هل استغنى الكاتب عن الصحافة والملاحق الثقافية؟، وهل حقا علاقته متأزمة مع هذه المنابر الورقية؟. ألم يعد يعنيه أن يرى مواده ومقالاته ونصوصه الأدبية، منشورة ورقيا في هذه المنابر التقليدية، إذ و منذ اكتساح مواقع التواصل الاجتماعي أصبح الكثير من الكُتاب ينشرون مقالاتهم ومواضيعهم مباشرة على جدرانهم وصفحاتهم الفيسبوكية، قبل أن يفكروا في نشرها في الصحافة والملاحق والمجلات الثقافية الورقية المتخصصة في الشأن الأدبي والثقافي. ما الذي حدث؟، وهل يمكن اعتبار هذا بداية لقطيعة نهائية بين الكاتب والمنابر الورقية، وهل يمكن القول أن الوسائط التكنولوجية الجديدة، دفعت بعلاقة الكُتاب مع المنابر الورقية إلى حالة من التأزم و اللاود و اللاتفاعل؟. أم أنّ الأمر لا يتعدى أن يكون مجرد عزف متنوع في النشر، هنا و هناك و في مختلف الوسائل والوسائط المتاحة؟.
كُتاب وأدباء، يتحدثون في ندوة «كراس الثقافة» لهذا العدد، عن «علاقة الكاتب بالمنابر الورقية» في ظل اكتساح الوسائط و المواقع الاجتماعية لوسائل النشر.
إستطلاع/ نوّارة لحــــرش
أحمد دلباني/ كاتب و مفكر
مواقع التواصل الاجتماعي و المساحات المفترضة أصبحت تهدد سيادة و هيبة المنابر التقليدية
أعتقد أن الكتابة والنشر قد دخلا، فعلا، مرحلة جديدة منذ مدة مع انتشار الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والمساحات المفترضة التي أصبحت تهدد سيادة وهيبة المنابر التقليدية المعروفة للنشر، فقد أصبح من الممكن أن يحقق الكاتب نوعا من الاستقلالية والانتشار لم يكونا معروفين أو معهودين قبل ذلك. وفي هذا الأمر ما يبين أهمية النشر الإلكتروني العظيمة على مستوى ضمان حرية الكاتب الفكرية والإيديولوجية والتي لم تكن مضمونة قبل ذلك مع الإعلام الورقي المُرَاقب جيدا في البلدان الأمنية كالدول العربية تحديدا. وهنا تكمن ميزة هذا الشيء حيث نلاحظ بجلاء كيف أصبح يُبنى الرأي العام في مساحات التواصل وكيف أصبحت الأفكار والمعلومات تنتشر بسرعة خالقة نوعا من «القرية الكونية» التي أصبحت تنذر بانتهاء عهد العالم المُرَاقب باعتباره جزرا متنابذة وصمَّاء إزاء بعضها البعض. إنَّ زوال الحدود أمرٌ محمود بكل تأكيد بما أنَّ أقصى ما يطلبه الكاتب والمفكر هو أن يُعبِّر بحرية وأن يُتاح لإبداعه الوصول إلى القُراء بعيدا عن كل الموانع التي كانت تنتصب بفعل حضور الدولة الوطنية وتسييجها الإيديولوجي الصارم للمجتمع وحركة الفكر. هذا ما جعل، ربما، من التقنية الحديثة في التواصل «حصان طروادة» الجديد الذي أجهز على أنظمة الرقابة التقليدية المُرتبطة بالدولة الوطنية وحرَّر مساحة القول من قمقم سلطة الأحادية.
نعرفُ، جيِّدا، أنَّ الأدب أيضا دخل عهدًا جديدًا مع هذا التطور ما زال يطرحُ الكثير من القضايا المُرتبطة بالتواصل والتفاعل مما انعكس -ولو بصورةٍ غير مُنظر لها بشكل جيد– على الكتابة وبعض همومها وتطلعاتها من زاوية العلاقة بالقارئ وكيفية ميلاد الأثر الفني، وإن كنت، هنا، لا أرى شخصيا تقدما مُهمّا في مضمار الكتابة قد يفتحها على آفاق لا قِبل لها بها. فالتواصل والتفاعل ليسا دائما حوارًا عاليا وبخاصة في عالمنا العربيِّ حيث تسود الفوضى الدلالية، وتغيبُ بشكل موجع الثقافة الفنية الضرورية من أجل ميلاد «أدب تفاعلي» لا أرى له حظا من الحياة والإبداع رغم حماسة البعض ممن يتملكهم فرحٌ طفولي ساذج مع كل ابتكار تكنولوجي. الأدبُ وليدُ العزلة الخالقة. الأدبُ يسطعُ كنار بهية مُقدَّسةٍ من مجمرة التجربة والتأمل لا من ضوضاء التواصل المجاني الذي نشهد. الإبداعُ يخرجُ من غرفة بروست التي عبقت بعودة «الزمن المفقود»، ومن غرفة نيتشه في سيلس ماريا بالجنوب الإيطالي المُطل على مهرجان خيوط الشمس وهي تلقي برسائل الأبدية المُبهَمة على أرض امتلأت بمدافن الآلهة.
أودّ، هنا أيضا، أن أشيرَ إلى أمر خاص يرتبط بالنشر. فمن المعروف، بدون أدنى شك، أنَّ النشر الإلكتروني أصبح يحتل مكانا مرموقا في العالم كله. وأصبح الكُتاب يملكون مدوناتٍ ومواقعَ خاصة تربطهم بجمهور القراء وتجعلهم في تواصل وتفاعل دائمين معهم. هذا الأمرُ بحد ذاته عظيمُ الأهمية، ولكنَّ الغوغائية تتسلل إليه بكل أسفٍ في ظل سيادة الشعبوية المُرتبطة بحرية أصبحت تنخرُ جسدَ القيم الفنية والجمالية ولا تطرحُ أسئلة حول المصائر الجديدة للتحولات الاستيطيقية في ظل عولمة انقلابية الروح ولكنها مازالت تفتقرُ إلى المجهود النظريّ التأسيسي لمشروعية بعض نتائجها في هذا المجال. وقد أشار مُؤخرًا على ما أعتقد -بنوع من التذمر البصير- الكاتب والناقد الإيطالي المعروف أمبرتو إيكو إلى هذا الأمر. كما أود أن أشيرَ، أيضا، بنوع من النوستالجيا الخاصة إلى أنَّ الكِتابَ الورقي ربما كان في طريقه إلى الزوال، وهذا أمرٌ لا يسعني إلا أن أقفَ أمامهُ حزينا حقا. ولكن لا يُمكننا أبدًا أن نوقفَ قاطرة التاريخ الهوجاء المُشرئبة إلى آفاق فقدت البريقَ بكل تأكيد. سنعمل على رؤية بيوتنا القديمة الجميلة تغيبُ شيئا فشيئا عن الأنظار بدموع مُتجمدة. سنتذكر أيضا –بنوع من الحسرة– الحضورَ الجسديّ للكِتاب الورقي بين اليدين كامرأة عبقة بمفاتن الغواية لندخل عالم الافتراض في كل شيء. سيتقلصُ الجسدُ إلى حاسة الرؤية في عالم لن يكونَ إلا مشهدًا وشاشة.
رشيد فيلالي/كاتب
الحرية التي منحتها مواقع التواصل الاجتماعي أغرت الكُتاب
في تصوري أن مسألة الكتابة والنشر في مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة الفايسبوك وتويتر بادر إليها الكُتاب الغربيون أولا، وهي من هذا المنطلق ليست اختيارا جديدا خاصا بالكُتاب العرب فقط، ونتساءل عن دواعي مثل هذا الاختيار وخلفياته وفوائده وإيجابياته، التي حفزت هؤلاء ودفعتهم إلى الكتابة على جدران مواقع التواصل الاجتماعي واستغنائهم ولو مؤقتا عن منابر الاتصال التقليدية على غرار الصحف والمجلات، وبالنسبة لي على الأقل وأعتقد أن الكثيرين من الكُتاب يشاطرونني الرأي، أن الكتابة في مواقع التواصل الاجتماعي لها الكثير من الجوانب الإيجابية (والسلبية أيضا!) حيث نجد من أهم إيجابياتها مسألة التفاعل المباشر والعفوي مع النص المنشور، الأمر الذي يكسبه نوعا من «الحيوية» التي هي شبه مفقودة مقارنة بالمنابر الأخرى التقليدية والتي عادة ما يأتي التفاعل مع المنشور بها عقب مدة زمنية طويلة نسبيا، قد تتغير فيها الكثير من المعطيات وتتجدد، خاصة فيما يتعلق بالأخبار وما يصاحبها من تعاليق مختلفة ومتعددة، أما النصوص الأدبية فهي أيضا تتميز بنفس الخاصية عند نشرها في مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك في أعقاب تفاعل القراء معها وتدخلاتهم التي حتى وإن كانت لا تخلو من اعتباطية ومزاجية وحتى مجاملاتية إلا أنها تجعل الكاتب يتعايش مع هذا التفاعل ويتجاوب معه شدا وجذبا، وطبعا هناك حدود حمراء نقدية وأخلاقية يفرضها صاحب النص المنشور الذي يملك سلطة معاقبة من تسول له نفسه تجاوز تلك الحدود، وهذه من إيجابيات مواقع التواصل الاجتماعي، ولست هنا من دعاة فرض الرقابة على المنشور سواء على الكُتاب أو القراء، فهم أحرار كلية في سلوكهم طبعا مع التقيد بالقيم المثلى المتفق عليها، إنما قصدي هنا أن بعض القراء وخاصة منهم ذوي التكوين العلمي والأدبي والنقدي المحدود، عادة ما يبالغون في جرأتهم وشططهم ويذهبون بعيدا في انتقاداتهم إلى حدود تجرح أحيانا شخصية الكاتب وتنال من كرامته، الأمر الذي يجعل النقاش مميعا وفاسدا، ومن ثمة لا يعود بالفائدة على أي طرف من الأطراف، وهذه تعتبر من سلبيات النشر في المواقع المذكورة.
على صعيد مماثل يجدر بنا الحديث عن الحرية التي منحتها مواقع التواصل الاجتماعي مقارنة بالمنابر التقليدية (صحف ومجلات) حيث إلى وقت قريب كان القائمون على شؤون هذه المنابر التقليدية يفرضون سلطتهم النقدية والإيديولوجية والأبوية على الكُتاب ولاسيما منهم الشباب والمبتدئون، فيقصونهم من جنة النشر والشهرة في سلوك احتكاري ذميم ومتعال يكشف عن تورم نرجسي مضحك في شخصيتهم، وقد جاءت مواقع التواصل الاجتماعي لتحدث ثورة في هذا المجال، حيث كسرت هذا الاحتكار، ومنحت للجميع عصا سحرية يفعلون بها ما يشاءون في حدود المسؤولية الأخلاقية التي يتمتعون بها، وبالطبع هناك من يتعسف –وهي طبيعة البشر- في استعمال هذه الحرية وينطلق في نشر عقده وسعاره وهلوساته التي تصل مثلما رأينا لدى كثيرين من أشباه المبدعين، إلى حدود «المسخ» فيميع النقاش ويهرف بما لا يعرف ويرتكب حماقات بالجملة تعود عليه بالخسران المبين.
هناك مسألة أخرى لا يمكن الحديث عن النشر في المواقع الاجتماعية دون التطرق لها أيضا، أقصد مسألة «العالمية» إذ حتى وقت قريب كان ما ينشر باللغة العربية تكاد تقتصر قراءته فحسب على أهل البلد الذي ينشر فيه النص الأدبي، وذلك جراء جملة من المعوقات المعروفة (توزيع الصحيفة والكِتاب..) غير أن مثل هذه العُقد مع المواقع الاجتماعية حُلت نهائيا، حيث يمكنك النشر ويقرأ لك في نفس اللحظة عدد كبير من القراء يقطنون في القارات الخمس، إضافة إلى أن النص الأدبي مع بعض التسهيلات الترجمية أو الإطلاع على اللغات الأجنبية يمكن أن يتصفحه (بصريا) قراء من جنسيات مختلفة، ويعطون رأيهم النقدي فيه، وهذا هو مفهوم العالمية بمعناه البسيط إذا جاز لي هذا التعبير، ومن يدري قد يحوز هذا المنشور الأدبي أو ذاك على إعجاب كُتاب ونُقاد أجانب فيترجمونه وينشرونه عبر منابرهم التقليدية ببلدانهم وقد حصل ذلك مرارا وتكرارا ولا يزال يحصل حتى الآن، والتقيت شخصيا بأمثلة لا حصر لها في هذا المجال.
وفي الختام أريد أن أنوه بالقول أن درجة الاتصال والتواصل إذا كانت محدودة نسبيا على مستوى المنابر التقليدية فإنها في مواقع التواصل الاجتماعي عالية جدا وممتازة، خاصة مع انتشار الوسائط الذكية التي توصلت لها التكنولوجية الدقيقة الراهنة، وهو ما يزيد في إيجابيات تلك المواقع التي رغم ما قلناه تبقى أيضا إذا أردنا الاستفادة من مميزاتها العديدة، بحاجة إلى ضوابط أخلاقية ليس بالمفهوم الوعظي الساذج المعروف ولكن احتراما وإقرارا بالقيم الإنسانية العليا والنبيلة.
كمال قرور/ روائي
الوسائط التكنولوجية أصبحت «ديوان تعبير العصر»
كان النشر وظل مشكلة تواجه الكُتاب في بلدنا وتؤرقهم وتدفعهم أحيانا إلى التوقف عن الكتابة واعتزالها، فنشر مقال في جريدة يومية أو أسبوعية أو ملحقا ثقافيا، يتطلب انتظارا مملاً ونشر كِتاب قد يستغرق سنوات، ولن نتحدث عن المجلات الدورية المتخصصة التي يمكن أن تفتح أفقا للكتابة الجادة الرصينة المؤسسة وللكُتاب الجيدين المتعمقين في تخصصهم. لذلك ظل المشهد الثقافي مختلا يتسم بوجود الكُتاب وغياب الكتابة. وكان معظم الكُتاب يشتكون في حواراتهم الصحفية من صعوبة النشر، ويتحدثون بمرارة عن مخطوطاتهم الكثيرة المتراكمة التي علاها الغبار وأكلها الإهمال والنسيان.
مع ظهور وسائط الاتصال الاجتماعي كانت طفرة تكنولوجية في الألفية الجديدة، فتحت فضاء جديدا ومتميزا للكُتاب ليعبروا وينشروا كتاباتهم وأفكارهم وآرائهم، وطرحها للنقاش والتفاعل، دون انتظار ودون وساطات أو توصيات. طبعا في وقت قصير، وعلى نطاق واسع.
أصبح الكاتب في بيته يكتب وينشر ما يشاء وفي اللحظة نفسها، يُعدل ما يشاء، ويتفاعل مع قرائه، بالتوضيحات أو الردود على التعليقات. ولأنّ هذه الوسائط أصبحت «ديوان تعبير العصر»، فإنها استطاعت أن تسرق الأضواء من الصحافة المكتوبة، لكن هذه الأخيرة كان صدرها أوسع، فبدل معاداتها، صارت تدعم صفحاتها في أحيان كثيرة بالكِتابات والأفكار والتحاليل التي تخص الشأن العام.
والمؤسف أن مع هذه الوسائط الاجتماعية، برزت ظاهرة استسهال الكتابة، و"الكوبي كولي"، والسطو على أفكار الغير، فتهافت بعض الكُتاب على نشر أي شيء، وبعضهم يتستر وراء أسماء مستعارة ويصفي حساباته مع البعض ضاربا الضمير والأخلاق عرض الحائط. ونشطت النميمة الثقافية بشكل مريب في الدردشات الخاصة وعلى الصفحات. وأختلط الحابل بالنابل، لهذا وذاك تبقى للكتابة الورقية «حرمة» وقدسية.
بوداود عميّــر/ كاتب و مترجم
شبكات التواصل الاجتماعي بما تتيحه من حرية و انتشار أربكت الصحف و المجلات الورقية
تشهد قنوات التواصل الاجتماعي عبر الشبكة العنكبوتية، خلال العقدين الأخيرين، نقلة نوعية وتطوّرا مذهلا، في عالم المعلوماتية والاتصال، ارتبط بثورة رقمية شاملة، غيّرت تماما مجرى التواصل بين الناس، ويسّرت سيولة المعلومة في جزئياتها وتفاصيلها إلى أبعد مدى. الأمر الذي أفرز تفاعلا من نوع آخر، اتخذ شكلا مختلفا في التواصل، بدأت تتجلى ملامحه أساسا، من خلال محاولة توطيد علاقة تشبه المؤانسة، بين المواقع أو الكاتب وبين المتلقي، الذي باتت تتاح له فرصة المساهمة بحرية في تحرير الخبر وإبداء الرأي، والتواصل مع الكاتب في الآن نفسه، مما نتج عنه استفادة متبادلة بين الطرفين. وسرعان ما باشرت «طاحونة» المعمل التكنولوجي التي لا ترحم، في عملية الاشتغال من جديد، لتنتج ذات استقبال من متلق لا يطرح للأسف سؤال التعامل مع أسلوب التحوّل، تحت تأثير إغراءات التواصل مع الراهني، بدائل جديدة، تحلّ محل القديم الذي قد ننسى أحيانا، في غمار انبهارنا، أنه شكـّل ذات دهشة آنذاك، جديدًا، بل وثورة هو أيضا. وهكذا أربكت شبكات التواصل الاجتماعي، في علاقتها مع القارئ وتعاملها مع الكاتب، الصحف والمجلات الورقية، التي أحسّت بخطر وشيك، يطرح مع مرور الأيام، سؤال الجدوى من استمرار طبعها غير المجدي. وهو الخطر ذاته، الذي أصبح الآن حقيقة قائمة عبر الخريطة الإعلامية في أوروبا، الأمر الذي دفع بصحف ومجلات ورقية عريقة إلى الانسحاب قسرًا من المشهد.
وهكذا وسعيا منها لمحاولة التكيّف مع الراهن الإعلامي الجديد، اضطرت إلى إنشاء مواقع الكترونية موازية، اقتصرت في الأغلب على إعادة نشر المواد نفسها -كما هو حال الإعلام عندنا في الجزائر، سواء كان خاصا أو عموميا- الأمر الذي لم ييسر لها فرصة التكيّف، بشكل أفضل، مادامت لم تول العملية الاهتمام اللائق بها، ماديا وبشريا، وكذلك في ظل غياب نصوص تنظيمية وقانونية، من شأنها التعامل مع مشهد إعلامي مغاير، فرضه الواقع الجديد لمجتمع مستقبله ثورة معلوماتية.
ولعل من خلال تجربتي مع مجلة «نفحة»، الموقع الثقافي الالكتروني، التي استطاعت في ظرف زمني قصير، أن تتبوّأ مكانة الصدارة بين المواقع الالكترونية التي تُعنى بشؤون الثقافة والحياة في الجزائر، رصدت عن قرب أهمية هكذا منابر الكترونية إعلامية وثقافية، في الترويج لقضايا الأدب والثقافة بشكل عام، من خلال استخدامها الوسائط المتعددة التي تتيحها الشبكة، في ظل تفرّد متميّز، تتيحه الشبكة على أعلى مستوى، في ضوء إمكانية استخدام وسائط مهمة كالصوت والصورة والفيديو في دعم وإثراء المقالات، وإتاحة قراءتها لأكبر عدد من القرّاء، يفوق في انتشارها وتأثيرها الكثير من المجلات والصحف الورقية، بعيدًا عن تحايل مزيّف في إدعاء تحقيق مبيعات تروّجه بعض الصحف عندنا. يحضرني على سبيل المثال مقالا، تم نشره قبل نحو ثلاثة أشهر في موقع «نفحة»، عن عازف العود «علاّ»، المقيم في فرنسا حاليا، مدعمًا بتسجيلات صوتية تتضمّن بعضا من تقاسيمه الجميلة، وصورًا له نادرة، نال المقال في حينه ما يزيد عن خمسة آلاف إعجاب، ونحو ألفين مشاركة للموضوع. وقس على ذلك مقالات أخرى ذات صلة بالمسكوت عنه في عمق المجتمع وشؤون الحياة، متيحة -بعيدا عن إكراهات الرقابة-، مساحة واسعة من الرأي والرأي الآخر تحت شعار: «اصنع رأيك بنفسك»، مقالات نالت حظها الوافر من النجاح، على الأقل من خلال مستوى مشاركة القراء وتفاعلهم. من هنا يأتي ربما حرص الكُتّاب على نشر مقالاتهم عبر المواقع الالكترونية، أو على صفحاتهم الفيسبوكية، بما تتيحه خاصة من فرص حقيقية للترويج والانتشار، على حساب المنابر الورقية، عبر مادتها الثقافية خاصة، والتي قد تجد نفسها بدون كتّاب متطوّعين، بعد أن فقدت القراء أو تكاد، ما لم تسارع في البحث عن بدائل كفيلة باستقطاب الكتّاب.
مشري بن خليفة/ ناقد وشاعر وأستاذ في جامعة الجزائر2
المبدع لجأ إلى فضاءات التواصل الاجتماعي لكي يصنع صفحته بنفسه وينشر فيها بكل حرية
مما لاشك فيه أن هذا الموضوع، يحتاج إلى دراسة معمقة، لأنه مرتبط ارتباطا وثيقا، بالتحولات التي يعيشها العالم المعاصر، والذي أصبح في ظل الرقمنة قرية صغيرة، والكاتب في السابق كان جزء من ثقافة سائدة، وهي ثقافة الكتابة والوراقية، ولهذا كان مثلا في السبعينيات أو في الثمانينيات من القرن الماضي، يبحث عن فضاءات ثقافية وإبداعية ورقية ينشر بها إبداعاته، لأنها الوسيلة الوحيدة المتوفرة له، وفي نفس الوقت كانت الجرائد اليومية والصحف والمجلات الأسبوعية، منابر لنشر الأعمال الأدبية، من خلال الملاحق الأدبية والثقافية التي كانت بحق أهم حِراك ثقافي، واستطاعت هذه المنابر أن تصنع أدباء وشعراء كبار، أما الآن فالأمر حدث فيه تحول كبير في مفهوم الثقافة في ظل العولمة.
أيضا العالم شهد تحولات على مستوى الرقمنة، وفضاءات التواصل الاجتماعي، التي مكنت الإنسان المعاصر من إنجاز شبكة تواصل فعلية، مكنته من خلق فضاءات إعلامية وتواصلية، أدت إلى تقليص الفجوة بينه وبين الآخر، ومن ثم استطاع الكاتب والشاعر، أن يتواصل مع القُراء الافتراضيين، دون حاجة إلى الصحافة الورقية، والتي أصبحت في السنوات الأخيرة، لا تعير أي اهتمام إلى الثقافة والإبداع، رغم أهميتها في توعية وتثقيف المجتمع، وتفضل نشر إعلان في الصفحة الثقافية، أما الجانب الإبداعي، فأصبح مُقصى تماما من المجال الإعلامي، ولهذا لجأ المبدع العربي والجزائري، إلى فضاءات التواصل الاجتماعي، لكي يصنع صفحته بنفسه، وينشر فيها إبداعاته، بكل حرية ودون رقابة أو إقصاء، وبذلك تعددت الصفحات الأدبية والشعرية والروائية وأيضا الشخصية، وهذا التوجه يؤكد أننا إزاء تحول جذري في مفهوم الإعلام وكذا الاتصال والتواصل، بفضل الشبكة العنكبوتية وفضاءات التواصل الاجتماعي التي أحدثت ثورة حقيقية في الواقع الثقافي والاجتماعي، فالمبدع أصبح رقميا، ينشر إبداعاته وتقرأ وتنقد رقميا، ومن ثم أوجد لنفسه منبرا خاصا به، فأصبح في غنى عن الصحافة الورقية التي تهتم أكثر بالإشهار والسياسة، ولا يهمها ما يحدث من تغيرات على المستوى الثقافي والمعرفي.
تطورت الأمور حيث أن بعض الشعراء والروائيين، نشروا دواوين شعرية وروايات رقمية. وهذا يؤكد التوجه إلى الاستغناء عن الورقية. لأن العصر الذي نعيشه هو عصر الرقمنة والصورة .
عبد الوهاب بن منصور/ روائي
المنابر الالكترونية منحت فرصة للمثقف والكاتب لنشر مادته وقت وكيف ما يشاء
لا أحد ينكر أنّ منابر التواصل الاجتماعي من تويتر، رغم فرضه لكمية محدودة من الكلمات، والفيسبوك المفتوح بصفحاته وجدارياته المختلفة وغيرهما، قد فرضت وجودها في الحياة الثقافية والاجتماعية وحتّى السياسية بشكل عام. فهذا التأثير الالكتروني في حياتنا قد بلغ ذروته، إذْ لم يكتف بفتح حقول جديدة كالاتصال والتواصل بين الأفراد أو المجموعات صوتا وصورة، بل فتح مجال النشر، الّذي كان محتكرا من فئة معينة تمتلك المهنية والقدرة على الكتابة نقدا أو تحليلا أو نصوصا إبداعية، بل زاد في توسيع نطاق انتشاره دون شرط ولا قيد في وقت قياسي.
لقد تحوّلت هذه المنابر الالكترونية إلى فضاء نشر لا رقابة عليه ولا خط يوجهه، وبذلك منح فرصة للمثقف والكاتب لنشر مادته وقت ما يشاء وكيف يشاء، وفي نفس الوقت يمكن معرفة صدى كتاباته سواء بعدد اللاّيكات وبالنقاشات المثارة في التعليقات، والّتي غالبا ما تكون نقاشات تفتقد لأية منهجية وموضوعية ولايكات مجانية لا نعرف مصدرها ومنبعها. ولا شك أنّ هذا يجرّنا للحديث عن مصداقية وقيمة ما يُنشر بهذه المنابر الافتراضية؟ وعن العدد المتزايد للكُتاب والشعراء والمُحللين السياسيين والاجتماعيين وحتى الفقهاء والدعاة؟ مثلما نتساءل عن مراحل ومحطات مرور النصوص؟ وفي الإجابة عن هذه الأسئلة يتضح لنا خطر النشر الالكتروني وسلبياته الكثيرة رغم سرعة النشر والانتشار للنص ولصاحبه، لذلك فإن الكاتب الّذي يحترم قراءه لا زال يفكر بالنشر الورقي وقد يعمد إلى نشر مقتطفات أو مختصرات من نصوصه في المنابر الالكترونية فقط كمحاولة لفهم ومعرفة صدى بعض المتلقين الّذين يعرفهم واقعيا. أو يعمل على جلب انتباه القراء والمتتبعين لعمله القادم من باب الإشهار له، وهناك كثير من الكُتاب ينشرون أعمالهم رقميّا دون التفكير في النشر التقليدي، خاصة كُتاب الجيل الحديث الذين كبروا مع هذه التقنيات الحديثة، دون المرور عبر لجان القراءة والتصحيح وانتظار طويل قد يتعدى أشهرا ليروا أعمالهم بين أيدي القراء.
خالد بن صالح/ شاعر
القطيعة بين الكاتب والمنابر الثقافية التقليدية تحكمها عدة أسباب
الحديث عن القطيعة بين الكاتب والمنابر الثقافية التقليدية تحكمه عدة أسباب، لعل أهمها سقوط جل هذه المنابر في السطحية والرداءة وخواء المحتوى. واعتماد جل الجرائد الورقية على صحفيين غير مؤهلين لتأثيث تلك المساحة إن وجِدت بمواد لا ترتقي لأن تعكس طموح المتلقي وتروي عطشه الأدبي والفني. مأساة يضاف إليها غياب المجلات الورقية الثقافية التي عادة ما تؤسس لتقاليد تتعلق برصد جديد المشهد الثقافي وتكون فضاء حرا للإبداعات الجادة. في جلسة مع الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير، قال لي أذكر جيدا القصيدة الأولى التي نُشرت لي في مجلة أدبية وكيف كان وقع ذلك على الأصدقاء وعليّ، في زمن كان فيه نشر نص واحد أو اثنين حدثا مهما في حياة الكُتاب.
أدرج هذا التصريح في محاولة لتسليط الضوء على ثلاث أفكار أساسية. الأولى ترتبط بالمبدع ونصه والطريقة التي يقدمه بها. وهنا تطفو إلى السطح الأمراض والعُقد التي كشفت عنها مواقع التواصل الاجتماعي نتيجة تحقق فرصة التفاعل مع القُراء الذين يصعب تصنيفهم.
ثانيا وفي المقابل انسحاب أو عدم مراعاة المعايير المحكمة للملاحق الثقافية الورقية جعل الكثير من الكُتاب يعزفون عن النشر والاهتمام أصلا بما يُنشر في هذه المساحات على قلتها. لا أنكر أن هناك جو من اللامبالاة الناجم عن رداءة ساهمنا جميعا في توطينها، مع ذلك هناك محاولات لفتح نوافذ على أفق جديد وتكريس مفاهيم مثل الرأي، وقراءة الكتاب. والنقد الجاد، ومتابعة كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالجانب الثقافي. شخصيا ومنذ سنوات بعيدة لا أنشر إلا في موقع إلكتروني واحد هو مجلة ثقافية متخصصة ولها خط افتتاحي واضح الملامح والطموحات. وحتى القصائد أو النصوص التي أنشرها مثلا في الفايسبوك وتلقى تفاعل الأصدقاء تبقى غير مكتملة وبحاجة إلى أن تُحظى بمكان أنسب ومتلقي مهتم.
ثالثا وبين هذا وذاك لا يمكن الحديث عن مشهد أدبي أو فكري فعال دون منابر ورقية ومجلات متخصصة. ليس كل من كتب حرفا كاتبا وليس كل من نشر كِتابا كاتبًا. الكاتب الحقيقي ليس بعدد اللايكات والتعليقات ولكن بما يقدمه من إبداع وجهد كفيلين بأن يمنحاه ما يستحق من تقدير واهتمام.
هواجس كثيرة تؤرقني ومع ذلك لا أتوقف عن ترديد جملة سعد الله ونوس «نحن محكومون بالأمل» على أمل أو شقاء أن تتحقق أحلامنا في رؤية مجلات وملاحق ثقافية جزائرية تساهم بشكل مباشر في تحقيق المبتغى، بتكريس مبادئ الحوار والنقاش الحر والانتصار لجماليات الحياة والفن.