أظهرت الجائحة منذ بدايتها أنّ «الثقافة العلمية» أو «المعرفة العلمية» خاصة في السياق العربي، شحيحة وقليلة وناقصة جدا، بل تكاد تكون منعدمة، لدى عامة الناس، لهذا لا يمكن الحديث مثلا عن اِنتشار ثقافة علمية في المحيط العربي أو الجزائري، وأنّ من يحاول أن يكتسب بعض المعارف أو الثقافة العلمية يذهب مباشرة إلى محركات البحث المتاحة في النت، على غرار محرك البحث غوغل أو غيره من المواقع التي يمكن أن تُوفر بعض المعارف والمعلومات والمعطيات العلمية بكبسة زر، فهل يمكن القول أنّ جائحة كورونا ستجعل الإنسان العربي والجزائري أكثر إدراكًا لأهمية الثقافة العلمية في حياتنا ويومياتنا ومجتمعاتنا، وأنّه سيسعى بشكلٍ أو بآخر للتثقّف في مجالات العِلم والمعرفة، لأنّ الثقافة العلمية أضحت أكثر من ضرورة في عصرنا هذا المُعرَّض من وقتٍ إلى آخر لأوبئة أو كوارث وأزمات مختلفة. ومِن جهة أخرى ما الّذي يلزم لنشر أو لتطوير «الثقافة العلمية» وهل من الضروري إدراجها مستقبلاً كمادة في المناهج الدراسية؟
إستطلاع/ نــوّارة لحــرش
- سارة زروق/ باحثة في عِلم الاِجتماع -جامعة يلدرم بيازيد تركيا «أنقرة» : الجائحة ستكون أرضية خصبة لنشر وتطوير الثقافة العلمية
جائحة كورونا في العالم العربي ككلّ وفي الجزائر خاصة منذ بدايتها، تمخضت عنها تداعياتٌ كثيرة، من أبرزها إظهارها لغياب «المعرفة العلمية»، غياب شبه كلي يقترب من الاِنعدام، وذلك بالموازاة مع الاِنتقادات الكثيرة التي وُجهت للبحث العلمي في الوطن العربي ككلّ وحال بعض العلوم التي لم تأخذ حظها في الدراسات والبحوث لاسيما الدراسات الاِجتماعية وكذا الأنثربولوجية التي كان من المُمكن أن تُقدم حلولاً ولو جزئية قد تُساهم في مواجهة هذه الجائحة.
والمُلاحظ أنّ هناك غيابًا بارزاً للاِهتمام بنشر الثقافة العلمية وتعزيزها بين أفراد المجتمع الجزائري، فقد برز في الآونة الأخيرة موضوع نشر الوعي كمحور للخُطط التنموية التي يمكننا الاِنطلاق منها بعد جائحة كورونا، ومن المُمكن أن يكون موضوعًا للعديد من الندوات والأنشطة الثقافية، التي من شأنها أن تُساهم في جعل الفرد مُدركًا لأهمية الثقافة العلمية في حياته اليومية، وبهذا تخلق لدى الإنسان سلوكًا علميًا يتسم بالاِبتكار والإبداع، وهذا ما رأيناه لدى بعض خريجي الجامعات الجزائرية في ظل جائحة كورونا وهم يحاولون بإمكانيات بسيطة أن يبتكروا أجهزة ووسائل لمواجهتها، كما شهدت الفترة الأخيرة من تفشي فيروس كورونا حملات من بعض الطلبة لإنتاج «معقم اليدين» فلم يقفوا مكتوفي الأيدي باحثين عن المعقمات والمطهرات بلا جدوى بعد أن نفذت من الصيدليات والأسواق المحلية في مختلف ربوع الوطن بعد اِزدياد المخاوف من هذا الفيروس، ولم تكن فكرة إنتاجه وليدة اللحظة، بل هي فكرة قديمة أحياها هذا الظرف العصيب.
لهذا وجب القول أنّ جائحة كورونا وما بعدها سوف تكون أرضية خصبة لنشر أو تطوير المعرفة العلمية والسعي بشكلٍ أو بآخر إلى الاِهتمام بثقافتنا العلمية وتعزيزها كونها ضرورة عصرية لتطوير ذواتنا ومجتمعنا والاِلتحاق بركب الحضارة، فالواجب أن لا نبقى خارج النهضة العلمية التي يشهدها العالم الغربي اليوم، فمن المؤسف حقًا أنّه رغم مرور قرابة قرنٍ ونيف على قيام دولة مدنية في العالم العربي نجد أنّ هناك اِنعدامًا يكادُ يكون كليًّا للثقافة العلمية الخاصة بمجتمعاتنا، لهذا نأمل أن نُحدث ما يمكن من تُغيّر في أنظمة التنشئة الاِجتماعية بعد جائحة كورونا لمواجهة –عصر- سيكون أكثر تعقيدا وأكثر حيطةً، في ظل العولمة والتي يمكن أن تستغلها العديد من الدول الغربية لتقود العالم فيما يعرف «بسياسات الاِستفادة من الكوارث».
إنّ هذه الجائحة ستدفع الفرد الجزائري نحو إيديولوجيات وأفكار جديدة تتعلق بالإنسانية والتعاون بين أفراد هذا المجتمع، الّذي آن الأوان لكي يضع معالم جديدة تُمكِّنه من نشر «الثقافة العلمية» وذلك بتعزيز المرجعية العُليا وسياسة تنمية اِجتماعية شاملة، ذات رؤى بعيدة المدى اِنطلاقًا من قضايا أساسية لاقت تهميشًا كالمناخ ونقص الغذاء ومكافحة الفقر والكوارث الطبيعية...إلخ، وكأولوية أخرى ينبغي أن ينصرف تفكيرنا إليها لابدّ من توظيفٍ وتفعيلٍ للكوادر البشرية ذات الكفاءة العلمية والتمرّس الإعلامي، القادرة على طرح موضوعات الثقافة العلمية، وصياغة أفكارها وطرحها بطريقة فعّالة شريطة أن تكون في ظل مؤسسات فعّالة تحتوي وتتبنى هذه الأفكار التي ستُمهد لاِنتشار الثقافة العلمية التي تنسجمُ والتراث/أو الإرث الحضاري الخاص بالبلد ككلّ والّذي لا يتنافى أخلاقيًا مع معتقداتها.
يجب أن نُبادر بالتركيز على الثقافة العلمية بمختلف فروعها، على غرار التوعية الصحيّة والوعي البيئي والتوعية الغذائية... وتلقينها لأفراد المجتمع لاِرتباطها الوثيق بحياة المواطن اليوميّة وصحته وحتّى بمستقبله، لتكون وسيلةً لتحقيق التنمية وبلورةً للفكر وترسيخ حب الاطّلاع، ومعرفة كلّ ما يُحيط بجوانب الحياة لتصبح جزءًا لا يتجزأ من تكويننا الثقافيّ العربيّ.
وكشرطٍ آخر لتطوير «الثقافة العلميّة» لابدّ من القيام بحملات توعية في المجتمع تُساعد الأفراد على تعاطي هذه الثقافة والوقوف على أهميتها، ثمّ الاِستفادة القصوى منها وجعلها في متناول كلّ أفراد المجتمع باِختلاف مستوياتهم العلمية، ولتحقيق هذه النقطة يجب خلق برامج إعلامية وثائقية هادفة، وتكثيف القراءات ومعرفة تاريخ تطوّر العلوم، وهنا تظهر ضرورة الاِهتمام بنوادي العلوم والمتاحف القومية وجعلها مرجعيّة أساسيّة إضافةً إلى الدوريات المحكمة التي تسهم في إيجاز وتبسيط العلوم كمصدر آخر له أثرهُ المُهم في تغذية الثقافة العلمية.
في الأخير نؤكد على ضرورة نشر الثقافة العلمية لكي يتمكن الأفراد من الاِنخراط في الثورة العلمية التي يشهدها العالم اليوم ومن ثمّ اِمتلاك القدر الكافي من المعرفة والوعي بالأمور المجتمعية التي من شأنها أن تصنع شخصًا مثقفًا علميًا بإمكانه الخوض في مختلف القضايا واِتخاذ القرارات.
- هشام دراجي/أستاذ وباحث أكاديمي -جامعة المسيلة : الجائحة عرّت واقع الثقافة العلمية في المجتمعات العربية
هبَّت عواصف الجائحة على العالم العربي لتعري واقع المعرفة العلمية والثقافة الصحية المنعدمة داخل المجتمعات العربية، فلجأ الجميع في ذروة الوباء، إلى مواقع التواصل الاِجتماعي لمحاولة اِستدراك ما يمكن اِستدراكه في مواجهة هذا الخطر الداهم، وهنا برزت العديد من المنصّات والمواقع الاِلكترونية على غرار فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، لتُشكل في بداية الأزمة مصدراً مهمًا للمعلومات، وفضاءً مناسبًا لتبادل الأفكار بين عُلماء الأوبئة وخُبراء عِلم الوراثة، ومُختلف المختصين الذين حاولوا تقديم محتويات علمية قيمة، كشفت في حينها عن مدى الضُعف المعرفي الكبير الّذي تُعاني منه هذه المجتمعات، فقد وقف الأفراد بفضل هؤلاء المختصين على مدى جهلهم بأبسط بديهيات الثقافة الصحية؛ كالطريقة السليمة لغسل اليدين، وكيفية اِرتداء الكمامة، ومعرفة أنواعها المُختلفة، وتعقيم الأسطح، وتنظيف المنازل، وغيرها. لكن الحال للأسف لم يدم طويلاً حتّى تحولت كلّ تلك الفضاءات بحكم التدفق الكبير للمعلومات بين عامة الناس، ومشاركتهم في نقل المحتوى العلمي دون التحقق من مدى صحته إلى فضاءات غير موثوقة، وهو ما دفع كلّ أولئك العلماء والباحثين الذين تصدروا المشهد في بداية موجة الوباء إلى الاِنسحاب التدريجي منها نحو مواقع أخرى أكثر علمية على غرار بوابات البحث الإلكترونية المختلفة، والتي تعتبر فضاءات علمية أقل شعبوية من مواقع التواصل الاِجتماعي المعروفة.
إنّ نقد مخرجات مواقع التواصل الاِجتماعي في مجال المعرفة العلمية المرتبطة بالثقافة الصحية خلال أزمة الكوفيد19 تنبع من كمية الدجل المعرفي الّذي اِجتاح هذه المواقع في المجتمعات العربية، وتجلى بشكلٍ أساسيّ في بروز العديد من وصفات طب الأعشاب التي يدعي أصحابها نجاعتها، وطُرق الوقاية المستحدثة، بل وتعدى الأمر كلّ هذا إلى تقديم وصفات كيميائية خطيرة لصنع المعقمات، واستعمال مواد التنظيف عالية التركيز في تعقيم المنازل والشوارع والأماكن العامة، كلّ هذا ساهم في الحقيقة بشكلٍ كبير في زيادة حِدة الأزمة في بعض المناطق خاصة بعد تطبيق تلك الأفكار الاِفتراضية الخاطئة على أرض الواقع، وتجسيدها في صيغة مبادرات تطوعية تحت إشراف مختلف تنظيمات المجتمع المدني.
هذه الفوضى المعرفية تدعونا في النهاية، إلى إعادة التفكير في إيجاد حلول لمشكلات الثقافة الصحيّة والمعارف العلمية المرتبطة بها بعيدا عن شعبوية مواقع التواصل الاِجتماعي الجارفة، وهو ما لا يمكن تحقيقه حسب رأيي سوى من خلال مستويين رئيسيين: يرتبط الأوّل بجملة الحلول الآنية والسريعة التي تتعلق بتشجيع ودعم إنشاء جمعيات مختصة بالأطباء والصيادلة والمختصين، تكون مُهمتها الرئيسية تَصَّدُر المشهد الاِفتراضي والعمل على نشر التوعية على أُسسٍ علمية سليمة، وتثقيف أفراد المجتمع، من أجل قطع الطريق على الشعوذة المعرفية التي سيطرت خلال الأزمة الحالية على المشهد الاِفتراضي بعد شغور الساحة أمامها، وساهمت بشكلٍ مباشر في تنمية بعض الممارسات غير السليمة التي ساهمت في تعقيد الأزمة، بينما يرتبط المستوى الثاني بالحلول طويلة المدى على غرار إدراج الثقافة الصحيّة كمواد تعليمية في مختلف المناهج التربوية للأطوار الدراسية من الاِبتدائي إلى الثانوي، بالإضافة إلى تضمينها في المقررات الدراسية الجامعية، وهو ما يسمح بعد ذلك بتكوين جيلٍ جديد في المستقبل يحمل ثقافة صحية سليمة تُساعده على مواجهة مختلف الكوارث الصحيّة بطرق علمية.
- عبد اللطيف باري/أستاذ وباحث أكاديمي -جامعة بسكرة: صار من الواجب تحلي المجتمع بثقافة علمية
في الآونة الأخيرة ومع بروز مختلف الأزمات التي تتطلب وعيًا علميًا، صار من الواجب تحلي المجتمع بثقافة علمية تشمل التعامل مع هذه الأزمات، خاصة أنّ العالم يشهد تطوراً وتوسعًا في المعلومات عبر مختلف الوسائل، التي من بينها شبكة الانترنيت ومختلف التطبيقات التي أفرزتها مثل ووسائل التواصل الاِجتماعي.
الأكيد أنّ بناء ثقافة علمية للمجتمعات يخضع لمعايير قياسية أساسًا بدرجة وعي ومستوى الثقافة العامة السائدة التي تزرع من خلال المنظومة التكوينية في مؤسسات المجتمع مهما تعدّدت، فالمؤسسات الصحية وجب أن تلعب دورا في حال ما إن تعلق الأمر بطارئ صحي والمساهمة في بناء ثقافة صحية، برغم ما مثّلته مواقع التواصل الاِجتماعي ومحركات البحث كمصدر شامل لكيفية التعامل مع جائحة كوفيد19 وخطورة المعلومات الواردة وما يترتب عنها من إشكاليات صحية أخرى قد تتصل في العديد من الحالات إلى إتباع توصيات خاطئة من طرف غير المتخصصين.
ما يُحتم على المواطن الرجوع إلى المصادر أو الشبكات المتخصصة وبشكل عقلاني، فإنّ المؤسسات وبتعددها من صحيّة وتعليمية وكذا المجتمع المدني والطبقة المثقفة عليها أن تلعب دورا وفق اِستراتيجية يمكن أن تؤسسها الدولة دون أن تُقيدها موجهة للمواطن البسيط قصد تشكل ثقافة علمية مبنية على الحقائق الثابتة، وفي هذا الإطار وحسب ما هو معمولٌ به يمكن إنشاء بوابة حكومية اِلكترونية للتطرق إلى مختلف الأمور الصحيّة، خاصة التي من خلالها يمكن للمواطن طرح مختلف اِنشغالاته إضافةً إلى الشرح المُفصّل لكلّ أعراض ووسائل مكافحة الجائحة ويشرف عليها أطباء أو اِستشاريون معتمدون تلقوا تكوينًا في هذا الإطار. دون أن نغفل الدور الرئيس للمجتمع المدني الّذي يعتبر في المجتمعات المتقدمة أهم نصر يُحدث الفارق في مثل هذه الأزمات، حيث أنّ الجمعيات والمنظمات باِتصالها المُباشر بالجمهور تُشكل أداةً فعّالة للتوعية المجتمعية ومساعدته في تجاوز الأزمات، وما يحدث في الساحة الآن في الدور الفعلي لمنظمات المجتمع المدني خير دليل، ومن المنظور الآخر يُؤدي التعاون بين الدولة والمجتمع المدني إلى إضفاء الشفافية في التعامل مع الأزمات وتخفيف العبء على المصالح الحكومية ومن جهة أخرى إلى دورٍ أكبر لنشر الفعل التوعوي للثقافة العلميّة التي تستندُ على الفعل الحكومي والجمعوي بمختلف الوسائل المتاحة.
- نبيل دحماني/ كاتب وباحث أكاديمي -جامعة قسنطينة3 : منظوماتنا التعليمية تُعاني من قصور في تلقين الفرد ثقافة علمية عامة
تستفيد المجتمعات البشرية من خبراتها السابقة ومن مجموع المدركات والمعارف التي اِكتسبتها في مواجهة هذا التحدي أو ذاك، ومن ضمن المحطات التي عاشتها الإنسانية جمعاء هي فترات الأوبئة والأمراض، والتي جابهتها على الدوام بالكثير من التحدي والإصرار من أجل الاِستمرار والبقاء، غير أنّ السلاح الحقيقي في مواجهة هذه الجائحة أو تلك يكمن في المعرفة العلمية الصرفة التي تكتسب قوتها وجدواها من خلال التجريب والتحليل والتفسير، والتي تُصاغ في نظريات علمية مبنية على مجموعة من القواعد والأُسس الواجب إتباعها في دفع وإبعاد كلّ الأخطار والتهديدات.
عن هذه المعارف والمدركات حول الأوبئة لابدّ من الاِعتراف بأنّه لا يوجد مستوى واحد لهذه الرُؤى والتصورات؛ فهناك الثقافة الشعبية أي تلك المدركات المتوارثة والموجودة لدى جميع الناس دون الاِهتمام بالمستوى العلمي أو الثقافي، والمعرفة اللاهوتية أو الدينية وهي معرفية غيبية غالبًا ما تقرن الأحداث والظواهر بقوى خارقة كـ:الله سبحانه وتعالى في الديانات السماوية الثلاث، والمعارف الفلسفية التي يختص بها الفلاسفة دون غيرهم، في حين تظل أرقى أنواع المعارف على الإطلاق هي المعرفة العلمية التي يختص بها العلماء والخبراء والباحثين حسب ميادين حياة البشر، بِمَّا في ذلك علماء الأوبئة، علماء الأحياء، علماء الطب والصيدلة؛ هذه الفئة في عصرنا الحالي لا تحتكر المعارف داخل حيز أكاديمي مغلق لأنّها منفتحة على الإعلام والمجتمع والوسائط الرقمية المُتاحة، وعلى الأفراد، ويمكن الاِستفادة منها في أي وقت. وهي تمثل اليوم الخط الدفاعي الأوّل يستحقون منها كلّ الإشادة والتقدير لِمَا يقدمونه لمجتمعاتهم من تضحيات جسام.
إنّ ما تعرفه البشرية خلال العقدين الأخيرين، وبخاصة مع جائحة كوفيد19، التي تعد تهديدا حقيقيًا لحياة الأفراد وبشكلٍ غير مسبوق على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، حيث لا يزال العِلم بِمَا لديه من قدرة في مرحلة التساؤل والتحري والبحث، ولا تزال الكثير من خبايا هذا الوباء غامضة، ولا يتوفر الأفراد إلاّ على حدٍ أدنى من المعلومات عنه، غير أنّ ذلك لا يمنع من الاِتفاق على مجموعة من القواعد لضمان السلامة الفردية والجماعية والحيلولة دون الاِنتشار الواسع والخطير للوباء، وهو ما تسعى إليه الحكومات والمنظمات والعلماء لإيصاله للأفراد قصد الحد من اِنتشار الجائحة.
وقد كشفت الأيّام الماضية الكثير من الملاحظات حول مدى اِستجابة الأفراد لهذه الاِحتياطات، ويرجع ذلك لمستوى كلّ جماعة، أو كلّ فرد ومدى تمكنه من مجموع المعارف والمدركات العلمية والسلوكية ومدى اِقتناعه بجدواها، فقد تجلت محدودية التعاطي مع إجراءات الحجر لفئات معينة لدواعي اِجتماعية أو مهنية أو اِقتصادية وحتّى ثقافية، فيما سجلت فئات أخرى اِستجابة واسعة لهذه الإجراءات أو تلك، رغم أنّه لا يمكن الجزم بمحدودية الثقافة العامة العلمية لدى الفرد العربي عمومًا والجزائري خصوصًا، غير أنّ التأويلات غير المنطقية وغير المنضبطة والمستهترة أحيانًا، ميّزت تصرف فئات مهمة في المجتمع الجزائري على الخصوص بين من يرجع الوباء لمرجعية غيبية غير حسيّة وهي المرجعية التي لا تحظى بالقبول في عِلم التجريبي، وبين من يعتبر أنّ الوباء سيمس شريحة دون غيرها. هؤلاء تغيب عنهم القدرة على تلمس عناصر الخلفية المعرفية لخطر أي وباء مهما كان بسيطًا وقد يكون ذلك نتيجة مجموعة من الأسباب، خاصةً أنّ المجتمعات العربية والإسلامية عمومًا والجزائري تحديدا تُرجع الأمور في غالب الأحيان إلى خلفية لاهوتية غيبية في شكل سلوك سحري يتخطى الخطر الداهم، إلى فضاءات الخلاص الغيبي.
في نفس الوقت سرعان ما اِنغمست الفئات ذات مستويات تعليمية مقبولة أو عالية في محاولة تقصي كلّ ما يتعلق بنُظم الحماية مستعينةً بمحركات البحث على الإنترنت طالما أنّنا نعيش عصر المعلومات والتكنولوجيات الاِتصالية الرقمية وسيولة المعلومة وسرعتها، حيث تُوفر هذه الوسائط كمًا هائلاً من المعلومات، وأحيانًا تتضارب المعلومات والبيانات ذات الصلة بالحماية مع بعضها. وهو ما يدفع إلى التساؤل حول مدى جدوى اِكتساب المعارف السريعة من وسائط لا تخضع لأي نُظم رقابية أو تحكيمية مرموقة.
في حين اِنشغلت باقي فئات المجتمع الجزائري على تسويق خطاب الثقافة الشعبية وهو السائد والمعروف بالاِستخدامات التقليدية للأعشاب والتوابل وغيرها، كاِستخدام بعض الخضروات والتوابل للحد من الوباء والنصح بها، فانتشرت عبر مواقع التواصل الاِجتماعي مئات الوصفات والخلطات منها الطريفة والغريبة أحيانًا، نسيَ أصحابها أو تناسوا أنّ أوّل وسيلة للعلاج هي الوقاية، والوقاية تبدأ باِرتداء الكمامة وعدم الإكثار من التجمعات والتنقلات، وتفادي الأماكن العامة التي تعرف إقبالاً واسعًا للأفراد حيث تزداد اِحتمالات اِنتقال العدوى من فردٍ إلى آخر، وظلوا ينصحون بعضهم بتناول البصل والثوم والليمون لِمَا تتوّفر عليه هذه المواد من فوائد، والتطهير باِستخدام الكلور.
هذا الوضع ليس محصوراً لدى الجزائري فحسب، فرئيس الولايات المتحدة الأمريكية الحالي كان قد اِقترح على الأطباء حقن المصابين بالمطهرات! حتّى لا يُقال بأنّ مجتمعاتنا العربية وحدها من تُعاني قصورا في امتلاك أبسط المعلومات العلمية.
من وجهة نظر خاصة، أعتقد أنّ في منظوماتنا التعليمية العربية بِمَا فيها الجزائرية تُعاني من قصور واضح ومُزمن في عمليات تلقين الفرد منذ سنواته التعليمية الأولى ضرورة وأهمية اِكتساب ثقافة عامة علمية مبنية على أُسس علمية وموضوعية بعيدة كلّ البُعد عن الترهات والأقاويل التي لا تستند إلى أي حقيقة مثبتة علميًا ومخبريًا، هذا من جهة. ومن جهة ثانية يُعدُ عامل الفقر في ظل الجائحة أحد أهم الأسباب التي تدفع بالبعض إلى عدم اِحترام شروط السلامة والوقاية بالنسبة لفئات واسعة في المجتمع، وحين يجتمع الفقر والجهل على أمة ما، تزداد حدة المخاطر التي تحتاج لمن يدركها.
- زكرياء بوروني/أستاذ وأكاديمي -جامعة قسنطينة03 : الثقافة العلمية تقتضي إحداث تغيير عميق في ثقافة المجتمع
مَثَّلَ اِنتشار وباء كورونا مرحلةً فارقة من التاريخ للعالم ومعه الجزائر، ليس بالإمكان لمن عايشها أن ينساها بسهولة، كما قِيل أنّ ما بعد كورونا لن يكون أبداً كما قبلها، للآثار الحاصلة والمتوقعة على كافة المستويات وخاصة على اِقتصاديات الدول وتوازنات القِوى الدولية زيادةً على حصيلة الضحايا -تجاوزت في الولايات المتحدة مثلا في نهاية أفريل فقط عدد قتلاها في حرب فيتنام على مدار عقدين-، ولما واكبه من تدابير الحجر الصحي والعزل الاِجتماعي واِنقطاع الحياة العادية بتوقف النشاط الاِقتصادي وحركة التنقل داخل البلدان وبينها.
واكتسى «كوفيد19» طابع المفاجأة والغموض الّذي جعل الحكومات والشعوب في مواجهة وضع مأزوم باٍنعكاسات متفاوتة غير نهائية لحد الآن، وقد شكَّل تحديًا مُعقداً ومَحكًا صارمًا لآليات صنع القرار الحكومي من حيث القدرة على الاِستجابة وإدارة الأزمة، حتّى أنّه هزَّ قادة بعض الدول الكُبرى وأظهرهم بمظهر التردّد وسوء التقدير، واستنفرت معه ولمواجهته المنظومات الصحيّة وجُندت الأطقم الطبية وهي تعاني من شح المعرفة العلمية عن الوباء المستجد، وفوق ذلك تحدى بعضها كما في بلادنا ضعف إمكانياته، وظهرت بوضوح الحاجة الماسة للاِستعانة بذوي الاِختصاص العلمي الذين استنجد بهم أصحاب القرار للاِستشارة، وطلب الإعلام رأيهم وتحليلهم العلمي وتقديرهم للوضع الوبائي والعلاجات وتدابير الوقاية والتطورات المحتملة، وقد بدت هذه الجائحة مع ذلك وكأنّما أحاطت بها التكهنات أكثر من الحقائق في غياب تشخيص حاسم لتركيبة الفيروس ومعرفة دقيقة بمصدره وطُرق اِنتقال العدوى ناهيك عن وجود لقاح أو دواء شاف، وأطلقت الشائعات والتُهم وهيأ المرض عبر العالم بيئةً خصبة لظهور صيغ عديدة من نظريات المؤامرة.
وفي بلادنا بخاصة وكما لاحظنا في بلدان عربية أخرى ظهر أيضا أنّه طغى الاِرتجال اليائس على المحاولات العلمية الجادة لإيجاد وصفة أو مكونات طبية للوقاية أو العلاج، بل بلغ الأمر مبلغ الدجل والتخريف أحيانا، فكان وباء كورونا مرآةً أيضا للشعوب والمجتمعات من حيث الاِنضباط والتقيد بتدابير الوقاية وكذا من حيث إقبالها على الثقافة العلمية وتقديرها، حيث ظهرت جليًا القيمة النفيسة والأهمية الفائقة لهذه الأخيرة التي تفيد الفرد في تقوية مناعته ووقاية نفسه وأهله من مخاطر العدوى، وفي ظروف الحجر ومع اِختلاف الوعي ودرجات التخوف وتباين الدوافع ونوعية المعرفة المطلوبة التي يحكمها المستوى العلمي والثقافي للأشخاص، تزايد الطلب على الإنترنت والإقبال على المحتوى الإعلامي والمعرفي عبر شاشات الإعلام التقليدي والميديا الجديدة ومن أهم وسائلها مواقع التواصل الاِجتماعي، في وجود مواقع ومصادر تُقدم الأبحاث والمعطيات العلمية الأكثر دقةً وتخصصًا لا يصل إليها عامة النّاس، وإذا كان الأفراد معرضين إراديًا وبغير إرادتهم أيضا لتدفق هائل للمعلومات في عصر التشابك الرقمي فقد أصبحوا أكثر عرضةً لذلك في أجواء كورونا، وهو ما سمح للكثيرين بالوقوف على تضارب وضعف مصداقية ما يتلقونه من معلومات خاصة عبر بعض صفحات مواقع التواصل، لدرجة أنّ تركيبات كيميائية سامة وضارة قدمت كمعقمات منزلية مثلاً، ووصفات أخرى وقائية وعلاجية تمّ ترويجها من دون إرفاقها بالإثبات العلمي، فغالبية المعطيات ترد في هذه المواقع دون إشارة إلى مصادرها ومراجعها ودون التحقق من صحتها ودقتها.
وإن كانت الحقائق السابقة التي رافقت كورونا تُرجح أنّ مستوى الوعي بأهمية الثقافة العلمية في مجتمعنا لم يقف عند مكانه قبلاً، وقد كان لجهود وحملات التوعية فضلٌ في ذلك، ودليله أيضا أنّ بعض العقول المحلية جادت باِبتكارات علمية كجهاز الكشف السريع عن الإصابة كما استغل بعض آخر المعرفة المتاحة في تطوير وسائل للمساهمة في الوقاية، فإنّه يبقى بدرجة كبيرة بعيدا عن المستوى الّذي يجعلنا نتوقع إقبالاً واسعًا على القراءة والاِطلاع طلبًا لتحصيل هذه الثقافة في المستقبل، ومظاهر التشكيك وقِلة الوعي واللامبالاة بمخاطر الجائحة أدلة شاخصة للعيان، ومنه فزيادة الطلب على المعرفة والثقافة العلمية بحاجة إلى إحداث تغيير عميق في ثقافة المجتمع حيث تؤدي المدرسة ومناهجها دوراً محوريًا في تنشئة الفرد المتشبع بروح الاِطلاع والفضول للمعرفة والمُزوّد بملكة القراءة، ويفترض أن تؤدي المؤسسات الثقافية الأخرى للدولة وفواعل المجتمع المدني دورها في إحداث هذه النقلة النوعية للمجتمع التي من شأنها أن تنهض به من كافة النواحي، فمستوى ثقافة الفرد ينعكس على سلوكه الاِجتماعي وأدائه لأدواره ووظائفه وفي المستوى الكلي هو شرط الرقي والازدهار.
- عبد الرحمان بن عزوز/أستاذ وباحث أكاديمي -كلية العلوم السياسية، جامعة قسنطينة3 : لابدّ من تنشئة اِجتماعية علمية لاِكتساب المعرفة العلمية عبر المناهج التربوية
المعرفة العلمية هي كلّ ميدان معرفي يستخدم قواعد المنهج العلمي بطريقة منظمة وهو في تطوّر دائم ومستمر سواء تراكميًا أو جدليًا، لذلك فإنّ المجتمعات في نشاط دائم للحصول على آخر هذه التطورات، هذه المعرفة العلمية لا تُتاح إلاّ عبر الشخص العالم Scientist الّذي له طريقته الخاصة في الحصول على المعرفة وفق قواعد المنهج العلمي.
ففي عالم الغد مثلما يُحاجج البعض اليوم بتحوّل القوّة من صلبة إلى ناعمة أو من عسكرية إلى ثقافية واقتصادية، فمن المُسَّلم به بروز الحروب البيولوجية وما يُرافقها من اِكتشافات علمية ومعرفية، لذلك تُولي الدول الكبرى أهمية بالغة للفرد العالم، وقد لاحظنا ذلك في جائحة كورونا مؤخرا، ففي فرنسا قام الرئيس الفرنسي بتغيير سياساته العامة الصحيّة لمواجهة كورونا وفق ما أملاه العالم الفرنسي المختص في الوبائيات ديدييه راوول، وهنا تظهر أهمية المعرفة العلمية في مواجهة السلطة السياسية، ونفس الأمر عاشته و.م.أ مع مخابر البحث وشركات الأدوية العملاقة، وهذا يُظهر أنّ الدول المُتقدمة تُولي أهمية بالغة لعلمائها. فالشخص العالم لا ينشأ من فراغ، بل لابدّ من تنشئة اِجتماعية علمية لاِكتساب المعرفة العلمية عبر المناهج التربوية من أجل إنتاج الشخص العالم Scientist، هذه التنشئة ظلت شبه منعدمة لوقتٍ قريب في العالم العربي لكن مع التطورات التكنولوجية المُتسارعة فإنّ جيل اليوم -الجيل الصاعد- هو الأقرب للاِستفادة من هذه التنشئة، فمثلاً في الأجيال السابقة كان مُعقدا قليلاً مقارنةً مع الجيل الحالي الّذي هيأت له البيئة العالمية فرصة مُهمة للتعامل مع مُختلف التكنولوجيات المتطورة بسرعة، وعليه فنحن أمام فرصة مواتية للاِستثمار في الأجيال الصاعدة.
إنّ المعرفة العلمية تتشكل من جانبين حسي وعقلي، الأوّل يُمكن تفعيله لدى الناشئة ويكون عبر ملاحظة طبيعة عمل الظواهر العلمية وإدراكها، أمّا الثاني فهو عقلي يعتمد على التجريب عبر وجود وسائل مادية كالتكنولوجيات المعاصرة والمخابر العلمية ويمكن تطويره أكثر على مستوى الجامعات.
رغم هذا لا يجب التعامل مع هذه التكنولوجيات على أنّها السبيل الأوحد لاِكتساب المعرفة العلمية بل لابدّ من دعم هذا التوجه من قِبل ثلاثة عناصر أساسية هي الدولة، المجتمع والأسرة. فعلى مستوى الجهات الرسمية يتم ذلك عبر صياغة البرامج والسياسات العامة التعليمية إلى جانب تشجيع البحث العلمي وتوفير أدوات المعرفة العلميّة، كالتكنولوجيات الحديثة، وسائل الاِتصال، الانترنت، إلى جانب الوسائل المعرفية على مستوى مختلف من رياض الأطفال مرورا بالمدارس بمختلف أطوارها وصولاً للجامعات، من أجل ضمان الاِستمرارية وتحقيق نتائج مضمونة في النهاية.
وعلى مستوى المجتمع يتم بتحقيق ما يُعرف بمجتمع المعرفة عبر وجود مجموعة أشخاص من ذوي الاِهتمامات المتقاربة يحاولون تجميع معرفتهم سويًا بشأن المجالات التي يهتمون بها ويُساهم المجتمع المدني في إبراز أهمية العُلماء ودورهم الجبّار في المجتمع، فمجتمع المعرفة له دورٌ بارز جداً على المستويين المعنوي والمادي في تكريس المعرفة العلمية على المدى الطويل. أمّا الأسرة فلها دورٌ مهمٌ للغاية رفقة المدرسة في التنشئة العلمية للطفل، عبر توجيه الطفل للاِعتماد على المناهج الحديثة عوض التقليدية كاِستعمال الوسائل التكنولوجية الحديثة في اِكتساب العِلم وتسهيل العمل على ذلك، وجعله مُدركًا أنّ المستقبل مرتبط بحسن اِستعمال هذه الوسائل، وتحفيزه على تحقيق التوازن بين المعرفة العقلية والمعرفة الأخلاقية، وهذا كله من أجل تحقيق إدارة رشيدة للمعرفة العلمية.