محمّد جديدي
تكفي معاينة بسيطة لواقعنا الإنساني لنقف على فكرة مفادها: لا ثقافة من دون ذاكرة ولا ذاكرة من دون ثقافة. لولا الذاكرة لبقينا حيوات دون تاريخ. ولولا الثقافة لبقينا في الدرجة الأولى من مملكة الحيوان. إنّ ما يرقى بنا إلى مستوى الإنسانية التي نفخر بها صورة لا مادة، من دون أدنى شك هي الثقافة التي صنع الإنسان منها ماهيته وارتقى بها طوراً فوق الطبيعة. ولم يكن هذا الخروج من الطبيعي إلى الثقافي مُمكنًا لولا الذاكرة التي أسست للتاريخ كاِكتشاف بشري هام.
إنّ اِبتداع التاريخ هو أعظم شيء اِكتشفه الإنسان على حد قول الفيلسوف الأمريكي جون ديوي، ولولا التاريخ (التاريخ بمعانيه السردية والتدوينية والأكاديمية البحثية...إلخ) ما أمكن للإنسان أن يمر إلى مراحل أخرى صارت تُعرف بِمَا بعد التاريخ وما قبله وهي مراحل يُتخّذ فيها التاريخ مرجعاً حاسماً في تصنيف العصور والإنسان الّذي عاشها. لقد صرنا نعيش منذ اِختراعه إن صح التعبير على وقعه، وكلّ حركاتنا وسكناتنا إنّما هي لنكون في التاريخ وليس خارجه.
في بداية العصر الحديث صنف الفيلسوف فرنسيس بيكن المعارف بحسب الملكات، فكانت الذاكرة من نصيب التاريخ بأنواعه الطبيعي والمدني والديني وما إليها وكان الخيال أساس الشِّعر وجوهره ومنه الغنائي والملحمي والرمزي. أمّا العقل فهو ملكة الفلسفة والفكر ومنه اللاهوت والطبيعة والإنسان. يُوحي هذا التصنيف المعرفي باِرتباط وثيق بين الذاكرة والتاريخ حتّى وإن نزع لاحقاً البعض إلى التفريق بينهما لا سيما في البحوث والدراسات التاريخية القائمة على الوثائق والمخلفات الأثرية والأرشيف وغير ذلك من الشواهد.
التاريخ أيضاً ليس حكراً على الماضي فحسب ولكنّه ترقب مستمر نحو نهاية ما، خلاصة لتجارب الإنسانية عندما تجتمع في بوتقة واحدة ونموذج يصير ذروة التطوّر سواء على المستوى البيولوجي أو على المستوى السياسي. وفي كلّ هذا تحكمه نظرة مستقبلية وبتعبير فرانسيس فوكوياما نحن في نهاية التاريخ أو الإنسان الأخير. لا يشتغل التاريخ كمنعطف ثقافي في الزمن من دون ذاكرة، هذه الملكة في صيغتها الفردية والجمعية، تعمل ليس فقط دور التخزين والأرشيف إنّما دورها الرئيس في تجديد روح الجماعة وتعزيز إسمنت المجتمع كلما تعاقبت الأجيال وعلا النسيان مآثر الجماعة وبطولاتها، بِمَا يُجسد أسطورتها المؤسسة وهذا بالضبط ما تؤديه الذاكرة في الملاحم والقصص والفنون وما الإلياذة والأوديسا إلاّ مثال حي على هذا.الذاكرة الثقافية هي رأس المال الرمزي والمعنوي لكلّ مجتمع. وهي ركائزه التي يتخذها علامات هادية في السير وكلما اِدلهمت الخطب. وهي من دون شك الحقيقة الراسخة، إذ ما عداها من ذاكرات يتلاشى بينما الثقافية تدوم بتوارثها من قِبل الأجيال.
فهلا سألنا أنفسنا عن فحوى ذاكرتنا الثقافية؟ حتّى ندرك جيداً خارطتها ومآثرها ونعمل من ثمّ على توظيفها واستثمارها محلياً ودولياً في مجالات شتّى. وبالتالي البحث عن كيفية صيانتها وتحديث طُرق القيام بذلك كي تؤدي دورها المُنتظر؟
يسألني صديقي عن حال ذاكرتنا الثقافية، كيف هي؟
فأجيبه بأنّها عليلة ومريضة بالإهمال والنسيان واللااكتراث والجحود.
ما تمّر به ذاكرتنا وما مرت به يكادُ يكون اِستثنائياً في العالم. ويدفعني إلى التساؤل: كيف لمجتمعات لم تر النّور إلاّ بقرنين أو أقل من ذلك. وهي مع ذلك تعظم من شأن ذاكرتها الثقافية، وتُثمّن ما فيها لتجذّره لدى ناشئتها وتؤصله لدى زوارها حتّى يُخيل إلى متلقيه أنّه من أقدم الحضارات؟
كثيرة هي المجتمعات التي وظفت تكنولوجيا الإعلام والاِتصال توظيفاً جيداً في رسم ثقافتها وتقريبها من الجمهور المحلي والأجنبي، بكثير من الجاذبية والقبول، حتّى وإن كانت قيمتها الفنية والأدبية والفكرية بحسب النقاد خبراء الثقافة أقل جمالية وشاعرية.
مع ذلك فقد أفلحت في رقمنة تراثها المخطوط وعملت على التنويع في طباعة نصوصها ومآثرها الفكرية والشِّعرية، فكرّست كلّ التكنولوجيا المتطورة لتقديم أعمالها الفنّية بأحلى حلة واستمالة الجماهير وعُشّاق الثقافة.لقد عملت هذه المُجتمعات -عكسنا تمامًا- على تخصيص موارد مالية هامة لإبراز كلّ أنشطتها في الثقافة والفنون والأدب بعيون عصرية وحداثية مستثمرة في ذلك كلّ ما وفرته التقنيات الجديدة في ميدان المعلوماتية وكلّ ما أصبح مُتاحاً في مجتمعات المعرفة من وسائل متطورة، كرست الذاكرة الثقافية وحيّنتها بشكلٍ مُغاير عمّا بدا عليه قبل قرنٍ من الزمان.أيُ مستقبل ينتظر ذاكرتنا إذا لم تُواكب هذا التقدم التقني والفني الّذي طرأ على مجال الفن والأدب والفلسفة؟ وظلت تحتكم إلى أدوات تقليدية منفرة لا سيما لدى فئة عريضة من الشباب والمراهقين وقد صارت لصيقة بالشاشات في كلّ مكان وفي كلّ وقت وبهواتف ذكية تدر المعرفة بالصور والألوان وما يُبهر العين ويُشغف الأذن.
كيفَ سنقنع هؤلاء الشباب، بتاريخ ظللنا نُنسخه على أوراق بطباعة رديئة وبألوان باهتة لم تتغير منذ خمسين سنة؟ وبنصوص لم يتجدّد شكلها ولا مضمونها؟ وهل بمقدورنا أن ننخرط في بعث حركة ثقافية تنهض بالمتحف والمسرح والسينما وتُعيد للذاكرة الثقافية وهجها وتميّزها المحلي وقد صار في كثير مِمَا أنجز أفضل وأحسن بكثير مِمَا يبتذل اليوم ولا يقوى على إسعاد المشاهد؟
ما أحوجنا إلى ترميم ذاكرتنا الثقافية وصيانتها، لأنّها وسيلتنا المُثلى في التثاقف وفي التأسيس لهويتنا. وما لم نُسارع إلى إستراتيجية تُعيد لذاكرتنا الثقافية ألقها، سنظل مُهددين بشروخ تعمق جراحنا وتجعلنا غير آمنين على أمننا الثقافي. يتطلب علاج ذاكرتنا الثقافية المريضة إرادة، كتلك التي تبعث في نفس المريض ضرورة التطبيب والخروج من حالة الوهن والضعف. وكذلك الحال في مطلب الذاكرة لتفادي الثقوب والاِبتعاد عن الإقصاء واللاتسامح والإهمال العمدي والنسيان، الّذي طال خزان هويّتنا الثقافية ويوشك تبعاً لذلك علىإفراغه من كلّ محتوى ثقافي قيمي قمين بأن يكون فخراً وشرفاً لنا ولذاكرتنا الثقافية.