كيف يُخطط الروائي لخلق شخصيات رواياته لتلعب على أرض الرواية، وتطرح أفكارها ورؤاها وحيواتها وفلسفتها وعوالمها ومعالجاتها وتصوراتها للحياة والكون والنّاس والذهنيات وغيرها من التركيبة النفسية والبشرية... فهل بناء وخلق شخصيات مُتخيلة، في عمل روائي، أسهل من توظيف شخصيات حقيقية، خاصةً وأنّ توظيف شخصيات حقيقية، في أعمال روائية، كثيراً ما يُقابَل ببعض الجدل؟ ومن جهةٍ أخرى هل من الضروري وضع مسافة بين تفاصيل حياة الكاتب الروائي وبين شخصياته، وتجنب الخلط قدر الإمكان بين الحياة الخاصة، وكذا المواقف التي يُؤمن بها وحياة ومواقف الشخصيات. حول هذا الشأن «الكاتب وشخصياته الروائية»، يتحدث بعض الكُتّاب والروائيين في ملف «كراس الثقافة» في عدد اليوم، وكلٌ من زاويته الخاصة واِنطلاقًا من تجارب روائية وكتابية مختلفة ومتباينة في اِستحضار أو خلق واِستثمار الشخصيات بين الواقعية/الحقيقيّة والمتخيلة.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
الصدّيق حاج أحمد روائي وأكاديمي
نجاح النّص مرتبط باقتراب الكاتب من شخصيّاته
تغدو شخصيات النصوص لدى الكاتب، كالملائكة والشياطين أحيانًا، منها الطائع والمتمرّد، بيد أنّ شخصية البطل، وملامحها ومسارها، هو الدينامو المحرّك للنص، منذ التخطيط الأولي لسيرورة النص؛ لكن مع مرور الزمن، تزداد معرفة الكاتب ببطل نصه، لدرجة عقد صداقة متخيّلة بينهما، قد تبقى حتّى بعد دفع النص للمطبعة.
إنّ نحت الشخصيات ورسم ظلالها الباقية في تلقي القارئ، ليس بالأمر السهل والهيّن، كما يتوهم البعض، فإخلاص الكاتب لنصه، وروحانيته مع شخوصه وأحداثه، هي من يُغزّز تلك الظلال ويقويها.
أعتقد أنّي في نصي الأوّل «مملكة الزيوان»، لم تكن لي تلك الصلة الروحانية مع البطل (لمرابط)، إلاّ بِمَا يُوصل الأحداث، ويُجلّي تمفصلاتها، وهذه هي الحقيقة بلا إدعاء، لا أدري تحديداً، ما الّذي وقع.. كلّ الّذي أعلمه يقينًا، أنّ في نصي الثاني «كاماراد»، بدا لي البطل (مامادو)، كشخصية جوانية تسكنني، أتفاعل معها، للدرجة التي أحسّ فيها، بمخاطبتها ومناجاتها، خلال خلوتي في كتابة نص كاماراد، مغايرة تمامًا لعلاقتي مع (لمرابط) بطل مملكة الزيوان، قد أعزي ذلك لقصر التجربة في العمل الروائي الأوّل، وهذا هو الراجح بلا زعم.
لقد كان مامادو بالنسبة لي في كاماراد، بمثابة الساكن الدائم، الّذي يشغلني دائمًا، أرسمه وأنحته بِمَا يرضيه ويرضيني.
فطبيعة البطل وخلفياته التّاريخيّة والجغرافية، وارتباطه مع أحداث النص، هو ما يجعل الكاتب واعيًا بشخوص نصه، فمثلاً مامادو، وبحكم طبيعة المُسالمة عند أهل النيجر خصوصًا، والأفارقة عمومًا، تجعل من البطل مُذعنًا أحيانًا لتوجهات الكاتب، اللّهم إلاّ في القليل النادر، كما أنّ الشخوص، تأخذ حظها من الاِندماج والتسلّط، من خلال دورها في الأحداث، فشخوص كاماراد، التي تأتي من أفريقيا الأنجلو، كالكاميرون وغانا، تتميّز بالتمرّد، وعندها ميول الاِنحراف والإجرام، كتزوير الأوراق المالية، وتهريب المخدرات، وغيرها.
مثلاً في روايتي الأخيرة «مَنّا.. قيامة شتات الصحراء»، التي ستصدر قريبًا، تطبع شخصية البطل، النزعة التارقية، الميالة للترحّل وعدم الاِستقرار، مع حب المغامرة، وهو أمر يتوافق مع مجرى الأحداث وطبيعتها؛ غير أنّ تخوّف الكاتب من اِنفلات البطل وتمرّده يبقى كائنًا، وهو ما حصل لي فعلاً، خلال مطارتي لـــــ(بادي) بطل النص، عبر صحاري الأزواد وجبال الطاسيلي، كما أنّ موقع الأحداث، هو من يتحكّم في البطل، فبادي البطل التارقي، وهو بعيد في معتقل بجنوب لبنان، يختلف عن بادي وهو في بوادي الأزواد، ومن هنا يمكن القول، إنّ فاعلية الحدث المُتمركز، هي من تخلق تلك الأفعال وأحوال البطل.
فلكلّ شخصية مُتخيّلة، معادل موضوعي، لذلك لا يمكننا فصل هذا عن ذاك، وهو خلاف الشخصية المتخيّلة والواقعية، فتجنيس الرواية، يحتّم ضرورة التخييل، وإن اِستلهم الكاتب شخوصه وأبطاله من الواقع؛ لكن علينا أن نقطع وصل واقعية ذلك، حتّى يتسنى لنا، تسويغ تجنيسها كرواية. وبالتالي لا محل لوجود شخصيات واقعية من جنس الرواية، وإلاّ فهي رحلة أو يوميات أو سيرة ذاتية.
في الأخير أعتقد أنّنا كلما أتقنا رسم شخوصنا وأبطالنا، واقترابنا من نفسياتها، وردود أفعالها الجوانية والبرانية، كلما أمكننا نجاح النص، فلا نص ناجح دون نجاح أبطاله، وتفاعل المتلقي معه. فالمُتلقي لا يريد بطلاٌ يتوقّع فعله وحدثه، إنّما بطلا مستفزّا مكسّرا لتوقعاته، على مستوى الأحداث أو على مستوى إثارة المفاجأة، التي يصنعها الكاتب بشكل عفوي غير متكلّف.
ليانة بدر كاتبة وروائية فلسطينية
حتّى لو أردتُ العمل على شخصيات واقعية فإنّني أعاود تشكيلها
أصنع صفات البطل أو البطلة بناءً على الموضوع الأساسي أو الثيمات التي أود مناقشتها في الرواية. تتشكل الرواية عبر نحت الأفكار ومحاورة التواريخ الشخصية والعامة. ولهذا أعوّل على اِبتداع شخصيات روائية تنطلق منها إشعاعات الأمكنة والأزمنة. تتحقّق الخلطة الغنية لدى إيجاد الشخصيات الروائية وعبر إبراز ما يُميّز كلّ شخصية من صفات وظروف اِجتماعية وبيئية ونوعية اِرتباطاتها وعلاقاتها وأفكارها البسيطة والمعقدة.
ترسم الرواية المجال الإنساني لتبيان الفلسفة الشخصية لكلّ مشارك فيها سواء كان البطل أم لم يكن. إنّ اِكتشاف قلب الشخصيات هي أهم ما يُميّز مرحلة التخطيط التي أبدأ فيها رسم الأرضية الأساسية للعمل. وحين أتمكن من الوصول إلى هذه المعادلة أعتبر أنّ الهدف قريب. لكن المُدهش أنّ الرواية تمتلك طبقات جيولوجية عِدة ولهذا تتشكل الشخصيات من طبقات متراكبة فوق بعضها باِنسجام أو تنافر. ثمّة في هذا ما يخلق فيها حياة ثرة وإمكانيات حاشدة فتطرح علينا أسئلتها الوجودية والحياتية.
حتّى لو أردتُ العمل على شخصيات واقعية وموجودة فإنّني أعاود تشكيلها بِمَا ترسمه الرواية كعمل فني إبداعي مُركب. صدف أنّني اِشتغلتُ على شخصيات حقيقية في مرحلة لبنان والمقاومة الفلسطينية في رواياتي القصيرة (شرفة على الفاكهاني) لأنّ المرحلة كانت اِستثنائية، لكني لم أقم بعدها بالعودة إلى شخصيات حقيقية في الأدب فلطالما حاولت أن أجد الحقيقة عبر الشخصيات المُتخيلة. ولهذا أعمل بدأب على عمل مخططات لها وتدبير كلّ أحوالها قبل أن أزجها في الرواية لأرى فيما بعد ما الّذي سوف يحدث بها، ولها، وعليها.
أليس الأدب مجالاً شاسعاً لخلق عوالم متخيلة نعبر منها إلى حقائقنا الداخلية؟
محمّد الأصفر روائي ليبي
ما أجده أمامي أو تتقاطع طريقي معه من شخصيات حية أو ميتة أرميه سريعًا في الرواية
طريقتي في الكتابة باِعتباري لستُ أكاديميًا، هي الفوضى وعدم التخطيط للعمل، فحينما أنهمك في الكتابة لا يكون في رأسي أي شخصية، أبدأ الكتابة من المدينة التي أعيش فيها وأنطلق نحو المجهول، ما أجده أمامي أو تتقاطع طريقي معه من شخصيات حية أو ميتة أرميه سريعًا في سلة القمامة، أقصد الرواية، وأتركه يتفاعل داخلها ويتدبر أموره، يُقاتل ليبقى أو (يحل عن سما الرواية)، ليترك مكانه لكائن غيره، كما يحدث في الحياة بالضبط.
الشخصية الوحيدة التي أحرص على بقائها وعدم التضحية بها هي أنا بالطبع، يمكنني أن أكتب عنها أي شيء سيء دون أن ترفع في قضية، بقية الشخصيات إن كانت خيالية فأحترمها كثيرا لأنّها لا حول لها ولا قوة فلا أسيء إليها خاصةً وأنّها تمنحني نفسها بسخاء، وإن كانت الشخصيات موجودة في الواقع فأكتب عنها حسب رؤيتي وهواي، الشخصية المثقفة والتي تتعاطى الأدب فأكتب عنها بقلة أدب لا مشكلة، لأنّها ستتفهم الأمر وترى الأمر مجرّد نص لا أكثر، وإن كانت شخصية أخرى، مطرب شعبي مثلاً فأكتب عنه كلامًا جميلاً يستقبله بحب وعناق حميم، أمّا إن كانت شخصية سياسية فأبتعد عنها قدر الإمكان، وإن تناولتها فبطريقة لا تسبب لي أي مشكلة، طريقة لا تعرف أنّني أمدحها أو أذمها، ليست مسك عصا من المنتصف، شيء آخر يجعل الأمر كبندول الساعة لا يتوقف كي لا يُرى، المكان في النص يُحدّد ذلك، وكلّ قارئ يمكنه أن يفهم الأمر بطريقته، فأنا باِختصار من الكُتّاب الذين يحبون أن تموت القضايا من أجلهم وليس العكس.
هناك شخصيات تحل لي مشاكل كثيرة أكون حزينًا فأفرح من خلالها، أكون سعيداً فأشقى من خلالها لأنّ السعادة في غير وقتها أو مكانها مضرة للقلب، أجلب شخصيات لتخدمني بالدرجة الأولى، الشخصيات الفلسفية أو التي لديها أفكار عظيمة تخلص الإنسانية من مشاكلها وأمراضها ليس تخصصي، تركتها لزملائي الروائيين الكبار الذين أتعلم منهم كلّ يوم شيئًا جديدا يُفيدني في مسيرتي الإبداعية، أتركهم يتعبون كثيراً ويعصرون أذهانهم ويُدخنون ويسهرون حتّى ينتجوا للعالم نصًا جميلاً مُحكمًا، بعدها آتي لأقطف منه ما يُفيدني، فأنا في الأساس قارئ أكثر من كاتب، أحب أن أقرأ وأبتسم وأضحك وأربت على بعض الأكتاف قائلاً اِهدأ يا سبع، وفي الحقيقة لا أعرف كيف أجيب عن سؤال الاِستطلاع، شخصيات خيالية مع واقعية، كيف تتصرف أثناء الكتابة معها، الأمر صعب حقيقة، ففي الأساس معاملتي للشخصية تكون معاملة مع كائن حي، حتّى الشخصيات الخيالية أنفخُ فيها الرّوح لتكون واقعية، أمنحها أسماء معروفة موجودة في الواقع، أحاول أن أجعل القارئ يرى في الشخصية نفسه.
ذات مرّة سألني صديق روائي لماذا شخصيات روايتك «جامايكا» بدون أسماء، ولماذا شخصيات روايتك «بوق» بدون ملامح أي لا تصف الوجه والعيون والطول إلخ، فقلتُ له لم أتعمد ذلك ولكن ربّما أردت أن يرى كلّ قارئ نفسه في الشخصية التي يقرأها، أي حدث للقارئ مزيداً من الاِندماج مع أو في الشخصية، فمعروف عندما نقرأ نتعاطف وأحيانا نتقمص الشخصية التي نقرأها عندما نجد فيها أشياء نحبها أو أشياء تفعلها الشخصية ونتوق لفعلها، وعدم وجود اِسم للشخصية أو ملامح لها يُسهل الأمر على القارئ ليكون الشخصية نفسها.
أذكر في نهاية التسعينيات عندما دخلتُ عالم الكتابة وكثفتُ قراءتي أكثر أنّني وجدتُ نفسي في كُتب ميلان كونديرا، وكلّ شخصياته التي تُمارس الجنس في شقق براغ تمنيتُ أن أكونها أو أضعف الإيمان أتفرج عليها، لكن كُتبه الأخرى التي بها نقد، وصايا مغدورة وغيرها لم ترق لي، لا أحب أن يُعلمني أحد كيف أكتب، الكتابة شأنٌ خاص حميمي كالنوم مع من تحب، كلّ الجُمل تأتي تلقائيًا فطريًا لا تدري كيف ستكون النهاية، النهاية المعلومة جحيم والمجهولة جنة، لم أدخل أي ورشة أدبية حتّى الآن أو أقدم دروسًا للغير، كلّ من يحضر لي عملاً لإبداء الرأي أقول له عملك جيّد، ولا أراه أبداً راكبًا على خشبة ويظنها البُراق.
عزت القمحاوي روائي مصري
أنظر إلى شخصياتي كما أنظر إلى أبنائي وقد كبروا
يحاول الكاتب أن يكتب الشخصية كما تصورها، لكن أثناء الاِندفاع في الكتابة تحصل الشخصية على بعض اِستقلالها، وفي النهاية ينظر الكاتب إليها كما ينظر إلى ولده الّذي كبر وأصبح مُستقلاً عنه. وتبدأ المسافة في التباعد بين الكاتب والشخصية الروائية في التزايد عندما تجد هذه الشخصية صدى لدى القُرّاء، وتصبح لها حياتها الخاصة. وقتها أراقبها بإعجاب أحيانًا، بندم أحيانًا على أوجه ضعف رآها البعض، تمامًا مثلما أنظر إلى أبنائي بعد أن كبروا وبدأوا يتعاملون مع الحياة بشخصياتهم المستقلة. ودائما هناك سؤال عن المسافة التي صارت: أهذا ابني؟
مثلا لم يمض على صدور «ما رآه سامي يعقوب» الكثير لأرى حينها كيف اِستقبلها النقد، لكن التعليقات الفورية بعد القراءة من أصدقاء أعتز بهم جعلتني مطمئنًا. كتبتْ لي صديقة إنّها طوال القراءة كانت تشعر أنّها هي سامي يعقوب، وأحيانًا تشعر أنّها فريدة حبيبته، وأنّ بعض حوارات الرواية جرت لها في حياتها الخاصة، لدرجة أنّها أحست لوهلة بأنّها تحت المراقبة. وهذا التعبير أسعدني جدًا، وأظن أنّه أمر مُبهج لأي كاتب عندما يجد شخصيته وقد اِشتبكت مع الواقع، أو خرجت من الرواية لتصبح نموذجًا واقعيًا. شخصياً كثيرًا ما أشعر بالذنب، أشعر بالتقصير في منح الشخصية عُمقًا فكرتُ فيه. ثمّ تغاضيت أو سهوت عنه.بالطبع لا يمكن أن نكتب رواية معتمة من أوّلها إلى آخرها، فهذا يُناقض شروط الفن، رغم أنّه لا يُناقض ما يجري في الحياة. بعض النّاس تتكالب عليهم المصائب إلى حد ثقيل لا يمكن نقله إلى الفن. ولا بدّ أنّ القارئ سيجد لحظات فرح ولحظات حب في حياة سامي يعقوب الّذي حكمت عليه بالوحدة وبتهديد حبه تحت قسوة الخوف.
سامي يعقوب –مثلا- شاب أحببته كأبنائي. كتبتُ الرواية في فترة قصيرة جدًا، لكنّني ظللت أراجع فيها طويلاً جدًا. أكتبُ بهذه الطريقة غالبًا، لكنّني اكتشفت أنّ ما يجعلني أتباطأ في الدفع بالرواية إلى النشر ليس خوفي المُعتاد، بل الخوف من فُراق الشخصية التي صرتُ أعتقد أنّها موجودة بالفعل وأخشى وحشة الابتعاد عنها. هو إنسان خاص، مثلما لكلّ إنسان خصوصيته. يرى الأحداث قبل أن تقع، لذلك يعيش الحياة بتسامح من يشاهد عرضًا فنيًا سيتكرر.
بومدين بلكبير روائي وأكاديمي
أحاول أن أضع مسافة بين تفاصيل حياتي وبين شخصياتي
أعتقد أنّ الاِشتغال على الشخصيات ليس بالسهولة التي قد يراها البعض، هناك إكراهات مختلفة يجد الكاتب نفسه في مواجهتها باِستمرار، وعليه تخطيها بأقل الأضرار المُمكنة حتى لا تظهر شخصياته باهتة وسطحية ومن دون أدنى عمق!
سرديًا لا يستقيم العمل الأدبي بشخصيات لا تفرض نفسها في النص، أوّلاً من خلال جعل القارئ يصدق كلّ كلمة تتفوّه بها وكلّ حركة أو شعور ينبع منها، علاوةً على قدرة تلك الشخصيات على أن تجعل القارئ بعد الفراغ من قراءة العمل مهوسا بها إلى حدٍ كبير، تسكنه ولا تتركه يعيش بسلام، تبقى عالقة في ذاكرته ومخيلته، لا ينساها أبدا!
عني كروائي أحاول أن أضع مسافة بين تفاصيل حياتي وبين شخصياتي، لا أخلط بين حياتي الخاصة ومواقفي التي أومن بها وحياة ومواقف شخصياتي، أترك مساحة واسعة لشخصياتي، لا أتدخل في فرض أو تحديد كلماتها وحركاتها وسكناتها، أتركها عفوية وعلى سجيتها. حتى أنّني في الكثير من الأحيان أتفاجأ مثل أي قارئ عادي مِمَا يبدر منها من تصرف أو سلوك! أحاول أن أبتعد قدر الإمكان عن الشخصيات المثالية غير الواقعية، أكتب عن شخصيات عادية من تلك التي قد تجدها في المُدن والشوارع والأحياء، كذلك عن المهمشين والمقموعين، أحاول إسماع صوتهم وأن أفسح لهم مساحة للتعبير عن أرائهم ومواقفهم. عندما أخوض في موضوعات حساسة وأتناول قضايا الجدل كرواية (زوج بغال) أحاول أن أكون محايداً وأقف على مسافة واحدة بيني وبين شخصياتي المتناقضة والمختلفة في المواقف، لا أنتصر لشخصية على حساب أخرى، أنتصر للإنسان بالأساس.
هناك من لا يُولي أهمية كافية للشخصيات (في نسبة مهمة من النصوص السردية)، لا يهتم بتطورها النفسي، أو بتطور مواقفها... كما هناك من يغفل العناية بإطلاق تسميات مناسبة تليق بشخصياته السردية ونابعة من هوية المكان الثقافية التي تدور فيها أحداث نصه، علاوةً على عدم اِنسجام وتناغم الحوار أو ما تتفوّه به الشخصيات مع سنها وخبرتها أو مستواها الثقافي والعلمي أو طبقتها الاِجتماعية والاِقتصادية، وغيرها.
فضيلة الفاروق روائية
أكتب بعاطفتي حين أبتكر الشخصيات وأغلبها موجود في الحياة
أن تكشف كلّ هذه الأمور لقارئك فكأنّك تتجرّد من ثيابك وتمشي عاريًا بين النّاس، مطبخي الروائي يخصني وحدي، طريقة تحضيري لنصوصي أعتمد فيها على حواسي، فأنا أكتب بعاطفتي حين أبتكر الشخصيات، أغلبها موجودة في الحياة وتعود إلى ذاكرتي لأسباب كثيرة. لكن هل يهم القارئ فعلاً أن يعرف كيف أُخطط لروايتي؟
مؤخراً قرأتُ رواية جميلة جداً للمغربي عبد المجيد صباطة اِسمها «الملف42» أقترحها على كلّ من يريد أن يرى «مُخطط رواية» واضح. فالكاتب كتبَ رواية مُعقدة، ببناءٍ عظيم وذكي كما لو أنّه يبني عمارة جميلة بمداخل عديدة وطوابق كثيرة، كلّ طابق يحوي غرفًا تنغلق على أسرار خطيرة.
هذا مُخطط رواية... أمّا ما أكتبه أنا فيتخمّر في رأسي دون تخطيط، تخرج شخصياتي مثل الأشباح الليلية وتسكنني وتُمارس سلطتها عليّ، فإمّا أن أُدون ما تريده فأرتاح أو أعيش حياتين حياتي في الواقع وحياتي معها... يتقاطع عالمي الواقعي مع عالمي الثاني... صدقيني لم أعد أفرّق بين الشخصيات الحقيقية والوهمية، فهي تُؤرقني جميعها...
ذكرتُ في «مزاج مراهقة» عدداً من الشخصيات الحقيقية بمحبة كبيرة، ففوجئتُ بقراءة صادمة من إحداها، في الطبعة الثانية شطبتُ الفقرة التي ذكرتها فيها.
هذا كان درسًا لي أن لا أمنح أي شخص حجمًا أكثر من حجمه، فبعض من نحبهم ننجرف في محبتهم لأنّنا لا نعرفهم جيّدا لا غير. تعلّمتُ الحذر من هذه التجربة ولم أكررها.
اِتضح لي أنّ الشخصيات المُتخيلة تصبح حقيقية كلما دُوِنَت على الورق، بعض شخصياتي الوهمية حُورِبت حربًا شعواء، مثل باني بسطانجي، البعض اِعتقد أنّها مريضة ويجب أن تبقى في مستشفى الأمراض العقلية، البعض نكر أنّها من قسنطينة، والبعض سألني كيف عرفتها هي وتوفيق بسطانجي الّذي يعيش فعلاً في فرنسا؟
المخيلة مدهشة لأنّ جذورها في حيوات سابقة حقيقية ربّما، أو لا أدري كيف تحدث هذه المصادفات الغريبة. كنتُ قد بدأتُ في كتابة رواية كتبتُ منها حوالي ثلاثين صفحة، وذات يوم اِقتنيتُ رواية لسعود السنعوسي بدأتُ بقراءتها فصُعقت، وجدتُ نفس الشخصية لديه بنفس الاِسم ونفس الأوصاف. بقيتُ مصدومة طويلاً ثم تخليتُ تمامًا عن النص بعد أن جربتُ تغيير الأسماء فلم أفلح في المضي في بناء أحداثها بالأسماء الجديدة.
غير ذلك صديقتي، الكتابة تخضع لسيل من التغيرات، فكلّ رواية تختلف عن التي تليها، في الأفكار والشخصيات والأهداف... قد أكون ملتزمة بقضية معينة ولكن أفكاري متحركة مثل نهر حي وصاخب. أنا في طور التعلم دائمًا، وكلما قرأتُ اِكتشفتُ خلطات جديدة للخروج بعمل مختلف.
رواياتي لا تتشابه في طريقة بنائها. ولا في خلفياتها المحرِّضة لكتابتها. ثمّة قراءة مختلفة لكلّ عمل قدمته، هذا غير القراءات المُتناقضة للقراء والأكاديميين لها، وكأنّني لستُ نفس الشخص الّذي كتبها جميعها.
ربيعة جلطي شاعرة وروائية وأكاديمية
شخصياتي أنحتها من شجر الخيال وقد تأتي من دهاليز الذاكرة
من أين تأتيني شخصياتي الروائية يا ترى؟.. من أي كُمٍّ تخرج؟ من تحت أية قبعةِ ساحرٍ تنتفض كما الحمام الأبيض، أو من أي قُمقم تطلع كالعفاريت؟ سؤال جوهري ومفصلي مرتبط بِمَا يُسمى بماهية الأدب السردي، في علاقتها بسؤال الحياة، نعم.. تجربة الحياة بتفاصيلها ومفاصلها العديدة من جهة، ومن جهة أخرى بممارسة القراءة كعادةٍ وإدمانٍ معرفي، إنّهما البئران السخيتان اللتان لا تشكوان من النضوب. اللتان منهما يمتحُ الروائي الماء ليجلو ملامح شخصياته الروائية الواقعية منها والمُتخيلة.
مُبكراً، منذ الطفولة واجهتني الحياة باِمتحانها العسير، فلم أكن مثل صديقاتي وأصدقائي الصغار أفضي وأُثرثر بعفوية في حُضن أمّ تستمع إلى هذيانك الجميل وتتحمل تدلّلك وكُثرة أسئلتك بصبر وصدر رحب وابتسامة.. وإذ لم تكن البداية مهْداً هانئًا، فإنّني مُبكرة تعلمت الركون إلى الصمت المُقترن بفضيلة السماع، والإنصات، والنظر، والتأمل، والمُلاحظة والتساؤل مع مرّات كثيرة. وأنا طفلة، كانت الأسفار الطويلة قدري مِن وإلى بيت والدي على البحر الأبيض المتوسط وبيت جدي لأمي في أقصى الجنوب. مناخان جغرافيان مُتناقضان بين رمل البحر ورمل الصحراء. عالمان مُختلفان ومُتقابلان، في لهجة الكلام ونبرة الصوت والحكايات والقصص والأساطير والغناء والرقصات والعادات والسكن والعمران واللباس وطقوس الأعراس والعطور والأعياد والأفراح والأحزان. أتنقل ما بين الخطو على الزليج إلى المشي على الرمل، مسافة طويلة من بهجة الإحساس. بين رائحة شجر البرتقال في البيوت بمعمارها الأندلسي البديع بمدينة ندرومة وبين ذلك العطر الغريب المُتسرب من عراجين التمر على قمم النخيل تحت الشمس. أترنح بين نبرة الموسيقى الأندلسية وإيقاع الصحراء. وفي كليهما حنينٌ جارح يُرقق زجاج الرّوح. شخصياتٌ ووجوه وملامح وأصوات وأزياء وأجساد وأحداث تلك هي عوالمي التي تُؤثث نصوصي السردية.
لم أكن أدري أنّ كلّ تلك الأشياء التي كنتُ أشاهدها وأعيشها، بألم تارة وسعادة تارة أخرى، من ذلك العالم المتحرك الساحر الضاجّ الثري، تتسرب إلى أعمق خلاياي، تستقر في نسيج ذاكرتي وتمتزج بألوانه وتتشكل لاحقًا في كتاباتي السردية.
أمّا القراءة والتي أعتبرها شرطًا ومنبعًا أساسيًا لتغذية الخيال وتهييج أحصنته وإيقاظ عفاريته النائمة. فقد اِكتشفتُ القراءة باكراً، ببيت والدي بمكتبته أوّلاً، قبل اِكتشافها بالمدرسة. بدورها كانت مخبئي اللذيذ وسكن روحي وانطلاق طيور خيالي الملونة المجنونة وذلك منذ أن تعلمت القراءة بالعربية ثم بالفرنسية ثم بالإسبانية. القراءة باب الكتابة، القراءة شكلٌ من أشكال الكتابة، لا كتابة تبدأ من الصفر، الصفر لا وجود له في الكتابة.
حين كتبتُ رواية «الذروة « بين سنة 2008 و2009، ثم قررتُ نشرها وأرسلتها لدار الآداب فصدرت بداية 2010، كنتُ أعرف أنّها ستخرج إلى العالم بالغةً راشدةً في جنونها. رواية الذروة تعجُ بالشخصيات، بنيتها برؤية بوليفونية أساسها تقاطع الأصوات وتعددها، تقنية مُتمردة على الأسلوب الكلاسيكي، إضافة إلى جرأتها السياسية التي جاءت في وقت كانت الجرأة السياسية فيه مجازفة يحسب لها ألف حساب، وقد نسجتها أيضا في سخرية سوداء لمقاربة وتفكيك الشخصية الواقعية التي هي «الحاكم الأوحد»، الجبار المستبد «ذو الغلالة» وتنبئها بسقوطه. من شخصيات «الذروة» التي أثارت اِنتباه النُقاد، سواء التي نحتُّها دراميًا وفنيًا من شجر الخيال، أو من الحقيقة الواقعية التي طلعت من دهاليز الذاكرة، كشخصية «لالة أندلس»، إنّها المرأة القوية، المُقاومة للاِستعمار. اِبنة أحد الملاكين الّذي رهن أراضيه كي ينقذ أُسرا كثيرة من المجاعة والقحط والجفاف والمرض، حفيدتها هي الشخصية المحورية الفتاة «أندلس». و»لالة أندلس» سليلة أسرة أندلسية عريقة تدير أمور البيت الأسري بصرامة ودقة بِمَا فيه من أبناء وأحفاد ومنها شخصية زهية الموظفة في أعلى هرم السلطة والتي تتزوج شابًا يهوديًا من آل الكاراث. لالة أندلس تُحدث حفيدتها أندلس عن طفولتها وعن أمها وأبيها وعن جارات وأُسر يهودية كثيرة قدموا من الأندلس كذلك كانوا يعيشون في اِنسجام اِجتماعي واحترام مُتبادل إلى أن أحدث الاِستعمار الفرنسي شرخًا بين أبناء المدينة الواحدة. وحادثة إلقاء الشاب اليهودي في برمة الماء الساخن بحمام المدينة واقعة حقيقية لا لشيء إلاّ لأنّه رفض أن يُهاجر إلى إسرائيل، مؤكداً أنّه لا يعرف مكانًا آخر للعيش الكريم غير مدينته.. سعدتُ وأنا أقرأ لبعض المُلاحظين بأنّ شخصية لالة أندلس وحفيدتها الجميلة أندلس وبعض وقائع رواية «الذروة» قد أوحت لبعض الكُتّاب بروايات فنسجوا على منوالها واستفادوا من شخصياتها.
في كلّ رواية أحرص أن تكون الشخصيات جديدة تمامًا. بسبقٍ ما، مختلفة، بحفر روائي في أرض عذراء صعبة المنال. أدخل كتابة كلّ رواية جديدة، كمن يدخل مدينة ليلاً ثم عند نهاية كتابتها، تُضيء وتتجلى مع النهار. لقد تبدى ذلك في بناء شخصية الزوبير في رواية «عازب حي المرجان» المثقف المتعب المشوه جسدا مثل الواقع الّذي يعيش به، وشخصية «عذرا» الطارقية في رواية «نادي الصنوبر» وهي أوّل رواية جزائرية تتعرض لطوارق الجزائر وحياتهم وتاريخهم وأسرار الصحراء وجمالها وهمومها عبر شخصيات متوترة في علاقتها السياسية والاِقتصادية مع الشمال. أمّا رواية «عرش معشق» فتنفرد بشخصية البطلة الدميمة ثم بتذويت «الهيكل الزجاجي» الموروث عن الأمير عبد القادر، فيصبح الشيء «شخصية» ومرجعية تاريخية يتكئ عليها الحكي مشحونًا بالفانتاستيك..ولأنّني أومن بلامحدودية السرد الروائي وحريته في توصيف مشاكل هذا العصر في توحشه السياسي والاِقتصادي والحربي، وقدرته على اِستيعاب مختلف الفنون والعلوم الحديثة، تلتقي في رواياتي شخصيات جاءت من الماضي لتعيش في الحاضر، من الفضاء العرفاني والصوفي والفلسفي مثل «حلاجة» ورابعة العدوية واِبن عربي والتوحيدي والتبريزي وجلال الدين الرومي وغيرهم لتلتقي مع شخصيات آتية من المستقبل، من مصانع العقول، والثورات التقنية والتكنولوجية وعالم الفانتاستيك كما في رواية «حنين بالنعناع» و»قوارير شارع جميلة بوحيرد». أمّا الشخصية الأساسية في رواية «قلب الملاك الآلي» فتأتي من الاِفتراضي، وإنّها أوّل بطولة روائية مُطلقة قائمة على اِبتكار لشخصية روبوت أنثوي بخصائص نسوية بشرية.
أمّا في روايتي الجديدة «جلجامش والراقصة» الصادرة في 2021، فإنّها تُقلب ملحمة جلجامش رأسًا على عقب، مأساة جلجامش في الألواح الأحد عشر يظهر وقد ضيع عشبة الخلود بينما في الرواية فإنّ مأساته أنّه يعيش إلى الأبد وهو بيننا يرى ما يحدث ويُسائِل حاضرنا المُتوحش، في الرواية تقارب ملحمة جلجامش فيما حملته من صراعات الآلهة إلى ما تعيشه الجزائر من صراعات على السلطة. هل سيدهش جلجامش القادم من منبت الزمن ما يحدث للإنسانية في هذا العصر؟ أم أنّ لكلّ زمن آلهته.!.