يبدأ السيسبانس من الجملة الأولى في الإهداء: نبي الانتظار يقول «ها قد التقينا مرة أخرى»، فهو لم يعد ينتظر أو أنه يحلم بألا ينتظر، لكن الذي يلتقي معه هو «الجسد النحيل» الذي ما زال صامدا وهذا هو النوع الراقي من الانتظار المترف، الانتظار حتى آخر الفجائع.
قراءة: عبد السلام يخلف
شيء من التواضع يجلب الانتباه، ، يكتب الأمين مقدمة لديوانه بعنوان «كأني شاعر» ثم يحدد العتبات التي تخلق الشاعر وتجعله يرى «جوع الذباب على الصحن وحزن عمود الإنارة في ليل الشتاء الطويل».
هذا الذي يقول «كأني شاعر» يجلس مع الشعراء الكبار في المقاهي الشعبية...ليس حقيقة بل في الشعر، يلتقيهم في القصيدة وفي الدواوين ويقترب من حكاياتهم ويحدثونه عن أسرارهم. الاقتراب من الشعراء والجلوس إلى موائدهم هو اصغاء لروعة الوقت وهو يُحدث جلبة غير مسموعة على حواف المدائح وشرفات الغزل وردهات الرثاء.
«حاولت أن أكف عن الحزن، لكن الحياة تأبى ذلك»...لكنه يقر بأن الشعراء «ما زالوا يلوحون للعالم بالورد والياسمين» وهذا يكفي كي يقول لنا أنه ونكاية في الحزن سوف يغني ...لأن الحزن في عرف الشاعر قَدر مهرّج لا يلبس شكل الكذب أو المفاجأة بل «الحزن يعرف أهله/ من دقة الأبواب» لأنه يسكنهم ويحتويهم ويعرف مكامن الفجائع فيهم وزوايا النكد لكن الشاعر يصر على القول: «أنا صامد بمواجعي/ أنا سيّد بخرابي».
يجيب الشاعر عن سر النحول وسبب الجسد الضعيف الذي نلتقيه في المقدمة: «هل تذكر الآن الوجوه جميعها/ مرت بلا أمل الرجوع/ أتراك كم أصاب نحولنا/ عطش وجوع». عرفنا أن النحول سببه الوجوه التي اختفت من المشهد وراح عطرها وابتساماتها وغناء أعراسها وقهقهاتها المترفة وامّحى كل شيء وهذا ما يدفع الشاعر للتساؤل: «هل جسدي سيكفيني لأبقى صامدا؟/ والحب طير جائع يقتات من صحفي ومن بدني؟».
تبدأ مأساة الانتظار في الجملة التي تقول: «ترى عاشقا/ شاخ طفل المساء على قدميه/ ولا زال ينتظر» وهذه الروح التي تحولت إلى أنقاض، هل ستسير مجددا نحو الأمل وطرح الأسئلة الوجودية كي تعلو مجددا مثل الأوراق التي لها أشرعة؟ ويبدو أن أقوى مقطع يتناول محور الانتظار في هذا الديوان هو حين يقول الشاعر «ترى ميتين/ يعيشون من بعد أن تنتهي المجزرة/ ترى آخرين/ أتوا باسمين إلى المقبرة»فما الذي سينتظرونه إذا ما أسندت لهم هواية أو هوية الانتظار؟ لن يفرّقوا بين الذهاب للعرس والتوجه نحو المقبرة لأن المهزلة أكبر من أن تفصح عن متاهاتها ولغة جنودها وسحر عرافيها وألوان بهلواناتها. تعب الناس من محاولة التعرف على الأشياء لأنهم بدورهم أصبحوا بعض تلك الأشياء وفقدوا اللغة والعقل وأدوات المعرفة وفهم المصطلحات والفرق بينها: «وحدي على باب المحطة واقف/ فيجيء كل الغائبين/ إلا قطار التائهين» وهذا هو الانتظار القاتل، انتظار ذاهب وَعَد بالعودة لكنه لا يعود، ليس لأنه يبغي أو ينوي ذلك بل لأن مركبته تاهت المأساة التي أكبر من الانتظار في هذا الديوان هي الكتابة بحيث يقدم الشاعر نفسه في شكل الطريدة الملاحقة التي تختبئ فيما تبقى من حزن، في شكل الجندي المجروح الذي يجر آخر مجرّته لينقض على الكواكب التي في باله وهو يقول: «هذا أنا بفجيعتي/ رجل بروح كتاب». بدأنا نعرف سبب الجسد النحيل والحزن المشحوذ، إنه المعرفة، (La lucidité) التي تحدث عنها الفيلسوف ايميل سيوران أو «العقل» الذي تحدث عنه المتنبي ذاك الذي يقود للشقاء. سبب الألم بالنسبة للشاعر هو الكتابة والوعي والفكر والعقل والتخمين الذي يجمعها في قوله «وأنت هنا ملك في حياتك/ ما دمت وحدك في شرفات الكتابة».
أما السياسة فعلى شاكلة الفيلسوف مونتيسكيو الذي قال «إذا أنت لم تهتم بالسياسة فإن السياسة ستهتم بك» وهذا ما حدث لشاعرنا في هذا الديوان بحيث وقف بين جَمْعيْن: النَحْنُ والهُمْ لأنك حين تلتفت يقول لك: «ترى من يشقون يما/ لأجل النجاة/ ترى من يمدون جسرا/ لأجل الغزاة» وهي لعبة الوطن الرهينة بين من يهرب على قارب الموت ليحيا ومن يسلم الأرض والعرض للوافدين الغزاة كأن شيئا لم يكن وكأن الأرض ملك له ولأشباهه. تعود تلك الجدلية بين الشاعر وبلاده، يمد يدا كي يمسك بها حتى لا تسقط في يد الغزاة، يريد إنقاذ روحها التي يحب ويقول الشاعر: «له بلاد تشظت من مدامعه/ إليه يسحبها روحا وتسحبه» كما أنها قطعة منه يحوّلها إلى مسكن ويقول «بلادي خيمة/ أينما وليت أحملها معي» لأنه لا يهرب ولا يركب القارب ولا يبكي بل يقاوم باللغة العاشقة المتوثبة التي تستنكر دون وجل: «تموت القلوب من ولاء و لا تموت جوعا» لثورة على الطاغية والظلم والخنوع الآثم وبالصراحة الكافية يعلي صوته: «أنا مثل وجهي تراب نقي/ فلا جنرال تمشى عليه/ ولا دهستني النعال».
كقارئ، وددت لو يستمر ذاك النص في التنفس أكثر لأنه نص ثائر وغاضب، وددت لو يطول أكثر ثم أنه انتهى بجملة تقول «حملت على ظهري صليب قضيتي»، كم وددت أن ينتصر الشاعر المحارب المقاوم السائر العابر المثابر الثائر على الظلم ويرفع الصليب عاليا ويقرع كل الأجراس دون أن يلتفت إلى الوجوه الحبيسة والتعيسة الصدئة.
في كل هذا يأتي في النهاية بصيص من الأمل ثم يتحول إلى شعلة تنير الحكاية من بدايتها. على شاكلة مالك حداد الذي عنون روايته «رصيف الأزهار لم يعد يجيب» نجد الشاعر الأمين حجاج ينقلب على المألوف ويقرر ألا تنتهي القصة بالحزن وبعض الدموع وشيء من الشكوى فيقول: «قد قيل لي قبلا/ بأن الصبح ينظرنا هناك على رصيف مزهر»، هل هو التناص أو الاقتناص أو العدوى الجميلة أو الاستهزاء بالأرصفة التي غلبت الشعراء؟ لا يطيل الشاعر كي يؤكد لنا رأيه في حزن الشعراء وعجزهم أمام الأرصفة التي لا تجيب فيقول منتصرا: «تقدمي...نستقبل الصباح في رصيفنا المزهر» وهذا نكاية في الحزن والانتظار.
لو نتمعن جيدا في الكلمات التي استعملها الشاعر وقوتها من خلال الارتدادات في الأعداد لوجدنا أن كلمة الانتظار (أنتظر...) تكررت 9 مرات وكلمة الفرح صفر مرة والسعادة صفر مرة والحزن 19 مرة والغربة 17 مرة والوطن 10 مرات والبلاد 22 مرة حتى أنه يبدو أن هذا ديوان للبلاد التي يخاف عليها الشاعر (الشعراء، الشعر) الذي ذكر 29 مرة والغربة 17 مرة. إنه الخوف من الغربة الحمقاء بعيدا عن البلاد التي عانت ما عانت ولا يود الشاعر مغادرتها إلى «هناك» التي ذكرت 8 مرات والسقوط في الحزن الذي ذكر 19 مرة. إن الخوف الكبير في هذا الديوان هو من الانتظار الذي ليس بعده محطة، إنه من الكلمة الأكثر تكرارا والأكثر حضورا في المشهد وهو «الموت» الذي ذكر 32 مرة. لقد عبّر الشاعر عن ذلك حين قال في إحدى الجمل الصوفية العامرة بالدعاء والأمل وشيء من المباغتة للحواس: «ألا فاحمل الدهر من فوق ظهري/ لكي استريح». إنه الاعتراف الأخير أن الانتظار مجرد ارتجال قبل انتهاء المشهد.