هل نملك مؤسسة نقدية قائمة بذاتها، مؤسسة يكون فيها النقد ثقافة وليس مجرّد اِنطباعات تخضع في بعض الأحيان لأمزجة وربّما لأمراض بعض المشتغلين في حقل النقد وفي حقل الأدب؟ أيضًا ما المقصود بالمؤسسة النقدية، وما الّذي يمكن أن تُشكله في المشهد الثقافي والأدبي العربي، وأين تكمن أهميتها وضرورتها؟ وفي ظل السجالات والنقاشات المُتضادة، التي تظهر من فترة إلى أخرى حول المؤسسة النقدية وما يُثار من أسئلة ومساءلات وتشكيك، هل يمكن حقًا القول أنّ الأمر لا يعدو أن يكون مجموعة كتابات ودراسات هنا وهناك، في سياقات واجتهادات فردية. وأنّه يوجد نُقاد ولا توجد مؤسسة؟ وإن وجدت هذه المؤسسة النقدية فهي لا توجد بالشكل اللائق الّذي يسمح بالقول إنّها حقاً مؤسسة نقدية؟
استطلاع/ نـوّارة لحرش
حول هذا الشأن «المؤسسة النقدية بين الأسئلة والمساءلة»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد، مع بعض النقاد. وكلٌ حسب وجهة نظره الخاصة. ففي الوقت الّذي يرى فيه الدكتور عبد الله العشي، أنّ النقد الأدبي، اليوم، تُسيره مؤسسات كُبرى تتحرك من داخل الإمبراطوريات الثقافية المُهيمنة. لكن مؤسسة النقد الأدبي بمعناها المعهود تمَ تغييبها، وبأنّ الوضع لن يسمح بنشأة المُؤسسات النقدية. يرى الدكتور عبد القادر فيدوح، أنّ المُؤسسة النقدية الجزائرية–العربية- تقتضي وجود فكر مؤسساتي، يكون نابعًا من السياق التنويري للواقع، لكنّنا أبعد ما نكون في هذا المَغْنى. في حين يرى الدكتور محمّد تحريشي، أنّ مؤسسة النقد الأدبي تظل تتأرجح بين التشكل والحضور والغياب، وأنّ الشللية والتبعية والنزوع الإيديولوجي والمصلحة في حالات كثيرة حدّت من نشأة هذه المؤسسة، وأكثر من ذلك أسهمت في عدم التأسيس لمؤسسة نقدية في الجزائر. وعلى العكس، يرى الناقد قلولي بن ساعد، أنّه ليس في الإمكان حلحلة أزمة التفكير بصوت مسموع خارج قاعات (النقد الصالوني) في ظل اِنسحاب الناقد الجامعي من ساحة النقد. مؤكداً أنّ المؤسسة النقدية التي ينبغي البحث عن مشروعيتها هي مؤسسات النقد الجامعية بمخابرها والمجلات العلمية المُحكمة والباحثين الذين يشتعلون فيها.
عبد الله العشي ناقد وأكاديمي
نقدنا لم يبلغ أن يكون حركة نقدية ولا مؤسسة
يُعاني النقد الأدبي، مثله مثل باقي المُؤسسات الثقافية الأخرى، من الحصار والتضييق؛ فمن جهة، تمت الهيمنة على المؤسسة الأدبية ومؤسسة الإنسانيات بشكلٍ عام وتمَّ توجيهها وفق منطق التكنولوجيا وسياسة السوق والاِستهلاك، وتمت التضحية بالبُعد الجمالي والإنساني والقيمي في الظاهرة الأدبية، ومن جهة ثانية، فقد تم اِختراق المؤسسة النقدية بفهم نظري مُختلف، فكَكَ هوية النقد وأعاد تعريفه وصاغ هوية جديدة له وجرده من وظيفته، وسمح لنصوص من خارج الحقل الأدبي أن تُصبح من اِنشغالاته على حساب النصوص الأدبية، ومن أجل تمرير هذه المنهجية تم اِستحداث آليات جديدة في التحليل، مثل تحليل الخطاب الّذي سمح للنصوص غير الأدبية أن تحتل موقعًا لها في الدراسات الأدبية، وبالتالي، تمَ تحييد القيمة الجمالية الُمؤَسِسة للأدب، ومثل النقد الثقافي الّذي وَسَعَ دائرة الأدب لتصبح الظاهرة الأدبية فيه مجرّد عنصر تابع لمفهوم مركزي شامل وذي سلطة هو الثقافة، وقد تمَ إلحاق الدراسات الأدبية بالدراسات الثقافية وتمَ الجمع بين فروع الإنسانيات المختلفة بحجة قد لا تكون علمية وإنّما تمَ ذلك بفعل ضغط اِقتصادي حتّى تتحرر ميزانيات الدول من أعباء مالية إضافية. وتمَ، بناءً على ذلك، صياغة مفاهيم نظرية للأدب والنقد الأدبي تستجيب لدواعي الحياة الاِقتصادية وتحوّلاتها، ومثل الدراسات المرتبطة بالرقمية والتي تسعى لأن تُؤسس نقدها داخل المُؤسسة النقدية المُختلفة جوهريًا عنها، ولو فعلت ذلك خارجها لكان أفضل لها وللأدب والنقد الأدبي، وهكذا تمَ تغييب مؤسسة النقد الأدبي بمعناها المعهود، كما تمَ تغييب الظاهرة الأدبية من عالم الرمزيات ولو نسبيًا، باِعتبارها مركزية من المركزيات التي ينبغي، وفق التحليل ما بعد الحداثي، أن يتم تفكيكها والخروج عن هيمنتها لتُناسب الإنسان الرقمي الجديد.
لن يسمح هذا الوضع بنشأة المُؤسسات النقدية؛ باِعتبار للمؤسسة شروطا ثقافية تصنع ذاتها بذاتها وفق إستراتيجية مُمكنة في التسيير والتوجيه تجتمع على هدف أو أهداف معينة تدعمها شروط مادية وفكرية، وتقوم على تراكم الأعمال والتجارب وليس على تجمع الأفراد، لا تبدأ المؤسسة بالضرورة بهذه الإستراتيجية ولكن ينبغي أن تنتهي إليها بالضرورة. ليس مسموحًا للمؤسسة، كما يبدو، ولا مُمكناً لها، أن تقوم، لأنّ الشروط المعرفية المحيطة بها مُناقضة لها وتعمل ضدها، وضد كلّ مركزية أخرى. لقد تحوّلت كلّ مُمارسة نقدية إلى مجرّد مُقاربة بكلّ المعنى الفلسفي لمفهوم المقاربة.
النقد الأدبي، اليوم، تُسيره مؤسسات كُبرى، تُمثل أنساقه المضمرة، تتحرك من داخل الإمبراطوريات الثقافية المُهيمنة، مثله مثل الرواية التي أصبحت فِعلاً قوّة عالمية لا تختلف كثيراً عن المؤسسات الاِقتصادية والإعلامية والعلمية التي تُوجه العالم كما تريد، وهذه المؤسسات الكُبرى لن تسمح بظهور مؤسسات منافسة لها. هل يمكن أن نتخلص من هيمنة العِلم والفلسفة والنظرية الأدبية الغربية؟ وهل يمكن أن نبني مركزية خاصة؟ الأمر صعب جداً وقد يكون مستحيلاً إن لم يكن لا مجديًا أحيانًا ولا سؤالاً مشروعًا أصلاً.
وفي سياق التجربة الجزائرية، لم يتمكن النقد الأدبي، بعد، من الاِستقرار الّذي يمكنه من تحديد هويته وتميزه، فهو مسارٌ متواصل قائم على تجريب المنهجيات المُتعدّدة في إطار الاِنسياق لإمبراطورية النقد الغربي المُهيمنة، حالنا في هذا كحال النقد العربي كله، وحتّى التجارب العربية التي بدت ذات يوم مُتميزة ومستقرة قد بدأت تتفكك وتنهار وتُعيد النظر في ذاتها، وتكاد تطل الآن على فراغ.
ربّما يتطلب الأمر بعض الشروط من أجل حركة نقدية فاعلة، ولكن قد لا تسعف التحولات الثقافية والاِجتماعية بتحقيقها؛ قد يتطلب الأمر بناء معرفة نظرية بالأدب ذاته أوّلاً، واعتبار البُعد الجمالي والقيمي والإنساني من ثوابته، خاصةً في ظرفنا الحضاري العربي الراهن الّذي لم تُشوهه كثيراً الاِستعمالات المُنحرفة للتكنولوجيا، وقد يتطلب الأمر صياغة مفهوم للنقد مُتوافق مع الفهم النظري للأدب، واعتبار النقد وظيفة أولى للنُاقد وليس مجرّد عمل ينجزه في الأولوية الثانية والثالثة، ثمّ الاِنطلاق في وضع مشاريع نقدية واضحة وهادفة بدل الاِنشغال بدراسات متفرقة ومُتباينة ومتعدّدة المناهج والنصوص ولا رابط بينها، نقدنا لم يبلغ أن يكون حركة نقدية ولا مؤسسة نقدية، ولدينا نُقاد متميزون على علاقة قوية بالمعارف المصاحبة للأدب والنقد، ومنفتحون على تجارب الثقافات المُختلفة في علاقتها بالظاهرة الأدبية، ولعلّ المسألة كلها مسألة وقت فقط لنتحدث، حينها، عن تجربة نقدية جزائرية مُتميزة.
محمد تحريشي ناقد وأستاذ جامعي
الشللية والتبعية والنزوع الإيديولوجي حدّت من نشأتها
أعتقد أنّه علينا أن نتفق حول مفهوم مؤسسة قبل أن نرد على هذا السؤال المركزي المُتعلق بمؤسسة النقد أو المؤسسة النقدية. ولعلّ أوّل مفصل في المؤسسة هو نظامها وطريقة عملها، السلطة التي يجب أن تتمتع بها وتُمارسها بكلّ حرية وديمقراطية، وإذا اِنطلقنا من سلطة النقد عندنا في الجزائر، فإنّنا نجدها في البداية تأسست على أساس تاريخي وريادي اِنطلاقًا من محاولات فردية بفضل التثاقف والتعليم والهجرة والترجمة والرغبة في التجريب، فظهر عندنا جيلٌ من الكُتّاب رافق الحركة الإبداعية في الجزائر، وقد بدأ في بعض الصُحف والجرائد، وفي بعض المنابر هنا وهناك. وقد شكلت هذه الكتابات بوادر تشكل رؤية نقدية في شقين أساسيين واحد باللّغة العربية والثاني باللّغة الفرنسية.
أدى اِنفتاح جيل من الشباب الجامعيين على العلوم والمعارف والتوجهات الإيديولوجية في العالم، خاصة بعد اِختيار الجزائر للتوجه الاِشتراكي في السبعينات، أن تأسست مؤسسة النقد على أساس إيديولوجي، وشكل حضورها الإعلامي وتواجدها على المنابر ظاهرة لافتة للنظر، وبقدر ما أُسست لتوجه جمالي وفني، فبالقدر نفسه أسهمت في إلحاق الضرر بتجارب في الكتابة لا تتماشى وطروحاتها الإيديولوجية، فتوارت أقلام وسكتت أخرى وقاومت ثالثة.
إنّ البعثات العلمية لوزارة التعليم العالي إلى الجامعات الأوروبية والعربية، جعلت الدارسين يتعرفون على طرائق جديدة في الكتابة وعلى مناهج نقدية حديثة وحداثية، مكنتهم من اِكتساب أدوات إجرائية جديدة خاصة البنيوية وفيما بعد السيميائيات وفروعها، ومن ثمّ بدأت رؤية جديدة تتشكل، فالتحق بها بعض النُقاد الإيديولوجيين وحاولوا تطوير آليات القراءة لديهم، وفي الوقت ذاته اِستطاع هؤلاء الذين كانوا في هذه البعثات العلمية تقديم إضافة ذات بال.
إنّ هذا التحوّل والتغير قد يكون من الأسباب الجوهرية لعدم وجود مؤسسة نقدية تستطيع أن تقوم بدورها على أحسن وجه، بل قد يصل الأمر إلى مفارقة عجيبة، كنتُ قد كتبتُ عنها في كتابي «أدوات النص»، المبدع، الناقد، إلغاء متبادل. ولعلّ هذا مِمَا أسهم في عدم التأسيس لمؤسسة نقدية في الجزائر، إنّ الشللية والتبعية والنزوع الإيديولوجي والمصلحة في حالات كثيرة حدّت من نشأة هذه المؤسسة، إن لم نقل أنّها قضت على أحلام تشكلها يومًا، وفي حالات محصورة ظهر نزوع قبلي أو جهوي في بعض الكتابات النقدية حدّ هذا أيضا من إمكانية هذا التشكل، وفي حالات أخرى لعبت حالات مزاجية في الضرر ببعض الكتابات وفي حالات أخرى جاملت بعض الكتابات بعض الأعمال الإبداعية مِمَا غيّب المؤسسة النقدية. وقد ينضاف إلى كلّ ذلك اِعتماد بعض النصوص الإبداعية في بعض الدراسات الأكاديمية من رسائل ماجستير ودكتوراه، وهي أعمالٌ طُبعت في دور نشر من دون لجان قراءة.
أنا أقترح مؤسسة نقدية تقومُ على مبادئ الحوكمة من شفافية ومُساءلة ومسؤولية وعدالة، وتطبيق هذه المبادئ للحكم الراشد في مجال النقد قد يكون من أقوى الأسباب لنشأة هذه المؤسسة إذا كنا فعلاً نريد مؤسسة نقدية تستمد سلطتها من قدرتها على التواجد في المؤسسات الثقافية والإعلامية والمنابر الأدبية، وفي مؤسسات التعليم العالي. ولابدّ من التحلي بالجرأة والصراحة والاِبتعاد عن المُجاملة واستعمال اللّغة الواصفة إلاّ بحسب ما تقتضيه الحال والمناسبة وطبيعة النص وظروف الإبداع. وأن تُصبح الحرية تفكيراً وممارسة هدفا وغاية والشعور بالعدل والمساواة والإنصاف مبدأ وموقفًا. والتعويل على أسئلة مركزية من مثل ما طرح جون بول سارتر في مؤلفه (ما الأدب) منطلقًا لنشأة هذه المؤسسة. ما معنى الكتابة؟ ماذا نكتب؟ لمن نكتب؟
عبد القادر فيدوح ناقد وأكاديمي
المؤسسة النقدية العربية مازالت تفتقر إلى التراكم المعرفي
من المعلوم أنّ المؤسسة النقدية -أنَّى كانت– تُعدُّ حديقة من الأمواج الفكرية، مصدرها المعطيات الماثلة في النظريات الفكرية، سرعان ما تتحوّل هذه المعطيات إلى إجراءات تسهم في خلق المعرفة الإجرائية، التي ترفع من شأن النص إلى خلق نوع من التصور الرؤيوي، ومنها إلى الرؤية الكونية، وهي مصدر وعي الناقد.
ولأنّ المُؤسسة النقدية الجزائرية –العربية- تقتضي وجود فكر مؤسساتي، يكون نابعًا من السياق التنويري للواقع، فإنّنا أبعد ما نكون في هذا المَغْنى، ولعلّ ما جاء على لسان طه حسين منذ قرن تقريبًا مازال مطلبًا ضروريًا، حين ركز على أهمية التعليم، ووحدة المجتمع، وانتعاش الديمقراطية في تحزُّبها الفكري التنويري. والحال هذه أنّ المؤسسة النقدية العربية بوجهٍ عام مازالت تفتقر إلى التراكم المعرفي الإجرائي الّذي من شأنه أن يأتي بوعي تنويري للنص.
ثمّ، ما المقصود بالمؤسسة النقدية؟ لعلّ المقصود بالمؤسسة النقدية هو أن تقوم على نسق ثقافي واجتماعي وفكري من منظور المُمارسة الإجرائية. ومن دون الأصول المعرفية لا يمكن أن نبني مؤسسة نقدية، بالنظر إلى أنّ هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق النقد في مجال التحليل، وتسويق الفكر الناقد، قياسًا إلى ما يحمله من مهارات تقوم على تحديد أُطر المعرفة عبر أدواته الفاعلة.
أمّا ما الّذي يمكن أن تُشكله المؤسسة النقدية في المشهد الثقافي والأدبي العربي، فأعتقد أنّ ما يُشكله المشهد الثقافي هو ما تُمليه الرغبات، ومن ثمّ لا وجود لحركة نقدية بالمطلب المُبتغى، إن لم تُمارس تجربتها النقدية من ذاتها، ولا قيمة لناقد ما لم يُمارس تجربته المُستمدة من هويته وواقعه، وأيًّا ما كان الحال، فالناقد هو من يندرج في هويته الثقافية، وينخرط في إمكانية تأسيس مشروع نقدي، غايته الاِرتقاء بالوعي الذاتي.
وتبعًا لذلك، تكمنُ أهمية المشهد النقدي في الكشف عن اللامقول في النص/الواقع، ويرفع عنه ما يُواريه ويُغطيه، ويزرع فيه روح التجديد إلى اللامتناهي من الدلالات، بغرض الحصول على أجوبة مُرتبطة بمشروع الإنسان في الوجود من ظاهر وباطن.
وبخصوص السجالات والنقاشات المُتضادة، التي تظهر من فترة إلى أخرى حول المؤسسة النقدية وما يُثار حولها من أسئلة ومساءلات وتشكيك. برأيي وجريًا على ما ورد في طروحاتك المُسدية، أرى أنّ المؤسسة النقدية مسؤولية، وليست لعبة نتسلى بها، أضف إلى ذلك أنّ الممارسة النقدية تبعث في التلقي الشعور بالتناغم مع الأجواء المجدية؛ لأنّها السبيل الوحيد لجلب الذات المُتلقية إلى ما يُؤرقها، إلى الحقيقة، إلى ذواتنا التي تبعث الدفء والديمومة في التجاوب مع متطلبات الحياة. صحيح أنّه قد تكون في منظور البعض أنّها ممارسة مشاغبة بدافع الإثارة، وتجييش المشاعر لاِتخاذ ردة فِعل ما، ولكن حتّى في هذه الحالة تتخذ الكتابة النقدية سبيلاً من الاِنفلات، أو من الخلاص، وفي كلتا الحالتين تبدو المُمارسة النقدية عند مثل هذا المُراوغ أو ذاك هوسًا تغمرهُ اللذة المُسيَّجة بهاجس التعويض من قهر الحياة، وهدر التطلعات.
أمّا عن سؤالكم من أنّ هذه المؤسسة النقدية لا توجد بالشكل اللائق الّذي يسمح أن نقول عنها إنّها حقًا مؤسسة نقدية، وأنّه يوجد نقاد ولا توجد مؤسسة؟ فشخصيًا أرى أنّ هذه الفكرة صائبة إلى حدٍ كبير، ولها مريدوها بخاصة مِمَن يُمارسون الملفوظات النقدية النابية، التي أصبحت تُشكل مساحات عريضة من صفحات الكتابة النقدية، فضلاً عن كونها مُنافية للآداب والأخلاق، وعلى الرغم من أنّنا نستنكرُ مثل هذه الأعمال إلاّ أنّنا لا نعدم وجودها المشين، ومثل هذه الكتابة تسعى إلى تسلق أعلى مراتب الكتابة عنوة، وأكتاف الكُتّاب، والنُقاد الحقيقيين، وفي تقديري ينبغي ألا ترقى إلى أن تكون ظاهرة متداولة في فعل الكتابة الكشفية، والرؤية النقدية المريئة.
قلولي بن ساعد كاتب وناقد
لدينـــا نقــاد وليســت لدينــا حركـة نقديـــة
المؤسسة النقدية التي ينبغي البحث عن مشروعيتها النقدية هي مؤسسات النقد الجامعية بمخابرها والمجلات العلمية المُحكمة والباحثين الذين يشتعلون فيها. شخصيًا لا أملك الحق في التشكيك في مشروعيتها النقدية وليس من حقي فعل ذلك لكني أميل إلى اِعتبار أنّه لدينا نقاد وليست لدينا حركة نقدية، بالمعنى الّذي يُشير إليه تيبودي الّذي يستعيرُ منه عبد الملك مرتاض قوله المتضمن «وجود نقاد فقط وعدم وجود نقد».
رغم أنّه في الواقع لا تكفي قراءة بعض الدراسات القليلة حول الرواية أو النقد للحكم على تجربة الكتابة النقدية في الجزائر واختزالها في عدد من الدراسات ذات الصلة بالنقد الأكاديمي المُرتبط بآفاق المأسسة النقدية وبرغبة الباحث في الترقية العلمية والمهنية للشروع في تقديم بعض الأحكام الجاهزة وتوزيع صكوك «الغفران النقدي» على عدد من النُقاد لأسباب معيارية ومزاجية ليس إلاّ. فالأزمة عميقة وتطال الحد الأدنى من تبرئة المؤسسة النقدية مِمَا يُقال حولها من نقص في الأداء الثقافي والفكري لواجباتها النقدية. ولذلك أسبابٌ وسياقاتٌ مُختلفة ليس أقلها اِنسحاب الناقد الجامعي من ساحة السجالات النقدية الكُبرى التي تُثار بين الحين والآخر خاصةً على صعيد الرواية. وهذا بالضبط ما يكشف عنه الروائي الفرنسي بلزاك وهو يُوطنُ نفسه على تحمل بعض سهام النقد الموضوعية.
السهام التي جعلته يعترف بأنّ «المؤلّف الّذي لا يوطّن نفسه على التعرّض لنار النقد لا ينبغي له أن يشرع في الكتابة، كما أنّ المسافر لا يشرع في رحلة بعيدة معتمداً على سماء دائمة الصفاء». وهذا طبيعي جداً فالنقد في أي زمان ومكان يُزعج الذات العربية التي كان يرى محمّد عابد الجابري بأنّها لم تقبل النقد في تاريخها الطويل إلاّ في صورتي مدح أو هجاء.وهو الأمر الّذي لا ينكره ناقد عربي آخر هو محمّد عبد الله الغذامي الّذي يذهبُ بعيداً في تفكيك العلاقة القائمة بين الناقد والمنقود وهو يرى في المقدمة التي كان قد كتبها لكِتاب «تمثيلات الآخر صورة السود في المُتخيل العربي الوسيط» لنادر كاظم أنّ «النقد العربي لم يكن في أي مرحلة من مراحله الطويلة خطابًا في المحبة ولم يكن أيضاً خطابًا مُحايداً إلاّ إن تخلى عن مهمته الحقيقية».
وهذا ما عَجَلَ باِنسحاب النقد الجامعي من ساحة النقد الحر المُرتبط بتحوّلات المجتمع واكتفائه بالنشر في المجلات العلمية المحكمة البعيدة عن هموم القُرّاء وعن «دنيوة النص» بمفهوم إدوارد سعيد. وهي مجلات لا يتعدى دورها حل مشكلة بسيطة تُواجه الباحث في مساره المهني، وهذه المشكلة تطال رغبته في الترقية المهنية ليس إلاّ.. وليس في إمكانها حلحلة أزمة التفكير بصوت مسموع خارج قاعات (النقد الصالوني) بمفهوم عمار بلحسن، أو المُساهمة المعرفية في تجاوز و(تشريح العواضل البنيوية والتاريخية للعقل العربي). العواضل التي خصص لها باحث جزائري مجتهد هو الدكتور اليامين بن تومي كتابًا مُهمًا يحمل العنوان ذاته (تشريح العواضل البنيوية والتاريخية للعقل العربي). ومع ذلك لا ينبغي أن نُعمم فهناك دائمًا بعض الاِستثناءات. وهناك دائمًا «العشب بين الأحجار» بتعبير الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز لعدد من النُقاد والأكاديميين الذين يُقدمون بعض الإضافات النقدية المهمة والتي لا يمكن إنكارها ولكنّهم بالطبع لا يستطيعون تغطية مجرة كبيرة من النصوص الإبداعية العربية في القصة والرواية والشِّعر.
مِمَّا يعني أنّ النهوض بعبء التناول بعيد المدى للكتابة يتطلب توزيع هذا الجهد المأمول على فِرق بحث، تعمل على تمويله ومتابعته مؤسسات جامعية قادرة على الإحاطة بكافة التجارب القصصية والروائية بعيداً عن أي خلفية إيديولوجية أو جغرافية في المركز أو في الأطراف. ردمًا لعواصف الاِنتقاء والمزاجية والشللية التي حولت بعض التجارب القصصية والروائية إلى مجرّد ملاحق تابعة لكتّاب آخرين أو مكملة لهم بحكم جناية الجغرافيا على بعض الكُتّاب والقرب أو البعد من وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية الرسمية كمركز وهمي للإشعاع الثقافي والتداول الإعلامي للقضايا الزائفة والمغلوطة.
وهذا أمر دونه صعوبات جمّة وأتمنى أن نعمل جميعًا على تحصيل الجزء الأكبر منه إن لم نتمكن من تدشين قطيعة جذرية مع السائد النقدي «لوصل القارئ بالمقروء» بمفهوم محمّد عابد الجابري الوصل الكفيل بتقديم بعض الاِضاءات المُمكنة للنص الإبداعي العربي بحثًا عن (القارئ النموذجي) الّذي تحدثَ عنه أمبيرتو إيكو في كتابيه (الأثر المفتوح) و(06 نزهات في غابة السرد). وهو هنا الناقد والباحث الجامعي الّذي يقرأ النص قراءةً ثانية لاِستكمال مشروع الكتابة النقدية كما يراها تودوروف في كتابه (نقد النقد) عندما اِعتبر أنّ الخطاب النقدي ليس «خطابًا ملحقا سطحيا بالأدب بل هو قرينه الضروري». في اِنتظار أن يصير ذلك حقًا أو يتحوّل إلى واقعة نقدية لا يصح بعدها الحديث عن الغياب الفادح لواجبات المؤسسة النقدية وما أدراك.