ينفر الإنسان بطبعه من فِعل الشر، وعندما يرى معاناة الآخر يحس بالشفقة اِزاءه، والشفقة هي التي تدفعنا غالبًا إلى إنقاذ أولئك الذين هم في مأساة أو فاجعة، وهنا أستأنس بعبارة رشيقة للفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو" حينما قال: "يجب على الإنسان أن يتبع قاعدة مركزية مفادها: اِبحث عن خيرك دون أن تؤذي الغير ما أمكن"، فنحن نفكر في مسألة أصبحت مصيرية وملغمة في الوقت ذاته، فالزمن الّذي نعيشه فكراً وسلوكًا وقيمًا يحمل في طياته الكثير من المفارقات الكُبرى، تنحصر خصوصاً في اِنتشار رهيب لرؤى اِنغلاقية وشيوع ثقافة الكراهية كنمط وجودي مُرعب يحمل في جبته أسئلة حارقة: كيف يمكننا أن نُزيح تلك الكُتل من الحقد والكراهية؟ كيف يمكننا أن نُزيح هذا الكم الكبير من اللا اِعتراف؟
* زين العابدين شنافي/ باحث في الفلسفة -جامعة الجزائر2
المشكلة الأساسية التي تُعاني منها الإنسانية ليست مشكلة عقل أو أنوار وإنّما هي مشكلة محبة، على اِعتبار أنّ المعرفة لا تنشرها الأحقاد والضغائن، بل تنشرها النفوس المُحِبة، وحسب هذا التمشي علينا أن نتعاضد من أجل نبذ كلّ أشكال الكراهية، والمُراهنة على إرساء لغة الاِعتراف والتأثيث لثقافة العيش المُشترك في أُفق الاِختلاف، وتوطيد العلاقة بين الأنا والآخر المُختلف، من خلال تفعيل فكرة الحوار والتعايش والتسامح، هذا الأخير الّذي لم يصبح اليوم فضيلة فحسب، بل باِعتباره ضرورة وحتمية اِجتماعية وثقافية وسياسية، من أجل العمل على صيانة واقعنا من المخاطر التي تكتسح وجودنا ومكتسباتنا وتطلعاتنا ونبذ كلّ مظاهر الإقصاء، بل ومد جسور التواصل والحوار بوصفه دربًا معرفياً وأفقًا أنطولوجيًا للتثويب جهة الحضارة في صورها المُشرقة، أو على حد تعبير المفكر الألماني "هانس غيورغ غادامير": "هو الأفق الوحيد الّذي ما يزال مفتوحًا أمامنا ومهيئًا بصورة أكثر عقلانية للنظر في مستقبلنا، وهو الّذي يقود بكلّ تؤدة وهدوء إلى مستقرنا المعرفي من أجل التأسيس لمجتمع المعرفة والعقل والتواصل".
نحن بحاجة ملحة إلى التواصل مع غيرنا والعيش معًا في أُفق الإنسانية، علينا أن نُزيح حالة الصراع والحقد والعداء والتوجه رأسًا إلى أفق التعايش الطبيعي والتسامح والاِنفتاح والاِحترام، أن نختلف معناه أن نخرج من دائرة الرؤية الوعظية المُتعالية إلى عالم جوهري يدفعنا إلى الاِنخراط في أشكال مختلفة من التجارب الحيوية مع من هو مختلف عنا، فنحن نتواجد مع آخر يفترش معنا نفس الأرضية الفكرية والعقدية والاِجتماعية ونفكر في نفس المشكلات التي تُؤرقنا، فمن منطلق هذا التمشي نتجه صوب هدم أبواب الاِنغلاق، باِعتباره ميزة منتشرة بقوة في الفضاء الاِجتماعي والثقافي، والتي تتنزل بحسبانها عوائق غليظة تحول دون الوصول إلى شواطئ الاِختلاف وفق التوصيف الرائع لأستاذنا البشير ربوح رحمه الله، ففي خضم هذه الأفكار نقحم ذواتنا في مجاراة قِوى الاِنغلاق والصراع معها، والتي طال أمدها ردحًا طويلاً من الزمن، ومازالت معجميتها اللغوية قوية ومغرية.
الدرب الّذي نسلكه مُتعلق أساسًا بجمالية العيش المُشترك وسعادة التحاور مع غيرنا، دون أن يفقد المرء هويته ونمط وجوده في هذا العالم، فتبرز قدرة الإنسان على تغيير اِجتماعيته الطبيعية وتحويلها إلى اِجتماعية معقلنة وواعية، منظمة حسب قاعدة الأنس والمحبة على حد تعبير المفكر التونسي القدير فتحي التريكي، الّذي عبر عن تجربة فعلية عن العيش سويًا، أو العيش المُشترك ضمن التآلف والاِنسجام والوفاق المُمكن بين الأشخاص، إنّها تجربة ودرب فريد من نوعه يعبر عن إنسانية قوامها حق الاِختلاف والاِحترام والمحبة، وفضاء يُتيحُ للإنسان فرصة التحرّر من مصائب القرن الجديد الموسوم بالوحشية التي تتشكل ضمن الأحادية والأنانية، بحسب قولة دريدا. فيبرز الاِختلاف والتعدّد بوصفهما مقومين رئيسين في التفاعل الإيجابي والتعاون البناء، من أجل نسج علاقات حقيقة وتجاوز كلّ الأوهام والهواجس، أن نعيش مع بعضنا البعض كروح للمحبة بين الأنا والآخر، يجسد تجربة إنسانية متميزة لا يمكن اِعتبارها وصفة جاهزة، وإنّما هي رؤية وإرادة وفعل من أجل التفاهم والتلاقي مع الآخر المُختلف عنا، والتوجه نحو فضاء حقيقي نُؤكد من خلاله قيم التنوع والتعدّد والاِختلاف، باِعتبارها قوانين الأرض، ووضع النّاس جنبًا إلى جنب، فلا أحد مِمن هو موجود بمفرده.
أن يحيى الإنسان هو أن يوجد في قلب أشباهه وفي حضن المدينة الإنسانية، أو الفضاء الّذي يتقاسم فيه النّاس مصالحهم وهمومهم وتطلعاتهم وهم يعيشون الأرض ويسكنون الكون، فهروب النّاس من هذا الفضاء الجميل أضحى تصحره قدراً لا مفر منه، إضافةً إلى ذلك فإنّ هذا التصحر يحمل بين طياته خطر بعض الزوابع التي تأتي على كلّ مظاهر الحياة وربّما بشكلٍ مُفاجئ في كثير من الأحيان، وقد كان ذلك حال هبوب عواصف الكراهية والحقد والعداء، التي تبقى من أشرس الزوابع التي تحملها.
بهكذا تصور، فنحن نُؤثث لدربٍ جديد نرغب من خلاله تطوير العلاقات الاِجتماعية والإنسانية، وتجاوز كلّ مظاهر العطب ومحو الأحقاد، درب ينتشلنا من القحط الأنطولوجي، ويُخرجنا من الإقامة داخل كهوف محجوب عنها النّور لنعيش حالة من التعايش الإنساني وذلك ما جسدته القولة الميرلوبونتية: "وجب أن ننظر إلى بعضنا البعض نظرة إنسانية أساسها القبول والتفهم". إذن علينا مرّةً أخرى أن نقحم ذواتنا في أُفق الاِختلاف والاِعتراف الّذي نعتبره ترياقًا لأمراضنا المُزمنة، فالوحدة والعزلة قولة مفرغة من مضمونها الإنساني والحضاري، والوطن لا يُبنى بالإقصاء والتهميش بل بالاِنشغال ببناء الإنسان والبحث عن ذوات فاعلة تعشق تأثيث النفوس وتستهجن التفاهة التي طالت إقامتها في هذا الوطن الجميل.
الاِختلاف دربٌ طريف وتجربة روحية عنوانها الاِعتراف والاِنصات والحرية اِستأنسا بالقولة السبينوزية: "إنّ النّاس الأحرار وحدهم الأكثر اِعترافًا لبعضهم البعض"، وهو ما يُحيلنا على سؤال ختام مفاده: لماذا لا نُؤثث لثقافة وطنية جميلة ونبيلة تتأسس على الاِعتراف والاِختلاف والتنوع والتعدّد في أُفق الحوار الهادئ الّذي تتجلى فيه ايتيقا الاِحترام المُتبادل؟