ألمانيا فقدت أخلاقها في اليونان و الاتحاد الأوروبي أفلس سياسيا
يتحدث الفيلسوف الألماني الشهير يورغن هابرماس في هذا الحوار عن الأزمة اليونانية التي شهدت ضغطا من الليبراليين الأوروبيين تتزعمه بلاده ألمانيا على حكومة اليسار في اليونان بسبب أزمة الديون، و يرى أن ألمانيا فقدت أخلاقها في التعامل مع أثينا، التي رفض شعبها مخطط التقشف المفروض من البنك المركزي الأوروبي، لكن قيادات الرأسمالية الأوروبية فرضت منطقها و أجبرت البلاد على توقيع اتفاق مهين و صعب على اليونانيين.
يورغن هابرماس الأستاذ الفخري للفلسفة في جامعة يوهان وولفغانغ غوته في فرانكفورت الذي حمل آخر كتبه عنوان “سراب التكنوقراطية” تحدث لصحيفة الغارديان البريطانية التي نشرت الحوار على موقعها الإلكتروني يوم 16 جويلية 2015 و نترجمه هنا كاملا للعربية.
هابرماس: الاتفاق حول الديون اليونانية المعلن عنه بالغ الضرر، من جهة نتائجه و من حيث الطريقة التي تم التوصل بها إليه. أولا نتيجة المفاوضات كانت على أساس نصائح سيئة، حتى و لو أن أحدهم اعتبر الشروط الخانقة للاتفاق محصلة طبيعية للجهد، فلا يمكن للواحد أن يتوقع أن تقوم حكومة أعلنت بنفسها أنها ليست مقتنعة بالاتفاق بتنفيذ ما ورد في بنوده.
ثانيا، نتيجة الاتفاق لا معنى لها من الناحية الاقتصادية بسبب الخليط السام بين التعديلات الهيكلية الضرورية للدولة و اقتصادها مع مزيد من الضرائب النيوليبرالية التي ستحبط تماما و ترهق الشعب اليوناني و تقتل كل رغبة في تحقيق النمو.
ثالثا، النتيجة المعلن عنها تعني أن المجلس الأوروبي العاجز عن تقديم المساعدة أعلن نفسه في الواقع مفلسا سياسيا: جعل عضو في الاتحاد الأوروبي في موضع الدولة الواقعة تحت الحماية يناقض صراحة المبادئ الديمقراطية للاتحاد الأوروبي.
أخيرا، نتيجة الاتفاق مخيبة لأنها تجبر الحكومة اليونانية للقبول بتمويل خوصصة رمزية أساسا ومشكوك في جدواها الاقتصادية لا يمكن فهمها سوى على أنها عمل انتقامي عقابي ضد حكومة يسار. من الصعب أن نرى مزيدا من الضرر يمكن أن يلحق أكثر من هذا.
المجلس الأوروبي أعلن نفسه بحكم الواقع انه مفلس سياسيا و مع ذلك فالحكومة الألمانية أقرت ذلك عندما هدد وزير المالية شوبل بإخراج اليونان من منطقة اليورو، و هكذا دون حياء كشفت ألمانيا أنها المكلفة الأولى بالعقاب في أوروبا.
الحكومة الألمانية بهذا أعلنت لأول مرة بوضوح أنها تبسط سيطرتها على أوروبا، و هذا ما يلاحظه بكل المقاييس بقية الناس في القارة، و هذا ما يحدد الواقع الذي يهمنا. أخشى أن الحكومة الألمانية بما فيها الجناح الاشتراكي الديمقراطي قامرت في ليلة واحدة بكل الرصيد السياسي الذي راكمته ألمانيا الحسنة طيلة نصف قرن و بالحسنة أقصد ألمانيا التي تميزها حساسية سياسية أكبر و ذهنية ما بعد الدولة الوطنية.
هابرماس: لست متأكدا من النوايا الحقيقية لأليكسيس تسيبراس، لكن علينا أن نقر بحقيقة بسيطة: في سبيل أن نسمح لليونان بالوقوف مجددا على قدميها، الديون التي قدر صندوق النقد الدولي أنها «لا يمكن تحملها بقدر كبير» تتطلب أن تتم إعادة هيكلتها. و بخلاف هذا كل من بروكسل و برلين رفضتا باصرار قيام الوزير الأول اليوناني بالتفاوض حول إعادة جدولة الديون و منذ البدايات الأولى. و بهدف تجاوز هذا الحائط من المقاومة لدى الدائنين، حاول الوزير الأول تسيبراس في النهاية تقوية موقفه بوسائل الاستفتاء- و قد كسب مزيدا من التأييد داخل بلاده أكثر مما يتوقع. هذه الشرعية المتجددة أجبرت الطرف الآخر للنظر سواء نحو تسوية ، أو استغلال حالة اليونان الحرجة و التصرف ربما بأكثر من ذي قبل لإنفاذ العقاب. و نعرف النتيجة.
هابرماس: الأزمة الحالية يمكن شرحها من خلال الأسباب الاقتصادية و الإخفاق السياسي في نفس الوقت. أزمة الديون السيادية التي ظهرت من أزمة البنوك لها جذور في شروط الفعالية الموحدة التي تؤلف العملة الموحدة للاتحاد الأوروبي. دون سياسية مالية و اقتصادية موحدة اقتصاديات الدول الأعضاء ذات الشبه سيادة ستواصل الابتعاد في ما يتعلق بالإنتاج. و لا توجد مجموعة سياسية يمكنها تحمل مثل هذا الضغط على المدى البعيد. في نفس الوقت بالتركيز على تجنب الصراع المفتوح، منعت هيئات الاتحاد الأوروبي المبادرات السياسية الضرورية لتوسيع وحدة العملة نحو الوحدة السياسية. فقط قادة الدول المجتمعين في المجلس الأوروبي يمكنهم التصرف، لكن بالضبط هم العاجزون عن التصرف لمصلحة المجموعة الأوروبية لأنهم يفكرون أساسا في ناخبيهم على مستوى أوطانهم. نحن واقعون في فخ سياسي.
هابرماس: بخلاف توقعاته حول الزوال الوشيك للرأسمالية، أتفق عموما مع تحليل وولفغانغ ستريك. حول مسار الأزمة، حصل التنفيذيون الأوروبيون على المزيد من السلطات بمرور الوقت، القرارات الأساسية يتخذها المجلس و اللجنة الأوروبية و البنك المركزي الأوروبي و بعبارات أخرى هي نفسها المؤسسات التي سواء غير ذات شرعية فعالة لاتخاذ مثل هذه القرارات أو الفاقدة للقواعد الديمقراطية. أتقاسم مع ستريك أن هذا الهلام التكنوقراطي الخارج عن الديمقراطية هو محصلة الاتجاه النيوليبرالي لسياسات عدم تنظيم السوق.و الميزان بين السياسات و السوق خرج عن تناسقه على حساب دولة الرفاهية.
ما نختلف بشأنه يتعلق بحدود الآثار الواجب تحملها نتيجة ذلك للخروج من هذا المأزق. لا أرى كيف أن عودة الدول الوطنية التي ينبغي عليها أن تسير مثل الشركات العملاقة في سوق عالمية يمكنها التصدي لمحاولات السير باتجاه ديمقراطية أقل و المزيد من التفاوت الاجتماعي و هو شيء بالمناسبة رأيناه في بريطانيا العظمى. و مثل هذه النزعات لا يمكن سوى الوقوف في وجهها، إذا تم في النهاية بفعل تغيير الاتجاه السياسي الحصول على ذلك من خلال أغلبيات ديمقراطية في قلب أوروبا المندمج بصورة أكبر.
العملة الموحدة ينبغي أن تكون لها القدرة على الفعل على مستوى يتجاوز المستويات الوطنية. و في ظل مخاطر مسار سياسي مضطرب ناجم عن الأزمة اليونانية لا يمكننا لوقت أطول تجاهل محدودية الوسائل و الطرق الحالية للتوافق ما بين الحكومات.
يعتبر هابرماس الفيلسوف الذي استطاع صياغة الفلسفة الألمانية المعاصرة بشكلها المتميز والسير بها قدماً. وتعتبر نظريته في السلوك الاتصالي مشروعاً لتشخيص المجتمع الغربي «المريض» ومحاولة تحليل أسباب ونتائج القوى المخربة التي تهدد الحياة الإنسانية، وفي مقدمتها تحطيم بنيات الاتصال في خصوصياتها الإنسانية التي ترتبط بالتوسع اللاعقلاني للبيروقراطية. وقد استخدم اللغة، كوسيلة وسلوك اتصالي، ودعا إلى الكشف عن العقل العملي، الذي يفرض علينا ما نعمله وما نتكلمه، وأن ننجز الاعتراف بتفاهم وحوار سلمي وتحت ظروف وشروط الاختلاف الاجتماعي والثقافي. وبواسطة نظرية اجتماعية نقدية، يواصل تقاليد عصر التنوير النقدية التي تقوم على ترسيخ الحرية والعدالة في الذاكرة الجمعية وربطها بقوة دولية تساعد على تفتح النواة، التي لم تولد بعد، لديمقراطية الخير العام.
إن تأثير فكر هابرماس على الثقافة السياسية في ألمانيا ليس قليلاً، ولذلك ينبغي الإشارة إلى أن هابرماس يمثل الانتلجنسيا الأوروبية السجالية النقدية التي ما زالت ترفع إصبع الاتهام ضد الشر والبؤس، وهو الامتياز الذي حصل عليه هابرماس خلال مسيرته العلمية الشاقة والأعمال الفلسفية العديدة التي أنجزها، وكذلك الظروف التي عاشها في ظل سلطة النازية التي كونت منه نمطاً معيناً من المثقف الذي يختلف في الواقع عن المثقف الفرنسي او الانكليزي. وهو ما طبع الفكر الفلسفي الألماني على وجه الخصوص ووضع هابرماس كفيلسوف للسلام.
ولد هابرماس في دسلدورف بألمانيا في 18 جوان 1929، ودرس الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس، وأصبح بعد تخرجه في الجامعة مدرساً في «معهد البحث الاجتماعي» التابع لمدرسة فرانكفورت النقدية. ثم انتقل إلى هايدلبرغ وأصبح أستاذاً مساعداً، ثم رجع إلى فرانكفورت وعين أستاذاً للفلسفة في جامعة فرانكفورت خلفاً لماكس هوركهايمر.
إن سيرة حياة هابرماس الذاتية ومثابرته العلمية وأفكاره الفلسفية الواضحة جعلت منه فيلسوفاً نموذجياً جسد مثال الفيلسوف الألماني الصارم ورشحته لأن يحتل منصب رئيس معهد ماكس بلانك للتقنية والبحوث الاجتماعية في ستارينبرغ، ثم استدعته جامعة فرانكفورت عام 1983 ليواصل التدريس في معهد البحث الاجتماعي ويحتل منصب كرسي الأستاذية في الفلسفة. وفي عام 1994، أصبح استاذاً متمرساً، ولكنه لم يترك طريقه الأكاديمي واستمر في إلقاء المحاضرات، ليس في جامعة فرانكفورت فحسب، بل وفي جامعات أخرى في العالم. وقد حصل هابرماس على جوائز علمية عديدة منها جائزة هيغل وجائزة أدورنو وغيرهما.
ويعتبر هابرماس من ألمع رواد مدرسة فرانكفورت في علم الاجتماع النقدي وآخر من بقي منهم على قيد الحياة. وقد أصبح بعد وفاة روادها الأوائل هوركهايمر وادورنو وماركوزه، الوريث الشرعي لها.
والحقيقة، فإن هابرماس يعتبر أول من جدد الأطر الأساسية لمدرسة فرانكفورت ببعديها الفلسفي والسوسيولوجي، وأصبح اليوم أحد أهم الفلاسفة النقديين المعاصرين، ان لم يكن الفيلسوف الوحيد الذي بقي على قيد الحياة بعد وفاة هوركهايمر وميشال فوكو وذلك بسبب البناء الفكري الرصين والتيار النقدي المتفرد الذي قاده في مرحلة متقدمة من الشمول والانفتاح على العلوم الأخرى.
ومع شهرته كفيلسوف، فإن هابرماس كان ولا يزال عالم اجتماع متميزا لقيامه بإخضاع الظاهرة الاجتماعية ـ السياسية للبحث السوسيولوجي، الذي انبثق من رؤية فلسفية تحليلية تشكل القاعدة الأساسية والمتينة التي يقوم عليها دمج التحليل الفلسفي بالسوسيولوجي. وبهذا أصبح هابرماس مرجعاً مهماً في الفلسفة وعلم الاجتماع والابستمولوجيا.
ومثلما حاول هابرماس إخضاع النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت للتعديل وإعادة صياغتها من جديد، حاول تعديل نظرية ماركس عن الرأسمالية ونظريته عن فائض القيمة، وكذلك تقويم نظرية ماكس فيبر عن العقلانية، في محاولة لإقامة نظرية نقدية توجه الاهتمام إلى نوعية العلاقات والاتصالات الرمزية وتوضيح أهمية القوى الخارجية الضاغطة والسلطة التي تمارسها التكنولوجيا على الإنسان، عن طريق الكشف عن وعي جديد يتخذ في نهاية الأمر صورة «عقلانية تكنولوجية» على أنه إذا ما تحرر الإنسان من الوعي التقني واستعاد وعيه الذاتي المستلب فسوف يكتسب في الأخير مكانته الحقيقية.
ق.ث