على سبيل التمهيد
ليس الحديث هنا عن إشكالية كلاسيكية متعلقة بحدود العلاقة بين التاريخ بالمسرح، بما هي علاقة بين موضوع وخزان لذاكرة الشعوب من جهة وفن يسعى لتوظيفه في تقديم عمل إبداعي مسرحي من جهة ثانية، باِعتبار المسرح من أقدم الأجناس الأدبية النثرية وأقربها لكلّ الشرائح الاِجتماعية بما فيها الطفل.
* محمّد بن ساعو
«المجاهد الصغير»، هي العينة التي سنحاول أن نستلهم منها بعض ملامح معالجة المسرح لإشكالية كتابة تاريخ الجزائر، ونقصد هنا تحديداً تاريخ الثورة التحريرية، تندرج ضمن مسرح الطفل –الّذي مرّ بمرحلتين رئيستين في الجزائر-، للمؤلف المسرحي أحمد بودشيشة، والتي نال بها الجائزة الثانية لمسرح الفتيان في مسابقة وزارة الثقافة لعام 1997.
رغم أنّ المسرحية التي تدور أحداثها في الريف الجزائري كُتبت منذ عقود، لكن حمولتها ورسائلها تظل تدق على جرس الذاكرة منبهةً بلغة إبداعية عن جملة من الضرورات التي يستدعي العمل على معالجتها، لأنّها مرتبطة بذاكرة وطن.
في استحضارٍ جميل لأجيال مختلفة (جيل الثورة ممثلاً في الجد والجدة، وجيل الاِستقلال ممثلاً في الأب والأم، والجيل الحاضر الّذي يمثله الأطفال الذين كانوا في زيارة للجد والجدة في الريف رفقة والديهم). هذا التلاقي بين الأجيال الّذي جسّدته أحداث المسرحية كان ضروريًا لتبليغ رسالة الجيل الأوّل للأجيال اللاحقة، لقد كانت هذه الزيارة فرصة لجيل الحاضر حتّى يُسجل ما علق بذاكرة من عاشوا الحدث وعايشوه.
مشاهد المسرحية السبع التي تروي بطريقة بارعة وذكية جداً تفاصيل الحياة اليومية في ريف الجزائر خلال الاِحتلال الفرنسي والثورة التحريرية تحديداً من خلال مرويات الجدّين، كان فضاءها المكاني هو الريف، وهو تأكيد على دور الريف في الثورة التحريرية بل وفي نضالات الجزائريين عبر العصور، والمعاناة التي لحقت بساكنته على اِمتداد سنوات الكفاح التحرّري، وبالتالي فإنّ تركيز بودشيشة على إحداثية المكان الّذي اِحتوى عمله المسرحي، جعل المسرحية تبتعد عن هواجس التوثيق التاريخي والأحداث الكُبرى، والتي عادةً ما تحتل مركزا هامًا في اِنشغالات الكتابة التاريخية.
الجميل أيضا في تلك اللحظات التاريخية النضالية التي قدّمتها المسرحية هو عدم تركيزها على النُّخب والقيادات العسكرية والوفود الثقيلة الممثلة للثورة أو المفاوضة باِسمها، كما عهدناه في كثير من كُتب التاريخ أو حتّى المسرحيات والأعمال الأدبية والفنية عمومًا، إنّما كانت غوصًا في عُمق المجتمع الجزائري الريفي البسيط، أين تلقت الكثير من الأُسر أعباء الثورة التحريرية وشاركت فيها المرأة إلى جانب الرجل.
اِنطلاقًا مما سبق، فإنّنا لا نستهدف نقد العمل أدبيًا، إنّما سيقتصر على بيان واستنباط بعض القيم الثورية التي حملتها الثورة التحريرية، مع التركيز على مسألة كتابة تاريخ الثورة التي لا تزال تعاني الكثير من العقبات.
1 - التاريخ والمسرح...
أي علاقة؟
التاريخ مادةً خام ومنبع لا ينضب، تدور حوله جهود المؤرخين والفنانين والأدباء. والمسرحيون بدورهم اِغترفوا منه واستثمروا فيه، فظهر المسرح التاريخي الّذي يُجسّد أحداث ووقائع تاريخية بارزة في حياة الأُمم والشعوب، ويُبرز الرموز والأبطال في قالب فنيّ إبداعي، بغض النظر عن كيفية التعامل معها وتوظيف الخيال والأسطورة، لأنّنا لا نُناقش هنا تلك القضية المثيرة للجدل حول طريقة توظيف التاريخ، إذ يذهب قطاعٌ واسع من المؤرخين إلى أنّ توظيف الفنانين والأدباء للتاريخ هو تشويهٌ ومسخٌ له وتحويرٌ للحقيقة، بينما يُبرر الفنانون ذلك بضرورات الكتابة الفنية الإبداعية التي تستدعي تقوية النصّ، ويُعبّر اِسكندر دوماس الأب عن هذا الاِتجاه بقوله: «التّاريخ من يعرفه؟، إن هو إلاّ مسمارٌ أشجب فيه لوحاتي»، تعبيراً منه عن حريته في التصرف بالمعطيات التاريخية...
والمسرحي الّذي يستلهم من التاريخ مدفوع بالبحث عن إنتاج نصوص قابلة للتمسرح بنكهة القداسة التاريخية، فضلاً عن الأهداف التربوية التي قد تكون متوخاة من هكذا توظيف، بحيث يكون المسرح شكلاً مختلفًا من أشكال تبليغ التاريخ، ونقده وإسقاطه على الحاضر كذلك.
ومسألة علاقة التاريخ بالمسرح تناولها العديد من الكتّاب بالدّرس والتحليل، فـ»ملتون ماركس» يرى أنّ المسرحية التي تتخذ من التاريخ مصدراً لها هي: «محاولة جدية لإعادة بناء حياة إحدى الشخصيات التاريخية، أو أحد العهود التاريخية، أو قسمًا منها، وإبرازها في شكل مسرحي، وكاتب التمثيليات التاريخية ينتقي كلّ شخصياته أو معظمها من بين صفحات التاريخ، ويضيف إليها أخرى من مخيلته ليحسّن قصته ويقوي أثرها»، بينما يرتقي «جورج بوشنار» بالمسرحي إلى مرتبة أعلى من المؤرخ، ذلك أنّه يُعيد خلق التاريخ مرّةً أخرى، من خلال غوصه في حياة أحد العصور بدل تقديم سرد جاف عنه.
إنّ طرح «بوشنار» لمسألة دور المسرح في تقديم التّاريخ بأسلوب جديد هو مهمة المؤرخ أوّلاً قبل المسرحي أو غيره، خاصة في ظل المناهج التاريخية الحديثة التي أصبحت تعمل على إعادة قراءة التاريخ في ظل المستجدات الراهنة، وبذلك فإن التاريخ لم يبق حبيس ماضيه، إنّما حاول تقديم نفسه بشكلٍ متجدّد من خلال أعمال الكثير من المؤرخين الذين أدركوا هذه الضرورة.
إنّ مهمة الكاتب المسرحي هي إنتاج عمل إبداعي فني بعيداً عن التقييدات التي تضعها مناهج البحث التاريخي، بينما المؤرخ ملزم باِحترام قواعد الكتابة التاريخية، وإنتاج عمل علمي أكاديمي يخدم الحقيقة التاريخية الموضوعية، لكن رغم ذلك نحن لا نُبرر التمادي في التلاعب بالحقائق التاريخية وتزويرها، ويبقى على الكاتب المسرحي تقديم عمل فني يُحاول من خلاله الاِلتزام ما أمكن بالحقيقة التاريخية مع اِستفادته من هامش التعامل معها لما تقتضيه العملية الإبداعية. عالميًا، يُعد وليم شكسبير (1564-1616) من أهم المسرحيين الذين وظّفوا التاريخ في مسرحهم ببراعة كبيرة، أمّا في العالم العربي فقد بدأت صلة المسرح بالتاريخ منذ نشأة حركة التأليف المسرحي فيه، إذ بدأ توظيف التاريخ في المسرح منذ منتصف القرن التاسع عشر مع رواد المسرح العربي كمارون النقّاش وأحمد أبو خليل القباني، مروراً بتجارب توفيق الحكيم وأبو الوهاب أبو السعود ومراد السباعي وسعد الله ونوس.
وفي الجزائر عمل المسرحيون الجزائريون على توظيف التاريخ في مسرحهم منذ فترة الاِحتلال الفرنسي للجزائر، وتنوعت الموضوعات التي اِستلهموها من تاريخ الجزائر القديم وتاريخ إفريقيا والتاريخ الإسلامي، فهناك من أولى عنايته بالشخصيات التاريخية، فيما ركّز البعض على اِستحضار الوقائع والأحداث التاريخية، وتميزت مسرحيات هذه المرحلة بتوجهاتها الإصلاحية والتربوية والتهذيبية لأنّ كُتابها ينتمون إلى جمعية العُلماء المسلمين الجزائريين أو يتفقون معها في نهجها.
2 - الثورة وكتابة تاريخها في مسرحية «المجاهد الصغير»
يمكن اِعتبار أحمد بودشيشة من المؤلفين المسرحيين الذين يحملون رسالة هادفة مشبعة بالقيم الوطنية الراسخة في عقيدته، فحاول من خلال مسرحه الاِنتصار لمبادئه، ويبدو أنّ التاريخ الوطني لم يكن في نظره مجرّد خزّان من القوالب والأحداث التي يعود إليها كلما أراد بناء عمل يستند للتاريخ، لكنّه كان يرى فيه إشعاعًا للقيم الثورية والوطنية التي حملها الجزائريون طيلة مسيرتهم التحرّرية، ورأى بأنّ هذا التاريخ يجب أن يُكتب، وبالتالي اِنتقل من دور توظيف التاريخ إلى التوعية والتحسيس بضرورة كتابته وترسيخ مبادئه، وغرسها في نفوس الناشئة.
وقد تنوع توظيفه للتاريخ في مسرحيته «المجاهد الصغير» من خلال اِستحضار الأحداث التاريخية التي كانت الأرياف مسرحًا لها خلال الثورة التحريرية، وصوّر من خلالها البطولات والتضحيات التي قدّمها المجاهدون، كما اِستحضر شخصيات تاريخية، اِختار أن تكون بسيطة، وهذا الاِختيار يحمل أكثر من دلالة، في مقدمتها أنّ المضطلعين بالعمل الثوري لم يكونوا فقط من الزعماء البارزين بل هي مسؤولية تحملها الكثير من الوطنيين المغمورين، وهي نفس الدلالة التي حاول أن ينقلها من خلال توظيفه للعنصر النسوي ممثلاً في الجدة.
2 - 1 التاريخ والقيم الثورية... طبيعة الاِستحضار
اِستحضر بودشيشة في مسرحيته جملةً من الأحداث التاريخية، التي كانت بمثابة ديكور للحياة اليومية خلال الثورة الجزائرية، فصوّر يوميات المجاهدين في الريف الجزائري، حيث مثّل الجد والجدة إحدى مصادر التاريخ الّذي ينقل أحداثه للأحفاد (الأجيال القادمة) بطولات المجاهدين وتضحياتهم وبطش الاِستعمار وانتقامه وعمليات القنبلة التي تتعرض لها القرى...، كما رافق الجد أحفاده لتعريفهم ببعض المعالم كمخابئ المجاهدين التمويهية.
والحديث عن الثورة يجرنا إلى التطرق لبعض القيم التي حملتها، والتي جسّدت الأبعاد الاِجتماعية والثقافية للمجتمع الجزائري، لذلك جاءت المسرحية متضمّنة لجملة من القيم التي حملتها ثورة نوفمبر 1954، ومنها التشارك والتكامل في أداء الأدوار الثورية، كمشاركة المرأة في الثورة التحريرية إلى جانب الرجل، من خلال حرصها على توفير الحاجيات والمؤونة للمجاهدين، والحرص على سلامتهم، حيث كانت تسهر على تأمينهم، متحملةً جراء ذلك الكثير من الإهانات والتعنيف.
كما أبرزت المسرحية قيمة الأرض ورمزيّتها وارتباط الجزائري بموطنه رغم قساوة الظروف وبطش الاِستعمار، وصوّرت هذه العلاقة الحميمية بين الإنسان القروي وبيئته في عدّة محطات من المسرحية، فالريفي الّذي عاش الثورة التحريرية يرى في كلّ جزء من قريته وفي كلّ ركن من بيته نصيبًا من ذكريات التاريخ والنضال، وكلّ ما هو موجود يُذكّره ببطولات المجاهدين.
صوّرت المسرحية أحداثًا ذات دلالة، كالولادة في الأجواء المضطربة حيث الحصار الاِستعماري للقُرى والمداشر، كما يقدم لنا هذا الإبداع المسرحي سمة من سمات الوطنيين الجزائريين، وهي التضحية والمغامرة بالنفس من أجل الحفاظ على أرواح المجاهدين، حيث اِضطر الجد إلى الهرب حتّى يلحق به الجيش الفرنسي، وهو ما يسمح للمجاهدين المختبئين بتأمين خروجهم من القرية.
وإذا كان الجد «عيسى» ضحّى من أجل سلامة المجاهدين، فإنّ هؤلاء ضحوا من أجل الثورة واستمراريّتها والحفاظ على أسرارها، وذلك من خلال رفضهم الاِستسلام والخروج من «المطمور» بعد اِكتشاف أمرهم، مفضلين الموت على الاِستسلام، وحفاظاً على المعلومات المتعلقة بالثورة اِضطروا لحرق كلّ الوثائق والمستندات التي كانت بحوزتهم.
الكثير من الصور والقيم المرتبطة بالحرب حملتها المسرحية منها أنّ «الحرب خدعة»، و»الشعب هو البطل»، تعبيراً عن مشاركة كلّ الفئات الاِجتماعية في الثورة، ونفيًا لما تحاول بعض الجهات التأسيس له من بطولات وزعامات وقفز على تضحيات البسطاء.
ويُبرز العمل أيضا صورة العميل الّذي قرر الوقوف إلى جانب العدو في وجه إخوانه، ودوره في إيصال المعلومات المتعلقة بتحركات الثوّار، ونظرة الاِحتقار والدونية التي اختصها به الجزائريون. لقد حملت المسرحية الكثير من القيم والمبادئ الثورية، لا من باب التمجيد والتقديس، إنّما قُدّمت كنماذج للاِستلهام.
2-2 إشكالية كتابة تاريخ الثورة الجزائرية
المعروف أنّ أغلب الكتابات والأبحاث المنجزة حول الثورة التحريرية أُنجزت من الطرف الفرنسي –وهذا ليس قدحًا في كتاباتهم، فكثير منها يتميز بالعلمية والموضوعية-، ويجد المؤرخ الجزائري صعوبة في التعاطي مع الحدث التاريخي المرتبط بالثورة التحريرية، نظراً للعراقيل التي تحد من جهوده البحثية، كمسألة الأرشيف سواء ما تعلق بذلك الموجود في فرنسا أو حتى بالجزائر، إضافة إلى شح المذكرات التاريخية والشهادات الحية وعدم تفعيل مراكز البحث والمخابر الجامعية.
وإذا كانت دراسة التاريخ أكاديميًا حكراً على المتخصصين والباحثين في التاريخ، فإنّ الاِستلهام منه –كما سلف ذكره- وبث قيمه وترسيخها في الأجيال المستقبلية ليست مسؤولية المؤرخ لوحده، إنّها مسؤولية مشتركة بين المؤرخ والأديب والشاعر والمسرحي والممثل والرسّام...
وبالعودة إلى النصّ المسرحي محل المعالجة قد يبدو للقارئ أنّه نصٌ بسيط بما أنّه موجه للفتيان، لكنّه في حقيقة الأمر يحاول بشكلٍ ما أن يُناقش قضية كتابة تاريخ الثورة وضرورة تدوين المذكرات التاريخية والشهادات الحية لأولئك الذين عاصروا الثورة التحريرية، فرغم أنّ العائلة قصدت الريف لقضاء جزء من العطلة المدرسية، إلاّ أنّ الأطفال جاؤوا في مهمة أسمى وهي الحصول على معلومات تاريخية لتوظيفها في بحوثهم المدرسية، وهي إشارة إلى ضرورة كتابة تاريخ الثورة بطريقة مُهيكلة تعتمدُ على المصادر، وهذه العملية تضبطها وتوجهها وتُساهم فيها مؤسسات بحثية وعلمية. وأدوار المسرحية مقسمة على هذا الأساس، فالجد والجدة يمثلان أحد مصادر الكتابة التاريخية وأحد الرموز الثورية، المدركة لضرورة إيصال الحقيقة التاريخية للأجيال، واعتباره واجبًا، وهم بذلك يشعرون بالتقصير، ويرون أنّه لا يوجد ما يمنعهم من ذلك، فالجد الّذي يعتبر شخصية بارزة في المسرحية يقول: «ليس لدي عمل حقًا.. فأنا جردت نفسي من كلّ اِلتزامات المزرعة بمجرّد ما رأيت سيارتكم قادمة إلى هنا للتفرغ لكم»، وهي إشارة إلى الأهمية التي يجب أن يُوليها المجاهد للجيل الحاضر، وسعيه لتبليغ رسالة أوّل نوفمبر والإدلاء بالحقائق التاريخية، والجدة بدورها تعتبر عدم تبليغ حقائق التاريخ للأجيال بمثابة الخيانة، حيث تقول: «إنّها لخيانة عظمى أن نموت، ولم نبلغ أمجاد ثورة نوفمبر إلى الأجيال القادمة».
في المقابل، الأحفاد يمثلون الجيل الحاضر، وخاصةً جيل المؤرخين والمهتمين بالتاريخ، والقلم هو وسيلتهم، حيث جاء على لسان أحد شخوص المسرحية وهي الطفلة فضيلة: «أُخْرج دفتري وقلمي.. لأنقل ما يسرده جدي إلى زملائي في المدرسة.. لقد وعدتهم بذلك»، إنّه تعبيرٌ عن مسؤولية المؤرخ في تدوين الحدث التاريخي من مصدره وبكلّ موضوعية.
هذه الإشارات الواردة في متن المسرحية وغيرها كثير، هي تعبيرٌ عن التواصل بين جيلين عاشا مرحلتين تاريخيتين مختلفتين، جيل الثورة وجيل الجزائر المستقلة، ومن جهة أخرى تصور المسرحية هاجس الخوف الّذي ينتاب جيل اليوم من فقدان الشخصيات التاريخية التي لم تُدلِ بالحقائق التاريخية ولم تدوّن مذكراتها.
ولم يركز بودشيشة من خلال نصه على القيمة التاريخية للشهادة الحية فقط، بل ركّز رمزيًا أيضا على القيمة المكانية، وإشكالية الحفاظ على المعالم التاريخية المرتبطة بالثورة، خاصةً مع ما يمسّها اليوم من إهمال حيث أصبحت أمكنة لرمي القاذورات، وأبرز من خلال عمله المسرحي جهل البعض بقيمة هذه الآثار الدالة على التضحيات التي قدمها الجزائريون في سبيل حريتهم، حيث جاء على لسان الأب رداً على تساؤل «فضيلة» عن إهمال إحدى المعالم قائلاً: «وما الفائدة من ترميمها؟».
ومن الضروري الإشارة إلى أنّ فِعل الترميم نفسه يحمل أكثر من دلالة، فهو لا يعني به ترميم المعالم الأثرية والآثار التي نال منها الإهمال فقط، بل يعني أيضا بناء وتشييد الوطن، وهو لب العنوان الّذي تحمله المسرحية «المجاهد الصغير»، فهذا المجاهد الصغير هو الأجيال اللاحقة التي يقع على عاتقها بناء وتشييد الوطن الّذي فقد من أجل تحريره عدداً كبيراً من الشهداء، ولن يتم البناء إلاّ بأمرين «السواعد القوية والعقول النّيرة».
المسرحية بعيدة عن الخطاب التاريخي الأسطوري الّذي يمجد بعض الشخصيات والأحداث التاريخية، حيث تناولت شخصيات هامشيّة بسيطة، وعرّفت بأحداث تُعتبر من يوميّات النضال ضدّ الاِستعمار، وهي الأحداث التي تتكرر بشكلٍ دوري في عالم الريف.
وما يُؤكد براعة المؤلف، هو فتحه لباب الاِفتراضات في محاولة بناء الحقيقة التاريخية –رغم أنّ عمله فني-، حيث يُخاطب الجد أحفاده: «اعتبروا أنفسكم مجاهدين.. وكان الظرف يحتم عليكم أن تبحثوا عن مكان تلتجئون إليه إذا ما داهمكم العسكر»، فالمسرحية طرحت إشكالية الغوص في القضايا التاريخية ومناقشتها بجرأة وموضوعية، كما يظهر في ثنايا المسرحية الشغف بمعرفة التاريخ الحقيقي للثورة التحريرية بعيداً عن التاريخ الرسمي.
والمسرحية تُشيرُ إلى صراع تقمص الشخصيات، بين من يريد أن يستحوذ على دور البطل، وبالمقابل يحاول ترغيب غيره في دور الخائن، وكلّ هذه الإشارات غير بريئة من الدلالات والإيحاءات التي يحاول الكاتب إيصالها للمتلقي.
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن أن نطلق على المسرحية صفة الكونترابنطية –كما تقول الناقدة نعاد صليحة-، وهو النوع الّذي لا يُعنى بالتركيز على تسلسل الحدث الزمني بقدر ما يُعنى بإعطاء الحدث أكبر قدر من الدلالات المتعارضة، فيستهدف ربط العمل الفني في تسلسله بمستويات متعدّدة ومتناقضة من التفسيرات عن طريق اِستخدام أنسقة رمزية واستعارية، حيث يدرك المتلقي أنّ المعنى لا يكمن في القصة ذاتها، بل هي مجرّد حامل لعِدة تفسيرات متنافرة.
وعليه، يمكن تصنيف المسرحية ضمن الإحياء غير المتخفي لقضايا التاريخ الوطني، حيث راعى فيها المؤلف الشروط الزمكانية وطبيعة الأجيال الجديدة بروح معاصرة، وبذلك فهي تندرج في إطار المسرح الرمزي والذهني (مسرح المشكلة أو القضية)، الّذي يعمد إلى معالجة القضايا الوطنية المرتبطة بالتاريخ الوطني وإفرازاته الآنية بنظرة مشبعة بالتأمّل والرؤى النقدية الجريئة والعميقة، وهو ما يُؤكد الوعى الحسي للكاتب الّذي جعله ينخرط في قضايا وطنية بأسلوب فني إبداعي، فاستطاع تقديم عمل مسرحي للفتيان راعى الاِعتبارات التربوية والفنية والجمالية والسلوكية لتعزيز العملية التربوية، حيث حاولت ترسيخ جملة من الأبعاد التربوية لدى الناشئة، معتمدة أسلوب التجريد في تصوير الزمان والمكان.
إنّ هذا العمل المسرحي ليس تاريخيًا فحسب، بقدر ما هو متعلق بواقعنا السّياسيّ والاِجتماعي والثقافيّ الذّي نحياه اليوم، فإلى جانب تناوله لقضايا التاريخ والقيم الثورية والعلاقات داخل الأسرة يحاول ترسيخ مبادئ الحوار والديمقراطية والتداول على السلطة.