قدّمت مسرحية المهرج للمخرج الشاب وليد عبد اللاهي عرضاً غاية في العُمق والدلالة، ديكور بسيط يتمثل في محطة قطار، في الخلف ساعة كبيرة ضوئية متوقفة عند الساعة الثانية عشرة، كرسي للاِنتظار، ممثلين اِثنين: محمّد بريك شاوش (دور المهرج)، فريد غالم (دور المخرج منصف). تحاول هذه المسرحية أن تعطينا لمحة حقيقية وسوداوية عن واقع الفنان وهو واقع شائك ومُزيّف يعج بالأسماء والألقاب التي نفختها الصحافة الصفراء التي تكتب عن واقع ثقافي مقلوب بدل أن تتحدث عن الفنانين الحقيقيين والمواهب المهمشة نجدها ترّوج لنخبة سقطت مع جدار برلين، حيث ورثنا عن الثقافة الاِشتراكية كما صورت لنا مسرحية «المهرج» مثقفاً يدّخن السيجار الكوبي ويحمل دائماً في جيبه قارورة الويسكي التي لا يقدر على ثمنها، هذه العلامات الشكلية هي التي كانت تصنع المشهد الثقافي بشكلٍ عام وهو مثقف تبهره الأضواء والمكاسب ويهتم بشكلٍ كبير بمظهره الخارجي وبإنجاز علاقات مزيفة مع المسؤولين لذلك نجد شخصية منصف (الفنان المحترف والمخرج اللامع) تنتظر كلّ مرّة هاتفا من المسؤولين عن الثقافة والفنون يخبرونه بأنّ الوزير يريد تتويجه، فالهاتف و البذلة الأنيقة والسيجار والحقيبة هي إشارات إلى المادية التي ابتلعت الفنان اليوم وجعلته يتجرد من إنسانيته وأفرغته من محتواه الفني والجمالي، ليبحث له عن تعويض في اللقاءات الصحفية ولقاءاته بالمسؤولين.. بينما صورة الفنان الحقيقي يمثلها المخرج الّذي يعمل دومًا على إسعاد النّاس بتمثيلياته في الحياة ودون مقابل مادي في الغالب، المهرج اِستطاع برغم القناع الّذي يرتديه أن يُحافظ على إنسانيته لذلك كان يجيب منصف دومًا عن سؤاله «شكون أنت؟» فيقول: «أنا إنسان»، فهناك فاصل بين المادي والإنساني في هذه المسرحية، وأعتقد أنّ هذا هو الدرس الكبير الّذي أرادت المسرحية أن تقوله بوضوح أنّ الفن هو إنساني بالدرجة الأولى وأنّ الفنان إنسان قبل اللقب.
رابح سمير/ ناقد مسرحي
على مستوى النص: اِستطاع المؤلف بمقدرة رهيبة وإبداعية أن يكتب نصاً متميزاً يفصل فيه بين الأدوار وبين المراتب اللغوية المختلفة ليستعمل الدارجة (العامية) في أماكن واللّغة الفصحى في أماكن أخرى، فالنص كُتِب بطريقة أعطت للحوار مساحة واسعة على حساب الحركة والموسيقى، وهو ما جعل المُتلقي يفهم الرسالة بشكل واضح.
ولقد اِستخدم الكاتب الجُمل القصيرة التي تُعبّر عن مواقف عاطفية عميقة جداً من قبيل «شكون أنت؟» و»أنا إنسان» التي كانت تتكرر في العرض لتعطي للفواصل مساحة يتحرك فيها موضوع جديد حيث بدأت المسرحية بالحديث عن شخصية المخرج ثمّ الحديث عن أعماله ثمّ الحديث عن حياته الشخصية والعاطفية وأخيراً موقف الصدمة مع الذات.
الأداء: كانت المسرحية في طولها تناغما واضحا بين الشخصيتين باقتدار عميق في أداء كلّ دور، وإن كنت سجلت ملاحظة أنّ عُمق دور المهرج قد طغى بشكلٍ كبير على دور منصف لأنّه أكثر مصداقية في حين أنّ شخصية منصف كانت تدور طيلة العرض حول سؤال: من هو المهرج؟ مِمَا جعلها تابعة للإجابة عن هذا السؤال؟
محمّد بريك شاوش أبان عن كفاءة عالية وقدرة رهيبة في إنجاز دوره ببراعة خصوصاً في تلك اللحظات التي تحدث فيها عن موت والدته.
سينوغرافيا العرض: يبدو أنّ إمكانيات المسرح البلدي بسطيف لم تعط للمسرحية وجاهتها السينوغرافية ولكن ما لاحظناه هو التناغم والتناسق بين المكونات المختلفة للعرض المسرحي: الديكور، الموسيقى، الكوستيم بخلاف الإنارة التي كانت نقطة ضُعف في العرض بسبب سوء تجهيز القاعة والأرضية التي لم تسمح للمهرج (محمّد بريك شاوش) باِستعمال حذاء التزلج (Les patins).
إخراجيًا: المُلاحظ لهذا العمل يجده قد غلب الجانب الوجداني والعاطفي على الجوانب الأخرى ومن خلال إقحام تجربة المسرح داخل المسرح، والإشارات العبثية لاِنتظار القطار الّذي لم يأتي، كلها ساهمت في تراكم مشاعر الخذلان مع مشاعر السقوط المدّوي لمنصف مع عاطفة الفقدان وحصل تناغم جميل بين كلّ هذا وباقي عناصر الفعل المسرحي، ولم تكن عملية الإخراج محاكاة لغيرها بل كانت بنظرة منارية (نسبة لعروض جمعية المنارة بقورصو) متميزة دائماً ضمن العروض التجريبية.
في الختام: وليد عبد اللاهي مسرحي أثبت من خلال هذا العرض كفاءة عالية وثقافة مسرحية واسعة ونجح في اِختبار تقديم عرض في مستوى عرضه الأخير (براغيث) والمُتوج بعديد الجوائز الوطنية والدولية.