منذ بداية جائحة كورونا، والمواطن العربي ومعه المواطن الجزائري، يتعامل بكثير من الاِستخفاف مع الوباء ومخاطره، ما يعني أنّ المجتمعات العربية والجزائرية (مُمثلةً في شعوبها)، كان تعاملها مع الوباء يفتقدُ للوعي وثقافة الاِلتزام، وكذا الثقافة السلوكية/والثقافة الصحية والوقائية. تعاملٌ تشوبهُ الكثير من تصرفات وسلوكات اللامبالاة، وعدم الاِكتراث بحجم الكارثة الوبائية في كثير من الأوقات.
فلماذا يا ترى، المواطن العربي ومثله المواطن الجزائري، يتعامل مع الأزمة الوبائية بكثير من اللامبالاة وبكثير من السطحية، دون اِكتراثٍ ودون تقديراتٍ موضوعية لحجم الكارثة. هل هذا المواطن، يعيش خارج بوصلة الذات الواعية، أم أنّه يدرك مخاطر الأمر لكنّه لا يبالي ولا يكترث... فما هي النظرة أو القراءة والمقاربات السيكولوجية لهكذا مواطن، وهكذا سلوك؟ يحتاج الوضع، إلى قراءات ومقاربات ودراسات جديّة، للحفر أكثر في سيكولوجية المواطن والمجتمع، خاصة مع بروز/وتفشي ظاهرة اللامبالاة السلوكية في غمرة الأزمة الوبائية. فهل حقا ثقافتنا السلوكية، وثقافتنا الوقائية على المحك.
حول هذا الشأن «سيكولوجية المواطن والمجتمع في زمن الوباء»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين المختصين في عِلم النفس.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
- خالد عبد السلام/أستاذ محاضر بقسم عِلم النَّفس -جامعة سطيف2 : السلوكُُ الحضاري يُُُنمََّى ويُكتسب عبر مؤسسات التنشئة الاِجتماعية أوّلاً
الوعي الصحي والسلوك الحضاري لدى المواطنين يُنمى ويُكتسب عبر مؤسسات التنشئة الاِجتماعية منذ السنوات الأولى من حياتهم الطفولية حتّى سن الشيخوخة تماشيًا مع تطورات الحياة ومستجداتها. ويتحقّق بالعمل المُستمر في الزمان والمكان. فتعامل المواطن في مجتمعاتنا، لاسيما المواطن الجزائري باللامبالاة تجاه جائحة فيروس كورونا ليس أمراً غريبًا، لِعدة اِعتبارات وعوامل ذاتية أو نفسية وعوامل ثقافية، اِجتماعية، سياسية واِقتصادية.
فلم يسبق للبشرية ولشعوبنا العربية أن عاشت مثل هذا الظرف الوبائي الاِستثنائي بهذا الشكل، خاصةً الحجر المنزلي لمدة تجاوزت أربعة أشهر، والّذي جعل سُكان المُدن والعمارات والأحياء الشعبية المغلقة تُسيطر عليهم الضغوط النفسيّة، مشاعر الملل والروتين، المخاوف والقلق، إلى جانب الإجراءات الوقائية التي يستلزمها كالتباعد الاِجتماعي، اِستعمال المُعقمات والكمَّامات بشكلٍ دوريّ ويوميّ. عِلمًا أنّ شعوبنا العربية بصفةٍ عامة لم تتهيّأ ولم تتدرب حول كيفية مواجهة مثل هذه الأزمات الوبائية. فهي عاشت العديد من الكوارث الطبيعية كالفيضانات والزلازل، وبعض الأمراض المُعدية، لكنّها لم تفرض عليها تغييراً في عاداتها وسلوكياتها ونمط معيشتها كما فرضها فيروس كورونا اليوم.
ولم يسبق للمواطنين الجزائريين وغيرهم المكوث داخل بيوتهم لعدة أشهر مُتتالية، مع غياب أي بدائل كالنشاطات التي يمكن لها اِمتصاص الروتين، والضغوط النفسية التي أفرزها الحجر المنزلي، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، لا يمكن اِنتظار ظهور الوعي الصحي والسلوك الحضاري لدى شعوبنا بطريقة مُفاجئة أو عبر حملات تحسيسية ظرفية وطارئة، لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه، فالمواطن في مجتمعاتنا كثيراً ما يفكر بمنطق أنّه مادام لم يُصب بالفيروس، لم يصب أي أحد من أقاربه ومعارفه، فهو لا يعترف بوجوده، بل يعتقد وكأنّه ليس معنيًا به. وفي نفس الوقت نجد شعوبنا ضحية أساليب المعاملة التي تصدر عن بعض المسؤولين في مختلف الإدارات والمؤسسات تجاههم، حيث يُعاملون كقُصر غير ناضجين، غير مسؤولين، غير متحضرين ولا يعرفون الاِختيار وغير مؤهلين للحرية والديمقراطية والمشاركة في اِتخاذ القرارات.
ومادام الأمر كذلك فمن الصعب مطالبتهم أن يتحولوا إلى واعين ومسؤولين ومتحضرين أوقات الأزمات والأوبئة؟ وهنا أستحضر تلك الصور النمطية للمواطنين التي تُسوقها المؤسسات الثقافية والإعلامية من خلال الأعمال الأدبية، الفنية، المسرح، السكاتشات، الدراما والأفلام، أين نجد تكريس صورة الإنسان الهمجي، العنيف، المُتخلف والمتهور أو اللامسؤول. فالمعروف في عِلم نفس الصحة أنّ منطق جلد الذات يُضعف تقدير الذات، ويُحطم الثقة بالنفس ويُعزّز ثقافة الاِنهزامية والاِستسلام للصعوبات والمشكلات. وهذه كلها تنمي تمثلات ذهنية سلبية للمواطنين تجاه أنفسهم وتجاه مؤسساتهم، مِمَا يُضعف مشاعر الاِنتماء والوعي والسلوك. لذلك لا نستغرب ردود الأفعال السلبية التي تتمظهر في الاِنزعاج واللامبالاة، بدليل عندما نحاول إقناع أي مواطن بضرورة الاِنضباط والاِلتزام بقواعد النظافة في الحي مثلاً أو اِلتزام قواعد الوقاية من العدوى بفيروس كورونا واِحترام إجراءات الحجر المنزلي بشكلٍ جديّ، يأتي الرد غالبًا: «نحن جزائريِّين ولسنا أمريكان أو ألمان أو مجتمعات متحضرة حتّى نُطبق هذه الإجراءات حرفيًا». فهذه النظرة السلبية والاِنهزامية، والمقاومة لكلّ سلوك واعي ومُتحضر إنّما تُعبِّر عن الاِنكسار الداخلي للأجهزة النفسيّة للمواطنين ولذواتهم المهترئة، فمن الصعب ترميمها في الأمد القريب.
وعليه نستخلص أنّه بقدر ما يُحترم ويُقدر عقل وكرامة المواطن مع مرافقته وتدريبه وتحسيسه بشكلٍ دوريّ، مع طمأنته اِجتماعيًا، اِقتصاديًا، سياسيًا وأمنيًا بقدر ما يشعر بالإشباع للكثير من حاجاته النفسيّة خاصةً الحاجة إلى الاِنتماء للأسرة، والمجتمع والوطن، والحاجة إلى التقدير الإيجابي للذات والحاجة إلى المحبة والمكانة... وغيرها، وبقدر ما يتفاعل ويتجاوب مع كلّ القرارات والخيارات خاصةً عندما يشعر بقيمته كعنصر فاعل ومُساهم في بلورتها بطريقة مباشرة وغير مباشرة، فسوف ينخرط بجدية في كلّ ما يخدم الوطن.
لا ننسى أيضا تأثير العامل الاِقتصادي على سلوكيات الكثير من المواطنين المنحدرين من العائلات المتضررة من إجراءات الحجر المنزلي. حيث من الصعب إقناع مواطنين وجدوا أنفسهم في بطالة تامة ولا يجدون رغيف يومهم بضرورة شراء الكمَّامات والمعقمات للوقاية من العدوى بالفيروس. الوضع إذن له أبعادٌ متعدّدة لا يمكن تجاهلها إذا أردنا تشخيصًا علميًا وموضوعيًا وسيكولوجيا لأزماتنا، يُمكِّنُنا من تقديم بعض الحلول الفعليّة الواقعية والمُناسبة جدا. إنّنا بشكلٍ ما في حاجة إلى إعادة النظر في الكثير من الخيارات والاِستراتيجيات التي تُتبع في معالجة أزماتنا ومشكلاتنا، على أن تكون مقاربات وعلاجات تقارب وتعالج المشكلات والأزمات حقا ودون تأجيلٍ طويل، فبقدر ما تُؤجلها تتحوّل بمرور الزمن إلى أورام يصعب مداواتها.
- لزهر خلوة/ أستاذ محاضر ورئيس قسم عِلم النَّفس وعلوم التربية والأرطوفونيا -جامعة سطيف2: عدم الاكتراث يُعبر عن سلوكات غير صحية وضُعف في الإدراك
تشهد الجزائر خلال الأسابيع الأخيرة اِرتفاعًا كبيراً لحالات الإصابة بفيروس كورونا، بحيث تجاوزت الأعداد خمسمائة إصابة يومية، فرغم خارطة الطريق التي باشرتها الدولة ومؤسساتها منذ بداية هذا الوباء، إلاّ أنّ الأرقام لا تزال في تصاعد مستمر... اِرتفاعٌ يُفسره غياب الثقافة الوقائية لدى عديد شرائح المجتمع، وتعاملهم بنوعٍ من الاِستخفاف وسلوكات غير مسؤولة.
فهناك مثلاً، فئة من المجتمع لا تزال تتحدث عن كذبة وباء كورونا، وتعتبر أمر الوباء كذبة أو مزحة، وأنّه لا وجود لحقيقة اِسمها «وباء كورونا»، وفئة تتعمد اِختراق الإجراءات الوقائية التي تُقرها السلطات بسلوكات التهور وضُعف الاِلتزام بالحجر المنزلي. وفئة أخرى تقدم نموذج المواطن الصالح الّذي يحترم توصيات الهيئات الصحية والأمنية.
وطبعًا الفئة الأولى أخطر، كونها تُروِّج لنموذج عدواني وسلوكات مرضية تستخف بآثار الوباء على الأفراد والجماعات. أمّا الفئة الثانية بسلوكاتها اللاوقائية فتزيد من حجم المعاناة لأنّها مسؤولة على نقل العدوى بحكم ضعف الاِلتزام بالتعليمات الوقائية للحد من اِنتشار الوباء في الأوساط الاِجتماعية المختلفة. لتُؤكد الفئة الثالثة عن النموذج الإيجابي الّذي ينبغي أن يُحتذى به في سبيل ترقية الثقافة الوبائية لباقي فئات المجتمع.
إنّ حجم معاناة المصابين ومختلف طواقم الصحة التي تبذل جهودا جبّارة ونبيلة لإسعاف وعلاج المصابين ينبغي أن يُقابله المواطن بحرصه على المصلحة العامة من خلال التقيّد بتعليمات المجالس الطبية العلمية، وكذا بالاِلتزام بضوابط الحجر المنزلي وتقليل الخروج إلاّ لضرورات الحاجة القاهرة.
إنّ عدم الاِكتراث الّذي تُظهره بعض الفئات يُعبر عن سلوكات غير صحية تُعبر عن ضُعف إدراكها لمخاطر وآثار الجائحة، ولعلّ هذه اللامبالاة يُفسرها ضُعف الصحة النفسيّة للأفراد والعادات السلبية، بالإضافة إلى نقص الوعي الصحي والبيئي. فالنمط السلوكي لهؤلاء الأفراد اللا مبالين يقع في خانة السلوكات العدوانية نحو الذات ونحو الآخرين، فكيف سيفكر هؤلاء إذا أُصيبَ أحد أفراد عائلتهم، طبعًا ستتغير مفاهيمهم وتصرفاتهم نحو الأفضل.
أليست «الوقاية خير من ألف علاج»، فلماذا تتأثر تصرفاتنا تبعًا لمنطق (هات تخطي داري) اِعتقاداً من هؤلاء أنّهم غير معنيين. بلى، فالكل معنيٌ بالوقاية والإحساس بالآخرين، وأنّ الاِنتماء للمجتمع لديه ضريبة الاِلتزام بالضوابط العامة، حفاظًا على سلامة الأفراد والجماعات. لهذا يجب على كلّ فئات المجتمع في مثل هذه اللحظات أو هذه الظروف العسيرة أن تكون أكثر نضجًا وأكثر وعيًا وإدراكًا لمخاطر الوباء، وأن تُقدم نموذجًا إيجابيًا في سلوكاتها وتصرفاتها الوقائية.
- مخلوف ناجح/ باحث اِجتماعي وأستاذ محاضر -جامعة المسيلة : طُرق التعامل مع الوباء تباينت بشكلٍ كارثي على مستوى الوعي والسلوك
المُؤكد أنّ البشرية عبر تاريخ وجودها عرفت العديدَ من الكوارث والمخاطر الناتجة عن طريق اِنتشار الأمراض والأوبئة أو عن طريق الحروب أو الكوارث الطبيعية والتي أودت بحياة الملايين من البشر، فقط الفرق المُميز بينها وبين فيروسCovid19 أنّها كانت محدودة الاِستهداف عكس فيروس كورونا الّذي اِستهدف البشرية كافة، مُتجاوزا كلّ الحدود الجغرافية، والعقدية، والإيديولوجية على المستوى المحلى والوطني والعالمي، كما أنّه أوّل وباء يكون الإنسان هو الحلقة الأولى في خط الدفاع والوقاية قبل اِكتشاف اللقاح المناسب عن طريق جملة من الإجراءات الاِحترازية والوقائية التي وصفها أهل الاِختصاص، من بينها الحجر المنزلي والتباعد الجسدي واِرتداء الكمامة واستعمال المُعقمات ومسافة الأمان، وهي ترتبطُ بسلوك الإنسان مباشرةً. وهنا نكون لأوّل مرّة أمام أزمة وباء اِجتماعية-صحية، وهذا لاِرتباطها بالسلام الإنساني أوّلاً، كما أظهر الوباء أنّ دول العالم كلّها كانت غير مهيّأة للتعامل مع هكذا أوبئة نظراً لغياب مراكز بحثية مُتخصصة في مواجهة الحروب الوبائية نظراً لتوجهاتها الليبرالية المتوحشة الاِهتمام التكنولوجي والصناعي وإهمال المورد البشري والبيئي.
وبعد اِتخاذ الدولة الجزائرية إجراءات الغلق لكلّ من المدارس والجامعات ودور الحضانة وكلّ أشكال التجمعات في بداية اِنتشار الوباء اِنحصر سلوك أغلب المواطنين في الهلع والمبالغة في شراء المواد الاِستهلاكية بكميات كبيرة، خوفًا من اِختفائها من الأسواق، وهذا تبعًا لاِنفعالاتهم ومشاعرهم، بعيداً عن المنطق وإعمال العقل؛ أمّا طُرق التعامل مع وباء كورونا فقد تباينت بشكلٍ كارثي على مستوى الوعي والسلوك بين فئات المجتمع، فبعض الفئات سجلت ردات فعل غير واعية ومرات غيبية، ويمكن تقسيمها إلى الفئة الأولى: لم تلتزم بالحجر الصحي المنزلي، وهي فئة تخضع لإكراهات اِقتصادية واِجتماعية نظراً لظروفها المعيشية وطبيعة السكن، وهي فئة أغلب زمن تواجدها خارج البيت حتّى في الظروف الطبيعية، ومنها الفئات التي تمتطي قوارب الموت للضفة الأخرى حيث تمثلاتها للموت يتساوى مع كورونا.
الفئة الثانية: هي فئة لم تُؤمن بالمرض رغم ما تُشاهده يوميًا عبر وسائل الإعلام، وهي فئة لها هشّاشة في الوعي نظراً لاِرتباطها بكلّ ما يُسوّق ويُنشر على وسائط الاِتصال والميديا، خاصة الفايس بوك وارتباطها بالشائعات التي يُطلقها البعض مُستغلين الظرف السياسي الّذي يمر به البلد؛ وهي بيئة خصبّة لصعود نظرية المؤامرة، بل حتّى بين الدول وهو ما شاهدناه من اِتهامات متبادلة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية.
الفئة الثالثة: كرّست التفسيرات الغيبية للمرض على أنّه عقابٌ إلهي للعاصيين، وغياب إعمال العقل. بصفة عامة، أصبح المجتمع يعيش قلقًا متواصلاً، يمكن أن نصفه بـــ»القلق المجتمعي العام»، حيث يُواجه الفرد عبئًا ثقيلاً، مرتبطًا بحالة من المجهول؛ لأنّ الإصابة بفيروس كورونا لا ترتبط بالمصابين فقط، بل تشمل أفراد المجتمع كافة، وعلى درجات مختلفة إلى حدٍ ما، فهي مرتبطة بسرعة اِنتشار المرض، وبعدم توقع زمن العلاج منه، وكلما طالت مدة تفشي فيروس كورونا، زاد الضغط على الفرد، حيث حداثة الفيروس ذاته لا تسمح بتوفر المعلومات الكافية، التي من شأنها بث الطمأنينة، بل إنّ المعلومات المتوفرة عنه تُعزّز المخاوف أكثر بين الأفراد. وقد يرتبطُ بذلك عامل ثقة الأفراد بمؤسسات الدولة المختصة، فكلما كان لدى الأفراد درجة ثقة عالية بمؤسسات الدولة وخدماتها؛ كانت هناك قدرة على الاِحتواء، وتقليل حدة القلق العام وتحجيمه، قبل التحوّل إلى سلوكيات غير منطقية بدافع الصدمة والخوف. وللأسف هذا ما تفتقده شعوب دول العالم الثالث.
- شرفاوي الحاج عبو/ أستاذ عِلم النَّفس - جامعة طاهري، بشار: عدمُ التفاعل الإِيجابي مع الوباء كشفَ حالة الاِنحدار المُتواصل للوعي الجماهيري
منذ بداية الأزمة الوبائية، والمواطن العربي ومعه المواطن الجزائري، يتعامل بكثير من التهويل أو بكثير من التهوين، ولكن بقليل من حسن التصرف.. كيف نُفسر ذلك سيكولوجيا؟ إنّ الإدراك الحسي بالخطر، نادراً ما يكون عقلانيًا، وبدلاً من ذلك فإنّ الناس يقيمون الأخطار بتوظيف خليط من المهارات الإدراكية (تقييم الأدلة، الاِعتماد على التفكير والمنطق للتوصل إلى الاِستنتاجات)، وتقييم المشاعر (الحدس أو التصورات).
إنّ طريقة التعامل مع الوباء وإدراك مخاطره تُحدِّدُه مجموعة من العوامل: فالناس لا يأبهون كثيرا بالمخاطر التي يُعرضون أنّفسهم لها، مقارنةً بالمخاطر التي قد يتعرضون إليها، من قِبل الآخرين. فعندما يثق الناس بالذين يُقدمون المعلومات لهم حول خطرٍ مُعين، أو عن عمليةٍ جارية لتقييم الخطر، فإنّ مخاوفهم تقل مقارنةً بالمخاوف التي تتوّلد لديهم عند توفر أجواء عدم الثقة.
ومن جهة، الإدراك الحسي لإمكانية التحكم في النتائج يلعب دوره أيضًا، إذ إنّه يُساعد على تفسير سبب عدم الخوف.
كما أنّ التغطية تزيدُ من الوعي بمخاطر معينة أكثر من غيرها، وعلى نفس المنوال فإنّ الحوادث التي تكون قريبة من الشخص، تزيدُ من الإدراك الحسي للخطر. فعندما تكون المخاطر غير مرئية أو يصعب فهمها، تَلتبسُ الأمور على النّاس حول طبيعة الخطر، وتصبح الحوادث مخيفة أكثر. فبشكلٍ عام الحوادث تُثير مخاوف أكبر عندما لا يتحدث المسؤولون عمّا يعرفونه، أو عندما يكون الخطر مجهولاً.
إنّ التدقيق في تأثيرات الخطر على المُستقبل سيُساعد الخبراء على درءِ حدوث مخاوف لا مُبرر لها، وتجاوز أي عوائق توضع أمام الخطوات اللازمة للتكيّف مع نتائج تلك المخاطر. هل يعي المواطن العربي أو المواطن الجزائري، ذلك؟
إنّ الوعي بمفهومه العام هو قدرة الإنسان على اِستيعاب الحقائق والأحداث من حوله، وهو يندرج ضمن قائمة المعايير الأساسيّة التي تُحدّد درجة تفاعل العقل مع معطيات البيئة والمجتمع. وتتصف حرارة هذا التفاعل بين الساخن والبارد، تبعًا لِمَا تفرضه مؤثرات الوسط المُحيط التي تُـقرر غالبًا نوعية الاِستجابة وسمات ردود الفعل. والوعي قدرة غير ثابتة، تخضع تغيراتها لمتحولات داخلية وخارجية.
ومهما يكن من تأثير هذه المُتحولات، فإنّ الّذي لا شكّ فيه هو أنّ لمؤسسات الدولة والمجتمع المدني، دورها الكبير، سواء في الاِرتقاء بالوعي حتّى المستوى المطلوب والمُتناسب مع ظروف المرحلة، وهو ما يعطيها شهادة كفاءتها ونجاحها وحسن قيادتها، أو في الهبوط به حتّى يبلغ نقطة التجمد، مِمَّا يلغي دور الإنسان في التأثر والتأثير.
إنّ الحقيقة الواضحة التي لا يمكن الهروب منها أو حجبها، تتمثل في حالة الاِنحدار المُتواصل للوعي الجماهيري.. أو بتعبير آخر، تناقض قدرتي التلقي والاِستجابة عند رجل الشارع من خلال عدم التفاعل الإيجابي مع الوباء من طرف بعض الفئات ويدل الواقع على كثير من مظاهر الاِستهتار، الجمود، الجحود. وعدم الاِلتزام بقواعد السلوك الصحي المطلوب بمبررات غير معقولة.
بالنتيجة يتصارع داخل الإنسان العربي/الجزائري، قوّتان، الأولى هي قوّة «ما يجب أن يكون»، أمّا الثانية فهي قوّة «ما أريد». وكلّما اِتسعت المسافة بين «ما يجب» و«ما أريد»، كانت شدة الصراع بِمَا يُؤدي في النهاية إلى السلوك المضطرب الّذي يُشير عند تحليله إلى أي القوتين المتصارعتين لها الغلبة الظاهرية وكيف تُعبر القوّة المغلوبة عن نفسها ليخرج السلوك في مجمله غير متسق أو في حالة مشوّهة. وقد تتسم قوّة «ما يجب» بالحكمة والاِلتزام بالقوانين والأعراف وقد تؤدي في حال تطرفها إلى حالة من الجمود وعدم المرونة وتجاهل قوّة «ما أريد». وقد تتسم أحيانا قوّة «ما أريد» بالطولية وعدم النضج وقد تؤدي في حال تطرفها إلى سلوك لا يتسق والمرحلة التي يعيشها الشخص متجاهلةً قوّة «ما يجب».
السواء إذن هو توافق القوتين فيما بينهما ليكون السلوك الإنساني معبرا عن «ما أريد» في حدود «ما يجب أن يكون». إذن الوعي، أو فلنقل العقل أو فلنقل الوجدان. الجهة القادرة على حل المتناقضات والصراعات بين «ما يجب»، وبين «ما أريد».
- شهيدة جبّار/أستاذة وباحثة أكاديمية ومختصة نفسانية -جامعة وهران2: اللامبالاة السلوكية ليست وليدة الجائحة بل قديمة ومتفشية
جائحة كوفيد19، تسيبت جغرافيًا وتسيّست عالميًا في أرجاء المعمورة، والمواطن الجزائري كغيره من المواطنين في العالم، يتصفح جديدها على الاِلكترونيات في جميع الشبكات العالمية، وليس غافلاً عن إدراك غموض الوباء؛ بين الاِنتقاء الطبيعي للفيروسات في المجرات الكونية وبين وجود يد إنسانية في تصنيعه وتركيبه ونشره في فضاء الإنسانية! إلاّ أنّ المنظار الشكلي لوضع المواطن العربي والجزائري على وجه الخصوص، يشير إلى اللامبالاة والاِستخفاف لحجم الأزمة الوبائية وللتقدير الكارثي الّذي يحصد العشرات من البشر يوميًا.
هذه اللامبالاة السلوكية قديمة ومتفشية، وهذا الاِستخفاف، ليس وليد اللحظة الآنية لإنذار جائحة كوفيد19 وإن كانت الجائحة تمس وحدته النرجسية وتعلقاته الحياتية الماضية، فالآن كمفهوم حيادي لا يقرر اليوم وحده، ولا يقدر الغد الكارثي إلاّ من منطلق ما يمضي، هل فعلاً مضى وإن مضى فكيف تمّ إعداده وتمضيته من طرف «أنا» المواطن! ففي عهدٍ قريب عاش هذا المواطن عشرية سوداء بكثير من الصبر والتخلق والثقة في منظومته الحكومية، ولم يشهد ربيعًا عربيًا إلاّ في جملة من الحراك لـ«أنا» واعية ومتفتحة، أبهرت العالم بسمو الأخلاق والرزانة والتحضر، فكيف تصبح هذه «الأنا» غير واعية ولا مكترثة بوضع الأزمة الوبائية، بل تزيد من حجمها في محيطها.
إشكالية «أنا» المواطن العربي/والجزائري، إن اِستوجدت، ليست أحادية المعطيات في سوء التقدير للأزمة الوبائية، وليست مسؤولية المواطن وحده وإنّما هي اِنعكاس لإشكالية ثنائية –قديمة الأمد-، -حديثة العهد-، كمواطن في دول حكومية، عاشت دورات من اللا اِستقرار والرتابة معًا في هيكلتها؛ أفرزت عنها زعزعة ثقتها بالمواطن وسوء التقدير لــ»أناه» و»ذاته».
كلّ هذا خلف نظامًا وأسلوبًا تقمصيًّا متواتراً ومتأرجحًا كتجربة حياتية، يصعب السير فيه برتابة وتوافق منسجم، تمامًا مثل ثنائية أم/طفل، يَقلُ تماهي وتقمص الطفل لها كلّما اِزداد لااستقرار موقفها وزاد توترها. وإن كان هذا المثال يُشير إلى عدم نضج «الأنا» للطفل في مقابل أمّه، إلاّ أنّ المواطن لا يعتبر غافلاً أو ليس واعيًا عن وضع الإجراءات الصحية الأمنية والتأمينية التي تمسه، خاصةً بالنظر إلى أقرانه في الدول المحاذية، فهذه المقارنة غير المُتساوية الظروف؛ من شأنها أن تزيد من حجم الإحباط النفسي الّذي يُؤزم الكثير من الفئات المجتمعية؛ خاصة عندما تشعر باللا تساوي في الاِعتبار والتقدير.
ليس هذا فحسب؛ فأمام سُلم التفاوت الاِجتماعي التأميني، في ظل الحجر الصحي ومخلفات الأزمة الوبائية الاِقتصادية، يزداد مُعَامِل الضغط النفسي أمام تحديد حريات التعلق السلوكي المعتاد من أنشطة النفس اِجتماعية، فيقل بالتالي ضبط «الأنا» التصوري الواعي، ويزداد نشاطه الدفاعي النزوي لحفظ الذات بدلاً من تحقيقها، فلا يكترث «الأنا» لنظام التصوّر الواعي ولا يهتم إلاّ عشوائيًا في حفظ ذاته النرجسية أمام ثقته المفقودة في كلّ شيء تقريبًا.