فضيلة الفاروق
لم أستطع أن أكتب عن أستاذي الدكتور حسين خمري بسهولة، فجأة غبتُ في غيمة حالكة من الحزن، وسلمتها نفسي لتمطر بغزارة حيث تشاء. فقد كنت بحاجة لمن يعزيني في فقدانه، استنجدت أولا بصديقتي إيمان روحي في باريس (طالبته هي أيضا)، وبكينا كل في مهجرها عليه، أردت لدموعي أن تجد صدرا تسيل عليه، ولا تذهب هباء في هذه العزلة التي فرضتها كورونا علينا جميعا في كل العالم.
كتبت لصديقيّ يوسف وغليسي وسليم بوفنداسة، كأني أبحث عمّن حزنه أقلّ ليمص حزني، فإذا بنا جميعا عالقون في الشباك نفسها، لا كلام مشترك بيننا غير الصمت القاتل، كالذي يلي كل فاجعة بهذا الحجم.
اتصلت بابنته دلال في باريس، وبزوجته، أستاذتي الدكتورة عليمة قادري في قسنطينة ، وعرفت أن الرّد مستحيل ممن يعيش الصدمة نفسها.
مرضت من هذا الموت المبكر والمفاجئ وعكفت على مدى أيام أقرأ ما كتبه طلبته عنه، وبعض أصدقائه، والمقربين منه. عرفت ما حدث، وعرفت كيف يزداد حجم الخسارة حين يكون الغياب لقامة علمية، وكيف يتحوّل مفهوم الخسارة إلى عبء ثقيل بالمسؤولية.
حين نفقد أبا، نشعر أن سقف البيت انهار، ثم سريعا تبدأ خطوات تقسيم الميراث فيصبح كل شيء بلا معنى، أمّا الحزن فينكمش خجلا من تلك الخيانات التي تبدأ باكرا للأبوّة.
حين نفقد أستاذنا ومعلّمنا، ينفجر الحزن والحسرة في لحظة واحدة، ويصبح جمع الميراث مهمة صعبة، ثمّة شيء يزرعه هذا الأستاذ فينا تحضيرا لتلك اللحظة التي نصبح فيها مستقلين عنه ومجتمعين حوله في الوقت نفسه إلى الأبد، إنها مهمتنا لإثبات إن كنا أبناء أفكاره أو لا، وهل فهمنا الدّرس الطويل الذي ثابر على تقديمه لنا أم لا؟ سر استمرارية المسيرة العلمية بين الأجيال تبدأ من هنا، بإثارة أسئلة كهذه، والخوض في إجاباتها حتى لا تموت المعرفة مع موت من قدّمها لنا.
حضرتني كل الذكريات الجميلة والتعيسة التي عرفناها معه، تذكرت حين غضبت منه بسبب علامتي 10.5 في مادة النص النثري، في أول امتحان لنا معه، فقصدته محتجة، وإذا به يجيبني هذه أحسن علامة “مادموازال” كما تذكّرت الضياع والتشتت الذي حلّ بزملائي الطلبة مع كل ذلك الكم من العلامات السيئة.
قلة من شدّوا الحزام للدخول في تحدٍّ شرس مع هذا الأستاذ، وكانت تلك القلة “نحن” مجموعة من المثابرين الذين قلبوا الطاولة في وجهه حتى أصبحنا أصدقاءه لا طلبته.
لقد عرف كيف يستفزنا، ويخرج منا الأفضل. لكن بالمقابل هناك من أرخى حباله على الآخر، وعجز عن اللحاق به فاختفى تماما من المشهد. كان أشد ما يؤلمه التوجيه الخاطئ الذي تعتمده خطة التعليم في الجزائر، فترسل الطلاب الأكثر فشلا لمعاهد العلوم الإنسانية، وتحديدا معهد الأدب واللغة العربية.
أي همس كان يزعجه خلال إلقائه محاضرته، يليه انزعاجه من الصمت حين يطلب منا أن نطرح عليه الأسئلة بعد إنهائها، يخاطبنا “فهمتوا كلش ولاّ ما فهمتوا والو؟” ...يسألني “آسيا فهمتي؟” لشدة إعجابي بآسيا جبّار في تلك الفترة وإثراء أجوبتي بأمثلة من أدبها كان يناديني آسيا، وكنت أحلّق عاليا لذلك التقدير. وحتى حين أومئ له أني لم أفهم، يكرر الجملة نفسها :”هذي دلال تفهمها وانتوما ما تفهموهاش” كانت دلال وقتها رضيعة ربما، ولكنّها شاركتنا افتراضيا حضور دروسه الصعبة، ودخلت معنا متاهات رولان بارت، وميشيل فوكو، وجاك دريدا، وجون ريكاردو، وفليب سولرز، وأستاذته التي تأثر بها كثيرا الناقدة والفيلسوفة جوليا كريستيفا التي دوّختنا السبع دوخات وقد بذلنا جهدا خرافيا لفهمها خجلا من “دلال” التي تفوقت علينا في فهم كل النظريات النقدية الجديدة.
نفسها دلال ستزورني في بيروت بعدها بسنوات وهي مهندسة “قد الدنيا” متخرجة من إحدى الجامعات في باريس، شابة جميلة، لها وجه والدتها وطيبتها، وأشياء كثيرة من والدها، نهمة للقراءة، ذكية، سريعة البديهة، ساخرة، وناقدة لاذعة كما تمنى دوما أن نكون نحن طلبته...
وستخبرني أن أكثر دفعة أحبها هي دفعتنا، ستكرر هذه الجملة كثيرا حين تمكنت من الرد على اتصالي بها لتعزيتها “كان يحبكم بزاف، دفعتكم كانت جد متميزة، كنتم مفخرته”
هل نحتاج للمزيد من نياشين الشرف؟ بالنسبة لي شهادة دلال اليوم تحوّلت لوصية يجب تنفيذها، طالما كنا الأقرب إلى قلبه، فقد كنا نمثل أملا ما بالنسبة له ...
ترى من هم طلبته غير طلبة دفعتي الذين لديهم استعدادا لتأسيس حلقة نقدية بإسمِه؟
ألم أقل لكم إن كان ميراث العائلة يفرّق فإن ميراث العلم يجمع، ونحن عائلته العلمية وقد حان اجتماعنا.
سلام لك أستاذي الغالي، سلام لكم جميعا طلبته النجباء ، ثمة وصية في انتظارنا لتنفيذها.
بيروت 30 جانفي 2021