدب الأوبئة»، فكامو مثلا عندما كتب رواية «الطاعون» كان ما يشغله بالأساس هو الكتابة ضمن التيّار الوجودي، وكان الطاعون مُجرّد تعلّة أو خلفية تُساعده على تقديم أفكاره بشكلٍ فنيّ وجماليّ.
والملاحظة الثانية هي أنّ الأعمال الأدبية التي تتحدّث عن الأوبئة تفصل بينها مسافة زمنية وجغرافية كبيرة. فبين «الديكاميرون» الّذي كُتب في القرن الرابع عشر و"يوميات سنة الطاعون" الّذي كُتب في القرن الثامن عشر و"الطاعون" و"الحب في زمن الكوليرا" اللذين كُتبا في القرن العشرين و"وباء وطاعون" الّذي كُتب في القرن الواحد والعشرين هناك قرونٌ تفصل بين صدورها، كما أنّ كُتابها ينتمون إلى بلدان وحضارات مُختلفة.
وثالث ملاحظة هي أنّ الأعمال التي ذكرناها سابقًا وغيرها يختلف فيها زمن السرد تمامًا، فنجد أعمالا تروي الحكاية في الزمن الماضي، وأخرى ترويها في الزمن الحاضر، في حين أنّ بعض الأعمال تتحدّث عن المستقبل مثل رواية «عيون الظلام» للروائي الأمريكي دين كونيتز الصادرة سنة 1981، والتي أحدثت ضجة كبيرة مُؤخرا باِعتبار أنّها تتحدث عن وباء اِسمه «ووهان– 400» ينتشر سنة 2020، بمعنى أنّ كلّ الأعمال الأدبية التي تتحدث عن الأوبئة تنتمي بالضرورة إلى تيار أدبي أو جنس أدبي فرعي لا علاقة له بالتيمة المذكورة كالوجودية والواقعية السحرية والخيال العلمي...
وهنا أتساءل عمَّا كتبه العرب في هذا الموضوع. وأوّل ما يقفز إلى ذهني هو كِتاب «الأيّام» لطه حسين الّذي نجد فيه صفحات رائعة تتحدث عن اِنتشار وباء الكوليرا في مصر، وكذلك كِتاب «إتحاف أهل الزمان» للمؤرخ التونسي أحمد اِبن أبي ضياف (1802-1874) الّذي كان شاهدا على اِنتشار الكوليرا في تونس سنة 1849 التي تسببت في وفاة آلاف الأشخاص، دون أن ننسى «المقدمة» الشهيرة لاِبن خلدون والتي قدّم فيها وصفًا دقيقًا لاِنتشار الطاعون في عصره وهو الّذي فقد والديه بسبب هذا الوباء الرهيب. كما يمكن أن نذكر رواية «الحرافيش» لنجيب محفوظ الصادرة سنة1971 والتي قدّم فيها وصفًا وافيًا لاِنتشار الوباء في حارات مصر وفتكه بأهلها غير مفرّق بين الفقراء والأغنياء.
من خلال الأمثلة السابقة نُلاحظ أنّ الكُتب العربية التي تناولت الأوبئة يغلب عليها الطابع التوثيقي والتأريخي، أمّا الأعمال الروائية فهي قليلة جدا على عكس ما نجده في الأدب الغربي. فهل أنّ ذلك من باب الصدفة أم أنّ هناك عزوفٌ لدى الروائيين والقصاصين العرب عن تناول هذه التيمة؟
ختامًا وما دمنا بصدد الحديث عن الأدب العربي، أجد أنّه من اللافت أنّ أحد أجمل وأروع ما كُتب في اللّغة العربية، وأقصد بذلك «كِتاب ألف ليلة وليلة»، لا نجد فيه أثرا للأوبئة التي لم يَسلم منها أي عصر أو منطقة جغرافية، وهو أمرٌ غريب لا أجد له تفسيرا. فهل معنى ذلك أنّ من ألّف هذا الكِتاب لم يُعاصر أي وباء؟ أم أنّه تجنّب موضوع الأوبئة عمدا؟
* محمّد معتصم/ناقد أدبي مغربي
الأدب العربي مثله مثل الآداب العالمية شغلت حيزه بعض الكوارث والأوبئة
ما من شك في أنّ الأدب العربي، كما هي الحال في الآداب العالمية، قد تعرض للحظات الضعف الإنساني وما تعرضت له البلاد من أوبئة وكوارث طبيعية: الزلازل والبراكين والفيضانات والمجاعات.. وكوارث بشرية كالحروب والهجرات الجماعية... لِمَا لذلك من تأثيرٍ كبير في تغيير أحوال الأمم والشعوب والأفراد، ولِمَا تخلفه تلك الحوادث من آثار نفسية واِجتماعية على الوعي والفكر.
ولعلّ أكثر الكوارث البشرية التي شغلت حيزًا كبيراً في الآداب العالمية المعاصرة «الحرب العالمية الأولى والثانية»، وما خلفتاه من آثار وتبعات على الشعوب المستعمِرة والمستعمرة، وفي عالمنا العربي، وفي الأدب المعاصر، نجد أيضا مساحة كبيرة لمثل هذه الاِختلالات الطبيعية والبشرية التي غيرت البيئة الديموغرافية والمجال الجغرافي، وكان لها تأثيرها الكبير على الوعي الاِجتماعي والفكري والسياسي كذلك القضية الفلسطينية والحرب اللبنانية وكذلك الاِجتياح العراقي للكويت والتدخل الأجنبي وبداية الاِنهيار للأنظمة وما ترتب عنها من تشريد وأوبئة وضحايا مواد كيميائية محظورة دوليًا وتشوهات خِلقية واِنتشار أنواع مختلفة من السرطانات والمجاعات والحبل على الجرار، تشريد السوريين في العالم وتفريقهم على الدول والقارات.
وقد ظهر في متون القصص والروايات العربية حالات الأعطاب الجسدية لشخصيات قصصية وروائية وأهم من قرأت لهم في هذا المجال الكاتبة القاصة والروائية العراقية هدية حسين التي وصفت في عدد من رواياتها الآثار الرهيبة للحرب على نفسية الأطفال العراقيين وقدرتها على إبراز حالات نفسية واضطرابات نفسية صاحبت شخصياتها وكأنّها وباء باطني غير مُعلن تفشى في شرائح واسعة من المواطنين، وقد كتبت فوزية شويش السالم رواية رائعة، بل ملحمة حول الاِجتياح العراقي لبلدها ووصفت الكارثة كما تجلت في مرآة المواطن في نفسيته ووعيه، وكتب اللبناني حليم بركات عن بعض هذه الحالات قي سيرته الذاتية «المدينة الملونة»، وقبله كتب حنا مينه في سيرته الروائية «بقايا صور» عن الهواء الأصفر، الكوليرا، والمجاعة، وقبلهما كَتب جبران خليل جبران عن الأمراض والأوبئة التي كانت تفتك بالشعوب العربية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومثله كتبَ محمّد شكري في سيرته الذاتية «الخبز الحافي» عن مثل تلك الأمراض والأوبئة وخاصة المجاعة التي اِجتاحت المغرب في منتصف القرن العشرين، عَقِب الحرب العالمية الثانية.
لقد تناول الأدب العربي خاصة السيرة الذاتية أو السيرة الروائية وأشكال مُختلفة ومتنوعة من كتابة الذات، والسرد الذاتي من منظورٍ مزدوج، أدبي وتاريخي مراحل سوداء مرت بها البلاد العربية، في ظل التخلف الّذي فرضه الاِستعمار وضُعف البنيات التحتية، واِنتشار الأميّة والجهل بين فئاتٍ واسعة من أفراد المجتمع، ومن أشهر الكُتب التي اِرتبطت بأوبئةٍ فتكت بأعداد هائلة بالبشر: «الطاعون» لألبير كامو، و»الحب في زمن الكوليرا» لغارسيا ماركيز، و»إيبولا 76» لأمير تاج السر. أمّا طه حسين في «الأيّام» فقد أورد عَدداً من الأمراض التي كانت تنتشر في الناس وأهمها، وباء الكوليرا الّذي حصد أرواحًا كثيرة. وهذا ما يعني أنّ الأدب العربي مثله مثل الآداب العالمية شغلت حيزه بعض الكوارث والأوبئة.