نشرت صحيفة الواشنطن بوست مقالا هاما عن الكاتبة والفنانة التشكيلية إتيل عدنان التي توفيت في الرابع عشر من نوفمبر الجاري عن 96 سنة في منزلها في باريس بسبب مشكلات في القلب ووصفتها الصحيفة بـ»الكاتبة الشهيرة التي حققت شهرة في أواخر حياتها كرسامة»، ويعكس اهتمام الصحافة الامريكية بالشاعرة والفنانة العالمية التي انتهت إليها في ظل عدم اهتمام في العالم العربي.
ياسين سليماني
اتبعت إتيل عدنان لأكثر من نصف قرن مهنا متعددة، كتابة الروايات والقصائد والمقالات التي تتناول الحرب والتاريخ حتى عندما كانت ترسم اللوحات وتنجز المنحوتات الخزفية التي تعكس حبها للطبيعة والكون لذلك قالت ذات مرة: «يبدو لي أنني أكتب ما أراه وأرسم ما أنا عليه».
نشأت عدنان وهي -لبنانية أمريكية-في بيروت وأمضت عقودًا في منطقة الخليج، اشتهرت بكتاباتها ثم حققت سمعة كبيرة في وقت متأخر من حياتها كفنانة، وقد تمّ افتتاح معرض لأعمالها الشهر الماضي (أكتوبر) في متحف غوغنهايم في مانهاتن، يعرض بعض أعمالها التي وصفتها روبرتا سميث الناقدة الفنية في صحيفة نيويورك تايمز بأنها «تجريدات مشعة بعناد»، كانت لوحاتها صغيرة ولكنها مثيرة للذكريات، مليئة بالصور الحية للشمس والبحر وجبل تامالبايس، المطلّ على سان فرانسيسكو.
أمّا المدير الفني لمعارض سربنتين الفنية في لندن هانز أولريش أوبريست فقال في مقابلة سابقة عنها مع وول ستريت جورنال: «من النادر جدًا أن يكون لديك شخص يقدم مثل هذه المساهمات المهمة في الشعر والفن» ووصف إتيل عدنان بأنها «واحدة من أكثر فناني القرن الحادي والعشرين تأثيراً» مضيفاً أنّ عملها «أكسجين نقي في عالم مليء بالحروب».
نشرت عدنان التي كتبت باللغتين الفرنسية والإنجليزية أكثر من عشرين كتابًا بما في ذلك مجموعات شعرية وأشارت إلى رامبو وتشي غيفارا والأمريكيين الأصليين والسكان في القدس القديمة وموسيقي الجاز، وفي قصيدتها الطويلة»الأبوكاليبس العربي» أو كما ترجمها البعض بـ"يوم القيامة العربي" عام 1980 والتي تضمنت علامات ورموزًا غير عادية في مزيج من الفن والأدب، وتتألف من 59 قسمًا، خصصت قسمًا لكل يوم يُحاصر فيه مخيّم اللاجئين الفلسطينيين «تل الزعتر» أثناء الحرب الأهلية اللبنانية.
لكنّ شهرة عدنان كانت ابتداء من نشرها لـ «الست ماري روز» (1977)، التي تعتبر واحدة من أروع الروايات عن الحرب، عاشت في بيروت في بداية الصراع وكتبت الكتاب في شهر واحد محموم، مستوحاة من روايات الصحف عن تعذيب وإعدام ماري روز بولس التي عملت مع لاجئين فلسطينيين وقتلها متشددون مسيحيون يمينيون، روت الرواية حادثة اختطافها وموتها وتناولت الصراع من منظور المدنيين بشكل عام والنساء بشكل خاص.
تنتقل عدنان بحُرية بين الكتابة والفن وهي تقول أنّ «الشعر هو هدف الحياة، والرسم نوع من الشعر يتم التعبير عنه بصريًا» كانت تقدر السرعة والعفوية في كلا الشكلين الفنيين وعادةً ما تنهي لوحاتها في جلسة واحدة ومثل رسم كلود مونيه ( 1840-1926) لأكوام التبن أو كاتدرائية روان عادت عدنان مرارًا وتكرارًا إلى مواضيع بعينها فأظهرت العديد من لوحاتها الشمس أو كوكب غامض يسطع فوق مجموعات من الألوان توحي بالمحيط والأفق، ركز المئات من الآخرين على جبل تامالبايس الذي يمكن أن تراه من منزلها حتى بعد مغادرة كاليفورنيا واصلت رسم الجبل مفتونة بشكله الهرمي وألوانه الخضراء العميقة، كان الجبل بالنسبة لها هو الغموض الساحر، ويتساءل بعض محبي عدنان عمّا إذا كانت في تلك الأيام تحب شخصًا بقدر ما أحبت جبل تامالبايس.
كانت عدنان تبلغ من العمر 87 عامًا عندما وجدت أعمالها جمهورًا عريضًا لأول مرة في معرض دوكومنتا الثالث عشر للفن المعاصر، شوهدت لوحاتها قبلها في معرض ببيروت وتمّت دعوتها لعرض بعض أعمالها في نسخة 2012 من دوكومنتا، أشهر معارض العالم في الفن الحديث والذي يقام مرة كل خمس سنوات في مدينة كاسل الألمانية وبعد ذلك بعامين ظهرت أعمالها في بينالي ويتني الذي يقام كل سنتين في نيويورك، كان اعترافا كبيرا لقيمة عدنان رغم أنّها لم تجد هذا الاهتمام ضروريا وهاما وعبّرت عن هذا بقولها: «لطالما كان لدي القليل من الأشخاص الذين أحبوا ما فعلته، وكان ذلك كافياً».
ولدت إتيل عدنان في بيروت في 24 فبراير 1925 وكان والدها قد قاد القوات العثمانية كضابط كبير بالجيش في الحرب العالمية الأولى. أما والدتها فكانت ربة منزل، نشأت ابنتهما الوحيدة وهي تتحدث اليونانية والتركية في المنزل والعربية في الشارع والفرنسية في المدارس الكاثوليكية وفي إحدى اللقاءات قالت: «لقد اعتدت أن أكون هامشية بعض الشيء وما زلت أصليّة ، وطوال الوقت حاولت أن أتعرف على مفاهيم الحقيقة التي كانت نسبية وتغيرت مثل ساعات الأيام وانقضاء الفصول».
في سن السادسة عشر تم إخراجها من المدرسة «بحجة أنني لست بحاجة إلى مزيد من التعليم لكوني فتاة» لكنها حصلت فيما بعد على وظائف غريبة وفازت بمنح دراسية وأذهلت والدتها عندما أعلنت أنها تريد أن تصبح مهندسة معمارية. قالت: «تريدين وظيفة خاصة بالرجال، عيب عليك!»
تحولت عدنان في النهاية إلى الفلسفة حيث درست في السوربون ثم في جامعة كاليفورنيا في بيركلي وجامعة هارفارد وأصبحت أستاذة فلسفة في عام 1958 في كلية الدومينيكان في كاليفورنيا التي تحولت لاحقا إلى جامعة وبدأت الرسم في العام التالي.
عادت إلى بيروت عام 1972 حيث عملت محررة ثقافية في صحيفة ناطقة بالفرنسية ثم انتقلت إلى سوساليتو في كاليفورنيا في وقت لاحق من فترة السبعينات واستقرت في باريس في عام 2012 على الرغم من تحركاتها المتكررة، قالت عدنان إنها لم تشعر أبدًا بالراحة تجاه كلمة «مستقر» وكان انتماؤها النفسي للمنزل أكثر من أي مدينة معينة، وكتبت تقول: «الكتب التي أكتبها هي منازل أبنيها لنفسي».
أعمالها الأخيرة: «الليل» وهي مجموعة شعرية مهمة كتب عنها الناقد بنجامين هولاندر في التايمز أنها «سلسلة معقدة من الانعكاسات حول الألم والجمال» وديوان «الوقت» الذي حصل على جائزة غريفين لعام 2020 وهي الجائزة الخاصة بالشعر والأكثر شعبية في كندا.
في إحدى مقابلاتها الأخيرة لصحيفة التايمز عرضت عدنان النصيحة للفنانين الناشئين ، حيث قالت إن «كونك فنانًا يعني أنك ستكون دائمًا غير آمن قليلاً وغير متأكد إلى حد ما، لأنك لا تعرف إلى أين أنت ذاهب في كثير من الأحيان، كل عمل من أعمال الإبداع هو خلق جديد».