"كلُّ شيءٍ ممكن، لكنْ لا شيءَ ممكن، أليسَ هذا مأزق الكتابة..؟" •أدونيس
الكتابةُ التي نزعمُ أنَّنا بها نحيا ليسَتْ إلاَّ نصًّا واحداً و وحيداً نكتبُهُ ونظلُّ وقوفاً عليهِ بالسقايةِ والرِّفادة، في متتاليةٍ منَ النصوصِ التي لا تني تتوقفُ أبداً، تقولُ البصمةَ المتفرِّدةَ في دورانها حولَ نفسِها، كأنَّها البدءُ الذي يسعى إلى بدئهِ الأول ولا ينتهي أبداً، لعلَّهُ يتشظَّى في الأعالي منَ الكينونة، وينتظرُ الرياحَ اللَّواقحَ وقدْ أصبحَ غيماً فيتنزَّلُ ودقاً مدْراراً، فتستعيدُ الكتابةُ بهِ سيرَتَها الأولى منْ واقعيَّتِها إلى سحريَّتِها في ثنائيَّتِهما المجيدة، لا الواقعُ واقعٌ إذْ يخالطهُ السحرُ ولا السحرُ سحرٌ إذْ يغشاهُ الواقع،وكلٌّ في فلكِ الكتابةِ يسبحان…
جمال فوغالي
هذا ما ينبغي أنْ تكونَ عليهِ الكتابةُ عندما تذهبُ عميقاً في حدْسِها ثمَّ تجيءُ حبلى وتستمرُّ في تعدُّدِها وتنوعِها ثراءً أو هزالاً، كثرةً كغثاءِ السيلِ العرمرمِ أو قلَّةً كقطرةِ العسلِ المصطفاةِ منْ رحيقِ الروحِ في حريقِها والاشتعال، في الشِّعرِ أو في الروايةِ أوْ في غيرِهِما منَ الفنونِ الأخرى، سيَّان،ويأخذُ أولُها بآخرِها وبعضُها منْ بعضٍ صِنْوانٌ وغيرُ صنوان،منْ قديمها الممتدِّ في القدامةِ المعتَّقةِ إلى المعاصرةِ وقدْ خلعَ بعضُهُما على بعضٍ رداءَ هذي الحداثة،فمنْهما طيبٌ نضِرٌ ومنهما سبْخٌ أجاج… فهلْ يعودُ بعضُنا إلى ما دبَّجهُ وأعلنَهُ في الناسِ متباهيًّا بهِ ومفتَخراً فيرى فيهِ ما يرى، ولْيكنْ صادقاً أمامَ بياضِ الورقة وقدَّامَ مرآةِ ذاتِه؟ والنَّقدُ في المتاهةِ الكبرى منْ هذي الرَّمادة، والنَّقدَةُ في بُلَهْنيَّةٍ ممَّا يقرأونَ تسطيحاً للكتابةِ وابتذالاً لها واغتيالاً لروحِها،والمُكاءُ يستصرخنا اعلُوا الرَّداءاتِ اعلوها وأقيموا لها الولائمَ ووثِّقوا لها بالصورِ الملوَّنة،إنَّا الحاكمونَ بأمرها ونحنُ المؤرخونَ لها والسَّدنة، ونحنُ عرَّابوها والقائمونَ على معبدِها أنْ يميد، وهذي التَّصديَّةُ في ذا الفراغِ المهولِ الأمارَةُ والدَّليل من ضربِ الطبولِ والنفخِ في الريحِ الدَّبور…
وماذا لوْ أجرينا الفحصَ وقرأنا الحمضَ النَّوويَّ الذي في اللغةِ التي نكتبُ بها؟ في التيماتِ قاموساً وأنساقاً،تقديماً وتأخيراً، أسلوباً وإيقاعاً وموسيقى،بحثاً واستقصاءً ومعرفة،حبكاً وسبكاً وربطاً، استرسالاً وإيجازاً وتورية، بناءً يعلو علوَّهُ الفنيَّ في معماريَّتِهِ الجماليَّة، سرداً يندفعُ كمياهِ الأنهارِ في ليلةٍ ممطرة، وشخوصاً تتأبَّى على كاتبِها وتريدُ حريَّتَها رؤيةً ورؤيا، وفلسفةً تستدعي الكينونةَ كيْ تسائلَها شعريًّا، والشعرُ جوهرُ كلِّ كتابةٍ وهو نواتُها،وأفكاراً تحاورها في غموضِها والوضوح،ومجازاً يقودكَ لحقولِ الدَّهشةِ الغامرة في انزياحاتِها البهيجةِ والعدولِ عنِ الحقيقةِ إيهاماً بواقعيَّتِها،كالظلِّ منَ الشجرِ فيضاً وامتلاءً وشطحاً ومغامرة… فماذا ستكونُ نتائجُ التحليلِ منَ الحمضِ النَّوويِّ منَ الكتابة..؟ هلْ يمكننا أنْ نكونَ صادقين ليتأكدَ لنا،كُتَّاباً وقرَّاء،وسنظلُّ كذلكَ حتَّى نلقى كِتابَنا الأخير،أنَّ ما نكتبُ قدْ نجدُ فيهِ الحمضَ النَّوويَّ الذي يختلفُ فيهِِ بعضنا عنْ بعض أمْ أنَّ الكتابةَ باتتْ نسخاً مستنسخةً هجينةً كأننا نكرعُ منْ موردٍ واحد متذامرينَ إلى عدْوتيْهِ تكراراً واستنساخاً وهُجْنة؟ كأنَّ الصَّدى منْ أبي سلمى هنا يتحدَّى: "ما أرانا نقولُ إلاَّ رَجِيعاً ومُعاداً من قولِنا مكْرُوراً…" وأينَ الأحماضُ النَّوويَّةُ الأخراةُ التي تفرِّقُ بينَ نصٍّ وآخر؟ ولا تنتسبُ أبداً إلاَّ لمورِّثاتِهِ الجينيَّةِ التي في اللحمِ وفي العظمِ وفي النَّقا،والتي في الحشا وفي الشِّغافِ منَ اللغةِ التي نزعمُ أنَّنا نبدعُ بها،والتي تمنحُنا أحقيَّةَ الفرادةِ والاستمرارِ والمفاخرة،فنرسيسُ يحقُّ لهُ أنْ يكونَ هنا في المكابرة،أو علينا التوقُّفُ عنِ الزيفِ الذي لا اسمَ لهُ غيرُ الزيفِ المصعِّرِ خدَّهُ ثمَّ إنَّهُ لا يستحي،وكيفَ للزيفِ أنْ يستحي وهو يمشي مرِحاً فخوراً بيننا وفي الأسواقِ وفي هذا الفضاءِ السَّحيقِ ولا يتخفَّى،وعليهِ شملتانِ منَ الادِّعاءِ والبُهتان،ويتكىءُ سافراً والعصا هذي الصفاقة،وقدْ تهدَّلتْ أوداجُهُ وتعرَّتْ منهُ التَّجاعيد؟ أليستِ الكتابةُ في جوهرها المكينِ منَ القلبِ مضغةً منَ الصدقِ ولا شيءَ غيرُ الصدقِ في الغوْرِ العميقِ منَ النورِ الذي في البدءِ منَ الخليقة؟ وقدْ تكونُ المُضغةُ أمشاجاً منْ دمٍ متكبِّدٍ وقدْ يكونُ الدَّمُ شاخباً،أوْ لعلَّ النطفةَ غيرُ مخلَّقةٍ فتكونُ مسْخاً ميتاً أوْ سقْطاً خديجاً،أمْ أنَّنا سنجدُ عنترةَ يقفُ أمامنا بفيضِ نصِّهِ العارمِ الذي قُدَّ منْ صهدِ الرملِ وحريقِ النَّزفِ وحشرجاتِ السؤال،وحمحمةِ الحصانِ منْ بثِّهِ والشَّكوى،ومنْ غبارِ الأفقِ وقدْ تغبَّشَ منَ السَّرابِ بالهاجرة،ومنَ النواهلِ تقطرُ منْ بيضِ الهندِ بهذي الجراحات،ومنْ عشقِهِ لعبلةَ يريدُ تقبيلَ سيفِهِ وقدْ لمعَ منْ بارقِ ثغرِها المتبسِّم: "هلْ غادرَ الشعراءُ منْ متردَّم..؟" هلْ؟
يا للسؤالِ المنغرسِ رُمحاً في خاصرةِ الكتابة،وقدِ انفتحَ على جرحِ الأبديَّةِ في الأنَّةِ المستمرَّةِ منْ أدبيَّةِ الكتابةِ ذاتِها! ماذا لوْ لمْ نجدِ الحمضَ النَّوويَّ الذي في دمِ الكتابةِ منْ انكساراتِنا والآلامِ ومنْ أفراحنا المشوَّهةِ اليابسة في ذا اليباب؟ وماذا لو لمْ نجدْ أنينَهُ الجارحَ في الصدقِ منَ الخفقِ الذي في قلوبِنا والأنباضِ منذُ الرٍّجفةِ الأولى التي قدْ تمنحنا بعضَ ما تبقَّى منْ صدقِنا في ذا الخراب؟ وليسَ لي منْ جواب… ألا نجدُ هذا الحمضَ النَّوويَّ عندَ امرىءِ القيسِ وذي الرّمَّة والمتنبي وابنِ عربي وأبي تمام وأبي العلاء والجاحظ والتوحيدي وسعدي يوسف وجبران والسيَّاب والماغوط والشابي والملائكة ومفدي زكريا ولوصيف درويش وأدونيس، تمثيلاً لا حصراً؟ ألا نجدُهُ أيضاً عندَ محفوظ والغيطاني ومنيف وحيدر حيدر والسمَّان ومستغانمي وبركات والطيب صالح والمسعدي وكنفاني وبقطاش وفرج الحوار ووطار وابن هدوڤة، تمثيلاً مرةً أخرى وليسَ حصراً..؟ وماذا نحنُ فاعلونَ إذا لمْ نجدْ هذا الحمضَ النَّوويَّ الذي يدلُّ علينا ويشبِهنا؟ فهلْ بأعماقِنا مثقالَ ذرَّةٍ واحدةٍ منْ حياء أمامَ هؤلاءِ وغيرهمْ ممَّنْ سميتُ وممَّنْ لمْ أَسَمِّ؟ونقرأُ لهمْ جميعاً وما نزال،في مشارقِ الصحارَى ومغاربِ البحار،ونعرفهمْ دونَ أنْ تبينَ أسماؤهمْ، فتدعونا نصوصُهمْ إلى أسمائهمْ،وقدْ أشرقتْ أنوارُها على حمضها النَّوويِّ في كتاباتهمْ منْ أرواحهمْ في صفائها والخلود،ومنْ ذهبِها الخالصِ المشعِّ في بهائها ممَّا مضى منَ الكتابةِ وممَّا سيجيءُ منها لأجيالنا القادمة؟ كأنِّي أسمعُ صوتَ أدونيس في ذا الحضورِ الشَّاهق: "ما مضى حاضرٌ،وما سيجيءُ اجترارٌ لما كان"...