اِحتفل العالم نهاية الأسبوع المنصرم باليوم العالمي للترجمة، المصادف لــ:30 سبتمبر من كلّ عام، والّذي أقرته هيئة الاِتحاد الدولي للمترجمين الّذي تأسس عام 1953، وبدأ الاِحتفال الرسمي بالترجمة يوم30 سبتمبر من العام 1991. وقد أطلق الاِتحاد فكرة الاِحتفاء باليوم العالمي للترجمة كيومٍ مُعترف به رسميًّا، وذلك لإظهار تعاضد وتعاون المترجمين في جميع أنحاء العالم ولتعزيز مهنة الترجمة في مختلف الدول. وتعتبر الاِحتفالية فرصة لعرض مزايا هذه المهنة التي تزداد أهمية يومًا بعد يوم (خاصة في عصر العولمة)، وكذا دورها الفعّال في نقل ثقافات وآداب وعلوم الشعوب من لغة إلى لغة. وفرصة أخرى لعرض ما يعترضها من مشكلات وإشكالات.فكيف هو راهن الترجمة في الجزائر: الواقع والإشكالات، التحديات والآفاق المستقبلية؟ وهل ما يُترجم في فترات مُتباعدة في العام يكفي للحديث عن وجود قطاع ترجمة ومشاريع وورش خاصة بالترجمة. وهل من المُمكن الحديث حقًا عن قطاع ترجمة في الجزائر. أم الأمر لا يتعدى أن يكون عبارة عن جهود واشتغال واهتمام أفراد.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
جميلة حنيفي/أستاذة وباحثة ومترجمة -جامعة الجزائر2
الترجمة في الجزائر تُواجه تحديات لها علاقة بتاريخنا وهويتنا ولُغتنا
بعيداً عن كونها مهنة بالنسبة إلى البعض، تعتبر الترجمة فِعلاً إبداعيًّا، ينبجسُ من ولعٍ وشغف، يمنح النّص الأصلي اِمتداداً في الزمان والمكان، حتّى يصبح عابراً للثقافات. إنّ الترجمة ليست ترفًا فكريًا بل ضرورة حضارية، كما أنّ المُترجم لدى الأُمم الحية ليس عتّالاً للثّقافة بل فاعلاً في اِزدهارها ورُقيّها. وإذ نتحدث عن الترجمة ودورها الفاعل نتساءل بشكلٍ عام عن أسباب وضعها المتدني في الجزائر، مقارنةً بجيراننا. وللإجابة عن هذا التساؤل نقترح جملة الأفكار الآتية: - عادةً لدى الجزائري حالة من الاِنزواء على الذات وتضخيمها في مقابل تحجيم الآخر وازدراء ما يصدر عنه، وهو يفعل ذلك مخافةً على ثوابت الدين والعُرف أَلاَّ يمسها هزّ أو رجّ، هذا في الظاهر ولكن في الباطن الأمر يتعلق بالخوف من إطلاق العنان للعقل ليُغامر في دهاليز المنتج الثقافي للآخر ويتفاعل معه بثبات وثقة، وهو ما تطلبه الترجمة بوصفها فِعلاً إبداعيًّا، فهي رمز التسامح والاِنفتاح على الآخر والإقبال على فكره بروية وتدبر. - تقودنا هذه الفكرة الأولى إلى الماضي لنتساءل لِمَا لم تُصاحب حركة النهضة والإصلاح، التي قامت بها جمعية العلماء المسلمين في القرن الماضي، صحوّة في ميدان الترجمة أيضًا كَمَا حدث في مصر ولبنان؟ بالفعل لقد قامت الجمعية بدورها وواجبها من حيث بث الرّوح الوطنيّة وحماية الدين وإبعاده عن الطرقية والشعوذة والبِدع والمحافظة على اللّغة، ولكن بالمقابل لم يُوجد هيكل تنظيمي آخر يتولى الترجمة. وبدلاً من ذلك راح كُتّابنا يُدونون قصصهم ورواياتهم باللّغة الفرنسية بدلاً من إثراء اللّغة العربيّة والترجمة منها وإليها.
أيضا يُقبل سنويًا المئات من الطلبة على دراسة الترجمة، لكن هل يمتلكون ناصية اللّغة العربيّة؟ وههنا أسّ المعضلة؛ فالترجمة تحتاج إلى اِمتلاك ناصية اللّغة الأصليّة وناصية اللّغة الأم، واِمتلاكهما لا بدّ أن يكون نابعًا عن حب وميل متجانس لكِلتا اللغتين، لكن الجزائري عمومًا يُعاني عقدة الاِستعمار الموروثة، المُتمثلة في الاِنتقاص من قيمة اللّغة العربيّة وتحقيرها -وما نراه من مزج لغوي مُقزز وُمنفّر في لهجتنا الجزائرية لدليلٌ كافٍ على ذلك- وهذه إحدى معوقات الترجمة وأسباب ضمورها عندنا. ولعلّ هذا يُجيزُ القول إنّ الترجمة في الجزائر تُواجه تحديات من نوعٍ خاص، لها علاقة بتاريخنا وهويتنا ولُغتنا. وأكثر من هذا دعونا نتساءل أيضًا لِمَا لا توجد ترجمات في الميادين العلمية كالطب والرياضيات والفيزياء مثلاً؟ وللقارئ حسن النظر والتمعن.
إنّ الجزائر تحتاج إلى بناء قطاع للترجمة وتفعيل دوره في التنمية ككل؛ سواء البشريّة أو الماديّة؛ فكلّ ما هنالك هي جهودٌ ومبادراتٌ فردية في أمس الحاجة إلى التشجيع والتحفيز، سواء المعنويّ أو الماديّ. وعلى كلّ حال تبقى المبادرة الفردية محدودة وخاضعة لميول الفرد واختياراته. إنّ الأمر إذن يتطلب اِحتواءً مؤسساتيًّا مُتخصصًا يُنظم فِعل الترجمة ويُرتب قنواته وآلياته في إطار مشروع وطني نهضوي فكري، يحتاجُ هو في حد ذاته إلى مشروع إعادة بناء مجتمعي ككلّ، مع ما يقتضي ذلك من إرادة فاعلة في إعادة النظر في سياسات التربية والتعليم وفي وضع علوم الإنسان. هذا إذا كُنا بحق نروم إنجاز الفِعل الحضاري التنويري.
مُجملُ القول إنّ الترجمة هي فعل التحدي وإثبات الذات في زمن التسابق الحضاري؛ وهنا يحضرني قول الكندي في كتابه إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى: «ينبغي لنا ألاّ نستحي من اِستحسان الحق، واِقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة، فإنّه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق»؛ فأين نحن من أجدادنا في نهمهم المعرفي وتوقهم البحثي إلى اِستكشاف الآخر والنهل من علومه وفلسفاته بحزمٍ وثقة في إطار المشروع الريادي لبيت الحكمة.
كمال بومنير/ أستاذ التعليم العالي وباحث أكاديمي ومترجم –جامعة الجزائر2
غياب المؤسسات العلمية المتخصصة ساهم في تردي الوضع
أعتقد أنّ مسألة الترجمة في الجزائر موضوعٌ شائك يحتاج إلى نقاش عميق وواسع، وإلى جهد فكري يُشارك فيه باحثون وأكاديميون في مختلف التخصصات بغية فهم إشكالاتها واستشراف آفاقها المستقبلية. وبإيجاز شديد أقول إنّ غياب الفكر الاِستراتيجي داخل مؤسساتنا لا يسمح –والحقُ يُقال- بالتفكير الجدي والعملي في وضع آليات تسمح بتحقيق نقلة نوعية في حركة الترجمة في بلادنا. فمِمَا لا شكّ فيه أنّ تحقيق هذا الغرض يتطلب تأسيس وتفعيل هذا الفكر الاِستراتيجي الّذي أصبح على قدرٍ كبير من الأهمية وضرورة ملحة سواء في بُعده المحلي أو الكوني.
مِمَا لا شكّ فيه أنّ وضعية الترجمة في الجزائر لا تختلف كثيراً في بنيتها الكلية أو العامة عن الوضعية التي تعرفها حركة الترجمة في العديد من البلدان العربية، مع وجود بعض الفوارق بالنظر إلى ظروف وطبيعة كلّ بلد. وعلى العموم هي وضعية مُتردية ومُتدهورة إلى حد بعيد، تُكَرِس من دون شكّ وضعًا حضاريًا وثقافيًا بائسًا في بلادنا في زمن تحتاج فيه إلى تحقيق نقلة نوعية على المستوى المعرفي، بالنظر إلى التحديات التي تُواجهها على جميع المستويات، رغم الجهود التي تبذلها بعض فِرق البحث والمخابر الموجودة في العديد من المؤسسات الجامعية عبر مُختلف ربوع الوطن أو الجهود التي تبذلها بعض دور النشر المُهتمة بالترجمة في الجزائر وراهنت على نشر ترجمات في العديد من الحقول الفكرية، كالفلسفة والشّعر والرواية، على الرغم من اِفتقارها للوسائل التقنية والمالية اللازمة. يمكن أن نشير هنا –على سبيل المثال لا الحصر- إلى المجهودات المعُتبرة التي بذلتها وتبذلها منشورات الاِختلاف ودار ميم ودار التنوير ودار الأمل في الحقل الترجمي، التي نشرت -كما هو معلوم- العديد من الكِتابات والنصوص الفلسفية والأدبية المُترجمة إلى اللسان العربي. والحقُ أنّ معرفة العوائق الحقيقية التي أدت إلى هذا التردي والتدهور يتطلب الشروع في القيام بدراسات جادة يُشرف عليها مُتخصصون ذوو خبرة في الحقل الترجمي لمعرفة هذه العوائق الكامنة وراء تعثر حركة الترجمة في الجزائر. وعلى أية حال، لا يتسع المجال هنا لذكر جميع هذه العوائق والصعوبات والعقبات التي أدت إلى تعثر الترجمة، ولكن أهمها بحسب ما أعتقد هو غياب المؤسسات العلمية المتخصصة في الحقل الترجمي التي تمتلك الإمكانات المادية والفكرية لوضع إستراتيجية مدروسة للعمل الترجمي في مختلف التخصصات والحقول المعرفية، وبخاصة فيما يتعلق باِختيار الكُتب المُراد ترجمتها، وآليات أخذ حقوق ترجمة الأعمال الأجنبية بالتنسيق مع دور النشر، والدعم المادي للمُترجمين، والعمل الترجمي الجماعي والتنسيق مع المراكز المُتخصصة في العمل الترجمي في العالم، وتأسيس جوائز سنوية لتشجيع الترجمة، الخ. أمّا الترجمات المُتوفرة اليوم في حقلنا المعرفي وفضائنا الثّقافيّ فهي ترجمات تتمّ على المستوى الفردي لا المؤسساتي. ويمكن في هذا السياق أن نُشير -على سبيل التمثيل لا الحصر- إلى بعض الأعمال الترجمية التي أصبحت تحتل الصدارة في مشهدنا الثّقافيّ الوطني نتيجة جهود واشتغال واهتمام فردي سواء في الحقل الأدبي، كأعمال محمّد ساري وعبد الحميد بورايو وسعيد بوطاجين وجيلالي خلاص وعاشور فني، أو في الحقل الفلسفي، كأعمال محمود يعقوبي ومحمّد شوقي الزين وزواوي بغورة ومحمّد جديدي وعمر مهيبل وجمال مفرج وحسين الزاوي ونادية بونفقة وعمارة ناصر.
محمّد تحريشي/ كاتب وناقد وباحث أكاديمي ومترجم
ما تعيشه الترجمة في الجزائر أمرٌ غير طبيعي
يحتار المُتتبع لوضع الترجمة في الجزائر في غرابة الموقف وهو يقف على مفارقة عجيبة تُدخِل الإنسان في دوامة من الأسئلة ومتاهة من الأجوبة. ذلك أنّ مدخلات هذا الوضع لا تُؤدي إلى المخرجات المرجوة منه والمأمولة، وقد تلغي كلّ الاِستراتيجيات المعتمدة وتكذب كلّ الطروحات وتنفي كلّ المشاريع، وتعوج المسألة على بدء، وهي تتغنى بتاريخ الترجمة عند العرب وتتباهي بزمن هارون الرشيد وبالعصر العباسي، وتعدّه نموذجًا أو مرجعًا لكلّ اِهتمام بالترجمة على أنّها تُمثل نقلةً نوعيّة للمعارف والعلوم والثّقافات والفنون وتسهمُ في تربية الذوق الفني والجمالي للمجتمع وتلبي طموحات الأفراد والمؤسسات في الرقي بالفكر إلى أرقى المستويات، وتتعامل مع المنتج الفكري والفني للآخر بطريقة حضارية على أنّ الحضارة الإنسانية تُبنى بالتراكم المعرفي بين الأمم.
إنّ ما تعيشه الترجمة في الجزائر أمرٌ غير طبيعي ولا يُبشر بالخير، وهو مقصر عن أداء الدور المنوط به، وقد يتعرض للمُساءلة التاريخية مُستقبلا. فعلى الرغم من وجود أساتذة مختصين في الترجمة، ووجود كُتّاب يُجيدون أكثر من لغة، وعلى الرغم من تسطير الكثير من السّياسات لتشجيع الترجمة، وعلى الرغم من توافر المال والدعم المادي لتنشيط هذه الفَاعِلية، وعلى الرغم من وجود مؤسسات كانت الغاية من وجودها الاِنشغال بالفعل الترجمي، وعلى الرغم من معاهد الترجمة التي كانت في الجامعة الجزائرية، على الرغم من هذا كله، فإنّنا لم نلحظ فعّاليّة في الترجمة تكون من أهم مخرجات هذه المدخلات المُهمة والضرورية لكلّ نهضة في الترجمة تُسهل من عملية التثاقف والنقل العلمي والمعرفي، بل إنّ الّذي وقع هو أنّنا شهدنا تراجعًا عن كثير من المكتسبات، فقد تمّ غلق أغلب معاهد الترجمة في الجامعة الجزائرية، ورب عذرٍ أقبح من سبب، فلم تشتمل منظومة الوظيف العمومي مهنة خاصة بِحَمَلةْ شهادة ليسانس في الترجمة، وقد وُجِدَ الكثير من حاملي هذه الشهادة في بطالة مقنعة، في حين كان يمكن اِستثمار هذه الطاقات في مهمة حضارية، ويبدو أنّنا لا نُجيد الاِستثمار في العنصر البشري وفي تسيير الموارد البشرية ذات الكفاءة، وعدنا إلى نقطة البدء في فتح معهد عالي للترجمة، ثمّ سُمِحَ لبعض الجامعات بإعادة فتح تخصص الترجمة، إلاّ أنّنا في الواقع لم نقم بعمليات تحيين للممارسات المرتبطة بهذا الفعل، وتقيدنا بِمَا كان متداولاً، وخاب ظن الجميع في الوصول إلى الغاية والهدف.
إنّ وضع الترجمة هذا يحتاج إلى مراجعة جوهرية وأساسية قد تبدأ بالاِعتراف بوضعية المترجم ووضع مهنته ضمن قائمة المِهن والوظائف، ولا نكتفي فقط بالترجمة المُحلّفة المرتبطة بالمحاكم، وإذا كانت كلّ القطاعات اِهتمت بالجانب المهني لها، فإنّ المترجمين يبيتون في العراء لا مأوى لهم في أي قطاع من القطاعات الوزارية ذات العلاقة من ثقافة وتربية وتعليم عالي وتكنولوجيا ودفاع وصحة وتكوين مهني، بل إنّ بعضهم أصبحوا مادة خامة تستثمرها بعض دور النشر في المشرق العربي وخاصة في لبنان؛ التي ترتبط بعقود ترجمة لأعمال مختارة بعناية خاصة، قد تُحقق الربح التجاري وتسهم في الوقت ذاته في بلورة ذوق جمالي جمعي لثقافة معينة تقوم على الاِنتقاء والاِختيار، بل تعاقدت هذه الدور مع مُدققين من الجزائر في الترجمة يقومون بمراجعة ما تمت ترجمته، وعلى الرغم من هذا كله فالجزائر تشهد غياب مشاريع ترجمة حضارية تستفيد من الطاقات الحية ومن قربها من أوروبا، وبخاصة فرنسا بلاد الفن والنقد، وألمانيا بلاد الفلسفة.
بشير خليفي/أستاذ التعليم العالي. كلية العلوم الإنسانية والاِجتماعية -جامعة معسكر
الحاجة لتفعيل الترجمة لتصبح استراتيجية ثقافية واضحة المعالم
ليست الترجمة عَملا يسيرا، إنّها شهادة حقيقية على الاِنفتاح الثّقافي، وهي شَهادة أيضا على الوضعية اللغوية في مجتمع مُعين. اللّغة هنا بمفهومها الواسع، في تَعليميّتها وعلاقاتها وأبعادها المُتعدّدة.
إنّ الترجمة مَعرفة وفَلسفة قائمة بذاتها، تتأسّس على الرغبة في معرفة الآخر لغةً وفكراً. كما ترتبط في مَقامات أخرى بمعرفة الذات في مُجتمعات الثنائية والتعدّد اللغوي. وفي المقام نفسه، إنّها وضعية حَضارية تُعبِر عن اِنفتاح المجتمع ورغبته في تفعيل لحظة التثّاقف التي تُعد سَبيلاً مُهِمًا لإحداث الإقلاع الحضاري، دون أن ننسى أهميّتها العلمية، الاِقتصادية والحياتية في مجالات الحياة المُختلفة على غرار الدّبلوماسيّة، الإعلام، السياحة، الرياضة، الطب، الصيدلة، السينما...الخ). الأمر الّذي يَجعل من الترجمة اِهتمامًا معرفيًّا، تخصصًا علميًّا ووظيفة لها ضوابطها وأهميّتها البالغة.
والواقع، أنّه لا يُمكن لأي مجتمع أن يستغني عن الترجمة، فيصير المُترجم وفق هذا الفهم «طائراً معرفيًّا» يُتاح له -مع ضرورة الاِلتزام بالشروط الموضوعية للترجمة- أن يُحلِق لينتهك الحدود ويخترق الحُجب، تلك الحُجب الثّقافيّة التي عادةً ما تَفْصِلُ بين لغتين، ومن ثمّة مُجتمعين.
ضمن هذا الإطار، ولإبراز فائدة الترجمة يُمكن الاِستئناس بالدور الفعّال الّذي قامت به في القرن الثاني عشر، مدرسة طُليطلة للمترجمين (The Toledo School of Translators)، لقد كان الهدفُ من تأسيسها تكوين مُترجمين نوعيين، بإسنادهم بجملة الشُروط المُفضية إلى تَحقيق ترجمة فعّالة، تُفضي إلى الاِستفادة المُتبادلة مِن المُنجزات الحضّاريّة والفكرية. وقد كانت للغة العربيّة حينها حُضورها الأبرز، حيث نشطت حركية الترجمة التي اِنبرى لها مترجمون عرب ومُستعربون، قاموا بترجمة عدد كبير من الكُتب الدينية، العلمية والفلسفية، على غرار ما قام به يوحنا الإشبيلي وجيراردو الكريموني وغيرهم.ولأنّ الترجمة إستراتيجية ثقافيّة ومشروع حضاري، فإنّه من الضرورة الاِنتباه لمسألة مُهمة مُرتبطة بأهمية الإستراتيجية التفاعلية بين الأفراد والمؤسسات، والتي تَأخذ على عَاتقها تَفعيلها بِوصفها مَقصدية حَضارية.بل إنّ رِهان النجاح في التنافس أو الصراع الحضاري بين المجتمعات قائمٌ على الترجمة في مقامٍ أوّل، وهذا ما عَمَدَ الاِستشراقُ إلى تحقيقه في ضوء مَقصديّته في فهم الشرق على مُختلف الصُعد والمستويات. هذا، وتجدر الإشارة إلى أنّ ما يُترجم من أو إلى اللّغة العربية، يُعد قليلاً إذ ما قوُرِنَ مع ما يُترجم باللّغة الإسبانية مثلاً، على الرغم من المُبادرات المضيئة، التي نستذكر من خلالها تجربتين مُهمتين: تجربة المنظمة العربية للترجمة في بيروت، وتجربة مجلة الثّقافة العالمية التي يُصدرها المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب بالكويت.
في السياق نفسه، يبدو أنّنا في الجزائر في مَسِيس الحاجة لتفعيل الترجمة لتصبح إستراتيجية ثقافية واضحة المعالم، أتحدث هنا عن الترجمة الأدبية، الفكرية والعلمية، التي ينبغي تجلية إطار الاِشتغال فيها، ضمن مشاريع بحثية تُؤطرها مُؤسسات وهيئات علمية، بِمَا في ذلك المشرفون على حقل الثّقافة، يكون هدفها الرئيس تشجيع المترجمين ماديًا ومعنويًا، إضافة إلى اِنتقاء ما يُمكن وينبغي ترجمته عن طريق تيسير الحصول على حقوق الترجمة من دور النشر الأصلية.
وأمام الحاجة لإستراتيجية واضحة في إطار مشروع ثقافي هادف، تظل الجهود الفردية سيدة المقام، الأمر الّذي يستدعي فتح نقاش صريح وهادئ بخصوص راهن الترجمة في الجزائر، إضافة إلى التفكير في السُبل المُفضية لتطوير هذا الحقل المعرفي الهام.
ليس هذا فقط، بل ينبغي أن يصل الهاجس إلى التفكير في الأساليب التُرجمية، ومَدى تَحقيقها للفّاعلية في إيصال المعنى، أي التفكير في الترجمة ونقد الترجمة. ومادام الحديث قائمًا في الترجمة ونقدها، يحقُ لي أن أتساءل في هذا الصدد عن السبب الّذي يجعل من نصوص مالك بن نبي -على سبيل المثال لا الحصر- حَبيسة لنسق ترجمي مُحدّد المعالم؟ لماذا لم تكن هناك محاولات جديدة لترجمة كُتبه التي كتبها باللّغة الفرنسية؟ ولماذا لم تتناول الدراسات العلمية والبحوث الأكاديمية بالشكل الّذي ينبغي مُراجعة ترجمات كُتب مالك بن نبي إلى العربية وإبراز قوتها ونقائصها، عبر دارسات علمية رصينة تأخذ بعين الاِعتبار أسانيد البحث العلمي بعيداً عن الحِدية والشطط.
عبد الحميد بورايو/ مترجم وكاتب وباحث أكاديمي مختص في التراث
لا يمكن الحديث عن جهود منتظمة في الترجمة
الترجمات التي تتمّ في الجزائر قليلة جدّا، إذا ما راعينا الاِحتياجات، وهي عبارة عن جهود فردية تظهر من حين لآخر. لا يمكن الحديث عن جهود في الترجمة منتظمة، بفعل غياب مؤسسة تتكفل بها، وتضع برنامجًا لها. مثل هذه المؤسسة (هيئة أو مركز الخ..) يمكن أن تكون تحت وصاية وزارة الثقافة أو المجلس الأعلى للغة العربيّة. كان هناك حديث واقتراحات في هذا الشأن في السنوات الماضية لكنّه لم يجد الإرادة السياسية لتحقيقه. تعاني الترجمة من الضعف ومن الإهمال، ولعلّ ذلك يعود أساسًا لضعف العناية بالشأن الثقافي منذ بداية الاِستقلال إلى اليوم.
ما يصدر من ترجمات عبارة عن جهود فرديّة وتضحيات يقوم بها بعض الأفراد يكون دافعهم شخصيًا في الأغلب. كانت هناك بعض المحاولات الجيّدة عمومًا في فترات المهرجانات الثّقافيّة كمهرجان الجزائر عاصمة الثّقافة العربية. غير أنّ الأمر لم يتواصل ولم ينتظم.
تتطلّب الترجمة تكفّلاً من الدولة لأنّها تحتاج إلى تعويض مادي مُناسب لِمَا يُبذل من جهد في القيام بها، وهو تعويض يرفض الناشرون أن يتحمّلوه، لأنّه عادةً ما يكون باهظًا ويزيد كثيراً من تكلفة الكِتاب. إضافةً إلى ما تحتاجه الترجمة من اِختيارات مناسبة ومستوى مقبول، ومُراجعات، وتدقيقات لغوية لا يمكن أن تحصل إلاّ بوجود مؤسسة مُدعّمة من الجهات المعنية بالفعل الترجمي.
هناك حاجة ماسّة في الجزائر للترجمة وتمثّل الترجمة رهانًا لابدّ من خوضه في مؤسساتنا الثقافيّة والعلميّة من خلال خطّة ذات بعد اِستراتيجيّ، تنبني على تقدير صائب وتوصيف للوضعية الراهـنة، التي تعيشها الممارسة الترجـمية في بلادنا، ورسم للمنطلقات والأهداف ووضع للأسس واقتراح للوسائل والمراحل وسُبل تنفيذ تفاصيل الخطّة بمراعاة الاِحتياجات والأولويات؛ فهي قاطرة اِنتعاش الفِعل الفكريّ والثقافيّ في المجالات العلميّة والتقنيّة والأدبيّة والفنيّة وهي المُحفّز على اِزدهار الفِعل الإنتاجي، سواء أتعلق ذلك بالحياة العامة أم بالمجالات المُتخصصة. إنّها فِعل حيويّ خليق بأن تُرصَد له الإمكانات وأن تُوضع له الاِستراتيجيات المندرجة في مشاريع الدولة. لهذا كلّه تُصبح مسألة تنظيم العمل الترجمي ورعايته وتشجيعه وتوجيهه، من المسائل الحيوية التي يجب التجنّد لها ومعالجتها بعقلانية وبخطط تنظيمية، كفيلة بأن تُحْدِثَ إقبالاً على الفِعل الترجمي من قِبَلِ مختصّين أكفاء، ترعاهم وتؤطّرهم هيئة وطنية مختصّة، كما تشجّع ذات الهيئة المواهب الجادّة لاِقتحام مجال الترجمة ضماناً لاِستمرار الجهود وتتابعها والتأكيد الدائم على عدم اِنقطاعها.
محمّد داود/ ناقد وباحث أكاديمي ومترجم -جامعة وهران1
الترجمة تعاني كثيرا من اللامبالاة ومن غياب إستراتيجية وطنية
تُواجه الترجمة في العالم العربي عامة وفي الجزائر على وجه الخصوص معوقات كثيرة تَحُدُ من فعاليتها ومن إشعاعها في الأوساط الأكاديمية والثّقافيّة. إنّ الترجمة باِعتبارها من أكثر الوسائل الناجعة في نقل العلوم والمعارف إلى اللّغة العربية ومنها، تُعاني كثيراً من الاِكراهات وتُسجلُ تأخراً كبيراً، وقد أشارت إلى هذه الوضعية العديد من التقارير الوطنية والدولية ومنها المؤسسة الأممية «برنامج الأمم المتحدة للتنمية» في تقريرها لسنة 2002: «إنّ العالم العربي لا يُترجم سوى 330 كتابًا في السنة، أي ما يُعادل خُمس ما يُترجمه بلد مثل اليونان، وأنّ ما تمت ترجمته من مؤلفات لا يتجاوز مائة ألف كِتاب، أي ما يُعادل المعدل السنوي لِما يُترجم سنويًا في إسبانيا».
وعلى الرغم مِمَا أثاره هذا التقرير من جدل في الأوساط الأكاديمية والإعلامية حول دقة وصحة هذه المعلومات، فإنّ واقع الترجمة يُعاني كثيرا من اللامبالاة ومن غياب إستراتيجية وطنية تأخذ بعين الاِعتبار الأهمية الكُبرى التي يُمثلها هذا القطاع. ويمكنُ القول أنّ الدولة الجزائرية قد بذلت جهوداً مُعتبرة لتنمية الترجمة من خلال التكوين الجامعي وتحرير الحقل الثقافي والترخيص القانوني والتشجيع المادي لدور النشر منذ بداية التسعينيات. وقد تمّ تأسيس العديد من أقسام ومعاهد الترجمة وتوطين المعهد العالي العربي للترجمة بالجزائر العاصمة إلى جانب مؤسسات أخرى مثل المجلس الأعلى للغة العربية وغيرهما، وهي جهودٌ معتبرة لكنّها تفتقد إلى رؤية شاملة وإستراتيجية وطنية واضحة. والجدير بالذكر أنّ طلبتنا يفتقرون إلى الكُتب لمواصلة دراستهم وفي مختلف التخصصات الاِجتماعيّة والعلميّة والتكنولوجية. هذا مع العِلم أنّ الترجمة بوصفها نشاطًا يسمح بالاِنفتاح على الثقافات الأخرى ليس غريبًا عن حضارتنا العربيّة والإسلامية، ولعلّ ما قامت به مؤسسة «بيت الحكمة» من جهود في الفترة العباسية وما قام به المصلح «رفعت الطهطاوي» في مصر في بداية النهضة العربية أحسن مثال على ذلك، لكن ما عرفه العالم العربي من اِنحطاط ومن اِحتلال غربي فيما بعد جعل هذا النشاط يتراجع، وهيمنت اللغات الأوروبيّة على اللّغة العربيّة بشكلٍ كبير. وربّما ما قامت به الدولة الجزائرية من جهود في مجال تعريب المدرسة والجامعة كان بإمكانه أن يدفع بالفاعلين إلى الاِستثمار في الترجمة، لكن هذه الجهود لم تتجاوز المُبادرات الفردية وبعض الأعمال المؤسساتية التي لم تُعمر طويلاً.
وبالنظر إلى هذه الأوضاع المزرية التي يُعاني منها قطاع الترجمة، لا بدّ من إعادة النظر فيما تمّ إنجازه وتقييمه ووضع إستراتيجيّة وطنية للرفع من قدرات هذا القطاع بالتشجيع المادي والمعنوي للمترجمين وبمختلف اللغات، وتأسيس مخابر ووحدات بحث ومراكز تعتني –وفقط- بترجمة المؤلفات وفي جميع التخصصات العلميّة، الاِجتماعيّة والتّكنولوجيّة، لعلنا بهذه الخطوات قد نُنجز ما لم يُنجز منذ مدةٍ طويلة. وربّما التحديات الكبيرة والرهانات الضخمة والتحوّلات السريعة التي يعرفها العالم والاِكتشافات الهائلة التي يُنجزها العُلماء والمفكرون يوميًا وفي كلّ مكان، تدفع بنا إلى التفكير بجدية في الموضوع، وربّما تنظيم جلسات وطنية حول الموضوع تُشارك فيها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ووزارة التربيّة الوطنيّة ووزارة الثّقافة والمجلس الأعلى للغة العربيّة ودور النشر العموميّة والخاصة، لوضع إستراتيجية وطنية شاملة للنهوض بالترجمة في وطننا.
محمّد جديدي/أستاذ وباحث أكاديمي في الفلسفة ومترجم
تأثرت بتراكمات الماضي وصراعاته الإيديولوجية
إنّ المُتأمل في راهن الترجمة بواقعنا سينتهي لا محالة إلى نتيجة سلبية، يلُفها التشاؤم وسيجده مُثقلاً بتراكمات الماضي وصراعاته الإيديولوجية حول اللّغة وتخلف مجال الترجمة فيه بِمَا يُكرس ويُرسخ هذا التراجع بل والتقهقر، إذ تجذرت مشكلاته وتوزعت على الإطار السياسي والمرجع الديني والتنظير الفكري من دون حلول وبرامج أو خُطط لحلها على المديين القصير والمتوسط وبالتالي ظلت الآفاق مغلقة ومسدودة في ظل غياب مشاريع وبرامج طموحة حتّى وإن تكن في آفاق بعيدة؛ لكنّها مع الأسف الشديد غائبة تمامًا. والمثال الحي أنّ معهد الترجمة الّذي حظيت بلادنا باِستقباله لا يزيد دوره عن التكوين والتعليم في مجال الترجمة، بيد أنّه مفصول عن الفعل الترجمي وربّما تحدّدت مهامه وضُبِطت وفق رزنامة المنظمة العربية للترجمة أو منظمة الأليكسو وهي منحصرة في الجانب البيداغوجي فحسب دون أن تتعداها إلى مهام أخرى والمساهمة من المعهد كمؤسسة في العمل الترجمي ببلادنا لاسيما وأنّ لجان الترجمة التي ترعاها المنظمة العربية للترجمة تحتفظ دومًا بالأسماء نفسها منذ منشئها ولا تُتيح الفرصة لأسماء جديدة بالاِنخراط معها وهو ما يطرح سؤالاً أساسيًّا حول معيار الاِنتماء لهذه اللجان المُختلفة في الترجمة سواء في العلوم الإنسانية أو الآداب أو الفنون أو العلوم الدقيقة والطبيعية.
لذا ومع غياب الفعل الترجمي المُؤسساتي تبقى جهود بعض المشتغلين بالترجمة في بلادنا بشكل فردي ومن دون تأطير ضمن مشاريع إلاّ في القليل النادر (في بعض المخابر الجامعية مثلا) وهي جهود لا تكاد تُذكر لأنّها لا تلقى الدعم الكافي والمطلوب لتشجيع المترجمين ودور النشر أيضا كي يخوضوا تجارب جدية تُمكِن من النهوض بقطاع الترجمة وإيلائه المكانة التي يستحقها ولأنّه مجالٌ مُنتجٌ ومُثمر لو أحسنا في الجزائر الاِستثمار فيه. لكن الواقع لا يُوحي بذلك ولا يُشير إليه كمشروع قادم ومن ثمّ فمن يتحدث عن قطاع الترجمة في الجزائر فما ذلك سوى تجاوزا وأنّ الأمر لا يعدو أن يكون مجرّد جهود أفراد لا جهود مؤسسات ومبادرات دور نشر لا غير.أمّا الحديث عن مشاريع للترجمة و ورشات لها تكون بمثابة قاطرة للثّقافة عندنا فهي في طور النسيان، لا نقرأها في برامج ثقافية ولا ضمن اِهتمامات وزارية ولا أثر لها في خطابات السّاسة والمثقفين على الرغم من دعوات كثيرة بضرورة الاِعتناء بالترجمة في بلادنا وإيلائها المكانة التي تليق بها غير أنّ الواقع يُطلعنا على أمر ترجمي بدرجة الصفر ولا شيء يُبشر بتغير وضعية الترجمة نحو المأمول في ظل سياسة ثقافية واضحة وشفافة تمنح للعمل الترجمي دوراً فاعلاً في تنمية الساحة الثقافية وخلق ديناميكية جديدة للتعريف بنصوصنا المحلية ونقلها لغيرنا وكذا الاِحتكاك بنصوص غيرنا عبر ترجمتها للغتنا. إنّ بلوغ هذا الهدف المركزي لكلّ ثقافة وفي كلّ بلد لن يتحقّق إذا بقيت الترجمة كفعل فردي منعزل ومُشتّت ومن دون أن ترعاه مؤسسات الدولة والمجتمع المدني وتدعمه ماديًا خاصةً ومعنويًا وتُشجع على المُضي قُدمًا في مسلكه كخارطة ثقافيّة تتعزّز معها الترجمة عبر إنتاج الكِتاب وترقية الوسائل الإلكترونية ومنها ترجمة الأفلام والأشرطة الوثائقية والبرامج الثقافية والتربوية التي تبث على قنوات التلفزيون ووسائل التواصل كما بدأت تعمل به دول مُجاورة وتقوم به بلهجتها حفاظًا على جذب مُشاهديها إليها وتحصنهم ثقافيًّا.
ليس من المستحيل أن يزدهر المشهد الثقافي الوطني إذا وُجِدت بعض روافده ومنها الترجمة دعمًا وتحفيزاً من خلال مشاريع تحتضنها وتُخطط لها هيئة بمثابة مركز أو بيت للترجمة يعمل وفق برنامج يثري من خلاله الثقافة الوطنية وذلك أمرٌ مُتاح لاسيما وأنّ الجزائر بموقعها الجغرافي (تقاطع ثقافات ولغات) وكفاءاتها اللسانية المُتعدّدة يمكنها أن تنهض بهكذا مشروع مجدي ونافع علميًّا، ثقافيًّا واقتصاديًّا.