أحمد دلباني
أستحضرُ، هنا، عبر هذا العنوان منحوتة الفنان الفرنسيِّ العظيم أوجست رودان التي استلهمها من عمل دانتي الشهير «الكوميديا الإلهية». لقد بدا لي ذلك شيئا مشروعا – ولو إلى حدٍّ ما – لوصف النظام السياسيِّ العربي المتماسك بفعل الأجهزة الأمنية والزنازين ومحتشدات الاعتقال، فضلا عن التعسف والقمع والتضييق على الحريات وتدجين المجتمع المدني والتحالف مع قوى الرجعية المُنتعشة في الداخل وأصحاب المصالح في الخارج. لقد اكتملت، بذلك، فصول المشهدِ التراجيديِّ الذي قد يدفعُ بنا أيضا إلى أن نهتفَ مع زبانية دانتي عند مدخل الجحيم: «أيها الداخلون، اطرحوا عنكم كل أمل!». نعم. لعل العربيَّ فقد الأمل نهائيا في الحرية بمفهومها الشامل بعد قرنين من الإفاقة على المناقشات الغنية والحركية التاريخية العظيمة التي شكلت وجه العالم الحديث إثر لقائنا الصِّدامي بالآخر المُستعمِر. ولكنني استدرك فأقول إنني أعتقد، شخصيا، أنَّ المشكلة في عمقها لا تتعلقُ بالإنسان العربيِّ الذي خاض نضالاتٍ محترمة بكل تأكيد، طيلة قرن ونصف قرن، في سبيل التحرر الفكري والسياسيِّ والاجتماعي محتضنا – ما أمكنه ذلك - برامجَ عمل وتطلعات وفرتها توجهاتٌ فكرية وإيديولوجية مختلفة. من هنا ضرورة البحث في مجمل العوائق الموضوعية التي تُبقي زمننا الثقافيَّ راكداً و نضالاتنا المشروعة كضربة سيف في الهواء. فما الذي حول الآمال العريضة إلى تسليم بالأمر الواقع؟ ما الذي كان في أساس الانتكاس والتراجع؟ ما الذي جعلنا نشعرُ باليُتم من أبوة التاريخ موقظا فينا نوستالجيا الأبدية و التوق إلى حُضن الأب الغائب؟ لماذا طوينا الشراعَ ولم نعُد نصادقُ البحار ونداءات الجُزر البعيدة واكتفينا بالاعتصام بحكمةِ الرِّواقيِّ القديم؟
لن يكون بإمكاننا، بالطبع، الإجابة عن أسئلةٍ مرعبة مماثلة ترتبط بمصير ثقافةٍ بأكملها وشعوبٍ تشعرُ، بنوع من حسِّ الفجيعة، بأنها تعيشُ سقوطا متواصلا لا ينتهي، وغيابا عن مأدبة العالم الذي تَصنعُ أقدارَه مغامراتُ المعرفة وإرادة القوة والهيمنة. ولكننا نجدُ أنفسَنا مرغمين على التساؤل حول غياب قيمة الحرية بكل أبعادها الوجودية والحقوقية والسياسية عندنا، وعن السياقات المعقدة التي خنقت جذوة التغيير في حياتنا. لعل هذه المشكلة الضخمة لا ترتبط، كما ألمحنا إلى ذلك، بالفرد العربيِّ وإنما بالأبنية الاجتماعية والتمثلات الثقافية السَّائدة والمؤسَّسات الراسخة؛ كما تجدُ لها سنداً أيضا في علاقات الاستتباع واستراتيجيات الهيمنة التي يُقيمها معنا نظامٌ دوليٌّ براغماتي لا يرى فينا إلا سوقا استهلاكية ومناطقَ نفوذ ومصادر طاقة.
***
تعرفُ قضية الحرية التباسا كبيراً في عالمنا العربي – الإسلامي نظريا وعمليا، فكريا وقانونيا. يرجعُ هذا الأمرُ، ربما، إلى تشابك القضية مع مُعطيات التاريخ والموروث الاجتماعي - الثقافي من جهة، ومع إشكالات الحداثة والعصرنة السياسية المرتبطة ببناء الدولة الوطنية الحديثة من جهة أخرى. لذا نعتقدُ، فعلا، أنَّ الحرية ليست قضية نظرية فحسب بقدر ما هي تصور يرتبط بأبنية الفكر والثقافة التاريخية المُتجذرة والرؤية الثقافية العامة التي تقومُ عليها شرعية السلوك والنظر. من هنا نفهمُ كيف أنَّ الحرية – بمفهومها الحديث الذي رسخته الحداثة الظافرة في الغرب منذ «عصر الأنوار» تحديدًا – ظلت تعاني من غربتها الثقافية والتاريخية عن مُجتمعاتنا التي لم تعرف نفس الحراك التاريخي الذي عرفتهُ الضفة الأخرى من البحر المُتوسط. هذا الأمر يبيِّنُ، بكل تأكيد، كيف أنَّ القيمَ لا ترتبط بسماء المعقولات وإنما بالسياقات التاريخية للتحول الاجتماعي وبالمطالب الناشئة ضمن ديناميكية إعادة ترتيب علاقات القوة في المُجتمع. وربما أمكننا أن ننتبهَ أيضا إلى أنَّ الحرية – في موروثنا الفكري الكلاسيكي - لم تكن مُفكراً فيها انطلاقا من مفهوم الإنسان باعتباره فردًا يملك حقوقا طبيعية لا تُنتهك، وإنما ظلت مُرتبطة دائما بنظام الفكر اللاهوتي الباحث عن علاقة الفعل البشريِّ بالخلق الإلهي. لم تكن الحرية مفهوما يرتبط بوجود الإنسان السوسيو- سياسي وإنما باللاهوت. لم تكن حقا وإنما حُجَّة على العدل الإلهي أو القدرة الإلهية كما نجدُ في الفكر الكلاميِّ الإسلامي منذ بواكيره في العصر الأموي. ومن المعروف، أيضا، أنَّ الفكرَ العربيَّ لم يتعرَّف على هذا المفهوم الحديث للحرية إلا بعد «صدمة الحداثة» كما يُعبَّر، وهذا بعد اللقاء الإشكالي بالآخر المُستعمِر الذي أنجز حداثته الأولى وثوراته المعرفية والسياسية الليبرالية. هكذا كانت النخب العربية منذ ما سُمِّي «عصر النهضة» مأخوذة بالمُنجَز الليبرالي الغربي، ورأت فيه النموذجَ الحضاريَّ الذي بإمكانه أن يُخرجَ الذات المُنهكة من عطالتها الحضارية. هنا نعثرُ على بوادر الفهم الأول للحرية باعتبارها حرية الفعل والتفكير والحق في الازدهار الشخصي والمُشاركة في الحياة العامة وإعمال العقل في مقابل التقاليد الرَّاسخة والمُؤسَّسات التي تمثلها.
يتَّضحُ، انطلاقا من ذلك، أنَّ للتفكير في الحرية عندنا - باعتبارها حقا سياسيا و كيانيا للإنسان - منشأ تاريخيا ارتبط بذلك اللقاء بالآخر الغربيِّ الحديث. من هنا طفقنا نُدينُ الاستبدادَ السياسي و نُبشِّرُ بضرورة عتق العقل من مرجعيات الماضي ومن تقاليد الفكر الموروثة، كما طفقنا نحلمُ بدساتير تُعرِّفُ الحقوقَ الإنسانية والواجبات وتجعل من السلطان السياسيِّ تعبيراً عن الإرادة العامة في العيش المُشترك والازدهار والمناعة. كان هذا في العهد الليبراليِّ الذي تعرَّف على فولتير وروسو ومونتسكيو ومبادئ الثورة الفرنسية. ولكنَّ تعقيدَ التاريخ أجهض هذه الأحلام أو قل ضيَّق من فرص نجاحها. فقد كانت تبدو يوتوبيا ارتبطت بتطلعات النخب التي درست في الخارج وأرادت فرض نموذجها الطليعي التقدمي على مُجتمعاتٍ ظلت، في بنياتها الأساسية، بطريركية - تقليدية تُمارسُ نوعا من المُمانعة أمام كل مُحاولات التغيير كما هو معروف. ولكن تجبُ الإشارة إلى أنَّ الليبرالية شكلت مهداً للحديث عن الدستور والحقوق المدنية الحديثة ومن بينها الحرية بمفهومها الشامل كما أسَّست لها النزعاتُ الفردانية المُنبثقة في الغرب الحديث منذ القرن السابع عشر. نجدُ هذا عند لطفي السيد وطه حسين تمثيلا لا حصرًا.
***
لا يُمكننا، بالتالي، تناول مسألة حضور الحرية في الدساتير العربية والغربية دون مُقاربة تاريخية تقرأ هذا الأمرَ ضمن سياق من التحولات والصِّراعات التاريخية التي انبثقت معها مشروعية هذه القيمة اجتماعيا وسياسيا وثقافيا. فنحنُ نعرفُ مثلا كيف أنَّ مسألة الحقوق في الغرب الحديث مرَّت بلحظتين كبيرتين: اللحظة الليبرالية التي تمحورت حول حقوق الفرد وتأسيس فكرة المُواطنة على أساس من العقد الاجتماعي؛ واللحظة الاشتراكية التي تمحورت حول حقوق الجماعات. ظل هذا الأمرُ تجسيدًا لصراع إيديولوجيٍّ طبع القرن العشرين وتجلى في دساتير الغرب وهو ينقسمُ على نفسه عقائديا انطلاقا من رافدين تاريخيين كبيرين: جون لوك وروسو وميراث «عصر الأنوار» من جهة، وكارل ماركس من جهة ثانية. ونلاحظ في عالمنا العربيِّ أنه بعد أن عرفنا الدستورَ الليبرالي الذي ركز على الحقوق ومن بينها الحرية كان لنا أن ندخل مُغامرة إيديولوجيا «الثورة العربية» بتلويناتها القومية والاشتراكية التي ولدت بعد مخاض الصِّراع مع الغرب الأمبريالي و بنيات الرجعية العربية الآفلة. هكذا احتل الاهتمامُ بالعدالة والمساواة والتنمية والبناء القومي كل الفضاء المُخصص للحقوق على حساب الحرية الفردية بكل تجلياتها. وهكذا شهدنا، أيضا، نمذجة الفكر وقمع الحرية الفكرية وإدانة الاختلاف والتضييق على التعددية السياسية. كان هذا استبداداً معاصراً يختفي وراء غنائية العدالة والمساواة وهو ما جسَّدتهُ الأنظمة العربية في أشكالها القومية والبعثية تحديداً. ولكنَّنا نعلمُ، بكل أسفٍ، ما آلت إليه تجاربُنا تلك من فشل وانتكاس على المستويات السياسية والعسكرية والإنسانية والحقوقية معا. لم تكن نوايا النخب السياسية العربية كافية لانتشال حياتنا من التخلف والتبعية دون ثمن باهظ في غالب الأحيان. لقد نجحنا، بمعنى ما، في إنتاج طبعةٍ عربية فقيرة من الشمولية التي ظلت – تحت سماوات أخر – تنتظرُ «الصباحات التي تغني» أو تلك التي أصابها الخرس. وربما لم يكن كارل بوبر مخطئا في نقده للتاريخانية والمجتمع الشمولي ودفاعه عن «المجتمع المفتوح» عندما كتب: «إنَّ أفضل النوايا لإقامة الجنَّةِ على الأرض إنما تنجحُ فقط في جعلها جحيما – ذلك الجحيم الذي يجهِّزه الإنسانُ فقط لأخيه الإنسان.»
لقد ظلت الحرية بهذا المعنى – منذ نصف قرن على الأقل - ذات حضور مُحتشم في الحياة السياسية العربية وفي الدساتير التي قامت على الأحادية الحزبية، وركزت على مبدأ السيادة والاستقلال وعدم الركون إلى إيديولوجيات الغرب الفرداني - الليبرالي المُعادي لحرية الشعوب واستقلالها التاريخي من التبعية الموروثة عن الأزمنة الكولونيالية. ظل الفردُ العربيُّ غائبا عن تشكيل ملامح مصيره لغياب المُجتمع المدني الذي لم نكتشف ضرورته العظيمة إلا بعد انهيار المنظومة الإيديولوجية الاشتراكية أواخر القرن العشرين، ما عجل بالمطالبة بدساتير مدنيةٍ حديثة تعترفُ بالتعددية السياسية والفكرية وبحق المشاركة السياسية للمواطن العربيِّ في الشأن العام على غرار ما شهدنا في الجزائر بعد انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) 1988. كذلك يجبُ ألا ننسى أنَّ بعض الدول العربية لا تملكُ، إلى اليوم، دساتيرَ تضمنُ المواطنة وتحدِّدُ حقوقَ الفرد العربي وواجباته، وإنما تعتمدُ على سلطة التقاليد الموروثة وحكم العائلة وفضائل الوفرة المالية البترولية في اجتراح آفاق تنمية تخلو، بطبيعة الحال، من بُعدها الإنسانيِّ العميق.
مما لا شك فيه أنَّ الغربَ ظل المُلهمَ الوحيد للفكر السياسيِّ الحديث منذ ثوراته السياسية الكبيرة في القرنين السابع عشر و الثامن عشر في أنكلترا وفرنسا تحديدًا. لقد تحدَّدت، تبعا لذلك، فلسفة الحكم باعتباره أمراً يقوم على الإرادة العامة والتعاقد الاجتماعيِّ، وعلى فلسفةٍ لحقوق الإنسان الطبيعية التي يجبُ صونها وعدمُ انتهاكها. هذا هو الجذرُ التاريخيُّ والفلسفي لدساتير الغرب الذي قطع مع اللاهوت السياسيِّ وهيمنة الكنيسة والصّراع الطائفي ودشن عهد العلمنة السياسية والحقوق المُتساوية والمُواطنة الكاملة لجميع أفراد الشعب. لقد استقلت السياسة عن البُعد العقدي وترسَّخت الحرية باعتبارها جوهرَ الكائن الإنساني، وهو ما أخذ أبعادًا أخرى فيما بعد، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا أيضا، مع حركات الاحتجاج الكبيرة التي مثلها الجناحُ الاشتراكي لتطور الحقوق في مجابهة انحرافات الليبرالية التاريخية. ولكنَّ الأمرَ الذي لاحظناه في عالمنا العربيّ - منذ قرنين تقريبا – هو تلك المُمانعة السوسيو - ثقافية لمُحاولات التغيير والانتقال إلى الحداثة الحقوقية والاجتماعية والسياسية. لقد ظل تاريخنا الباطني المرتكز على بنية المُجتمع العربي البطريركية - الذكورية في جوهرها سداً منيعا أمام التجديد الاجتماعي والسياسي، وظل التغيير يُراوحُ مكانه داخل دائرة الفعل الثقافي والإبداعيِّ النخبوي دون أن يتجذر، هو الآخر، في بنية الوعي الثقافيِّ العام. من هنا سيادة الاستبداد في الحياة العربية، وهو استبدادٌ لا يرجعُ في عمقه، على ما نرى، إلى أهواء المُستبد العربيِّ فحسب وإنما، أيضا، إلى أسس الثقافة السائدة اجتماعيا في ارتباطها ببنياتٍ سوسيولوجية قائمة على الإخضاع وبنية العلاقات الهرمية التي تعيقُ انبثاقَ الفرد. ونحنُ نعلمُ أنَّ ثورات «الربيع العربي» التي أزاحت المُستبدَّ العربي لم تستطع أن تدشن عهدًا جديدًا كليا في مسائل الحقوق والحريات وقضايا وضع المرأة والدولة المدنية. فقد خرج ماردُ الأصولية من قمقمه مُجدَّدا وأصبح يُهدد – كعادته – كل مسعى إلى الديمقراطية الفعلية التي قام من أجلها التمردُ الشبابي. ونحنُ نرى – انطلاقا من ذلك – أنَّ الدِّينَ السياسيَّ عندنا مظهرٌ من مظاهر شهوة الهيمنة على مقادير المُجتمع وقد لبس عباءة المُقدَّس في مُواجهة خطر التغيير الذي تنشدُه الفئاتُ الأكثر تقدما في المُجتمع العربي وبخاصة الشباب. ولعله من الفاجع، بعد كل ذلك، أن نتساءل مع أدونيس الذي تأمل في الانتفاضات العربية وكوابحها عندما كتب غاضبا: «ما تكونُ ثورةٌ لا تقدرُ أن تُنتجَ إلا ما تنبغي الثورة عليه؟».