هل بإمكان المُثقف أن يكون من صُنّاع المحتوى المؤثرين؟ وهل يمكن أن يكون مُبدعاً لمحتوىً مُؤثر هادف ومسؤول، خاصةً وأنّه من الضروري أن يحدث هذا في زمن صُنّاع المحتوى العشوائيين إن صح التعبير، والمُنخرطين في صناعة محتوى التفاهة والتسطيح. هل المُثقف غير قادر على صناعة محتوى ثقافي على المنصات الأكثر تأثيراً مثل اليوتيوب –مثلاً-، وهل يعني هذا أنّه أيضا غير قادر على الإقناع والتأثير، ولماذا هذا الاِعتقاد بأنّ المُؤثر المُثقف لا يُحقّق الشهرة والاِنتشار والإثارة أو التأثير؟ ولماذا لا ينخرط أكثر وبشكلٍ أو بآخر في صناعة المحتوى، حفاظاً منه على الدور الريادي الّذي اضطلع به المثقف في المجتمع، وما مدى مسؤولية النُخب بأنواعها المُختلفة في إنتاج المعنى والمفاهيم في مجتمعاتها ومن بينها صناعة المحتوى؟ خاصةً وأنّ المُثقف يعتبر في طليعة من عليهم الحضور التفاعلي والقيام بدور المُؤثر. وعلى رأي الدكتور بشير خليفي: هل بَقي للمثقف مَوطئ قدم في زمن «السوشيال ميديا»؟ يبقى السؤال أيضاً: لماذا نشطت صناعة المحتوى المُبتذل والمُسطح وغير المسؤول؟ ولماذا الجمهور يتفاعل عادةً مع المحتوى غير الجدي وغير الهادف و-التافه أحيانا-، ولا يتفاعل مع المحتوى الثقافي الّذي يُقدم فِكراً وإبداعاً.
أعدت الملف: نـوّارة لـحـرش
الكاتب والناشر كمال قرور
متغيرات طارئة نشطت صناعة المحتوى المُبتذل والمُسطح وغير المسؤول
يقول الكاتب والناشر كمال قرور: «(الوسيلة هي الرسالة)، ولستُ أدري لماذا تذكرتُ هذه العبارة العميقة للباحث الكندي مارشال ماكلوهان مباشرةً بعد قراءة السؤال».
مُضيفاً: «الإجابة عن الشطر الأوّل من السؤال بسيطة وبديهية ولا تحتاج نقاشاً، بالتأكيد لا أحد يُشكك في دور المُثقف، منذُ فجر الكتابة والمعرفة، في صناعة المحتوى، الهادف والمسؤول. وللأمانة هذا المُثقف كان يحظى بالاِحترام والتوقير والتبجيل وتُضفى عليه أحيانًا هالة من القداسة».
وفي ذات السياق، واصل قائلاً: «اليوم ما أكثر المُثقفين المُنخرطين بشكلٍ أو بآخر في صناعة المحتوى، إيمانًا منهم بدورهم الريادي في مجتمعهم على خُطى من سبقوهم، رغم تفشي: التفاهة والتسطيح والإسفاف والاِبتذال وهي مجتمعة أصبحت تُشكلُ ظاهرة تستحقُ الدراسة والتحليل».
مُشيراً إلى أنّه وبعد ظهور الثورة المعلوماتية التكنولوجية في نهاية القرن الماضي، والتي أدت إلى اِنفجار وسائط التواصل الاِجتماعي، واكب المُثقف هذا التطور باِحتشام ولكنّه وبمسؤولية بقيَ وفيًا لرسالته ومحتواه بأدنى تأثير غير مُكترث بسطوة وفتنة التقنية التي أصبحت هي وسيلة ورسالة روّاد المحتوى الجُدّد.
أمّا الشق الثاني من السؤال فهو -حسب المُتحدث- «صراحةً مُربك، والإجابة عنه ليست جاهزة كونه يُمس ظاهرة العصر وهي مُعقدة ومُحيرة في الوقت نفسه، وقد يحتاج التحليل الموضوعي غير المُتهافت لعلوم الإنسان كعِلم الاِجتماع وعِلم النفس وعِلم الأنتربولوجيا».
ثم أردفَ قائلاً: «اليوم وبعد طفرة وسائط التواصل الاِجتماعي وسطوة الوسيلة وتهافت الجميع واِنخراطهم في صناعة المحتوى بعيداً عن المسؤولية الأخلاقية والاِجتماعية في ظل متغيرين طارئين هما شراهة المال وشراهة الشهرة، نشطت صناعة المحتوى المُبتذل والمُسطح وغير المسؤول».
مُؤكداً أنّ ظاهرة المحتوى المُسطح والتافه والمُبتذل أصبحت اليوم سمة عالمية مُشتركة تمسُ المجتمعات المُتطورة والمجتمعات المُتخلفة، على السواء.
فمجتمعات «المشروع» المُتطورة -حسب رأيه- ما بعد الصناعة وما بعد التكنولوجيا هي مجتمعات الاِمتلاك والوفرة والرفاه والتخمة والأمن وإشباع الحاجات والغرائز، لذلك تحتاج للترفيه، وللـ»تدليك» لتُمارس حقها في الكسل والدعة والعبث واللامعقول.
أمّا مجتمعات «اللامشروع» المُتخلفة أو ما قبل الصناعة وما قبل التكنولوجيا هي -كما يضيف- مجتمعات الحرمان والقلاقل والخوف والقلق والجوع والإخفاق، فهي تحتاج لترفيه إلهائي «مُسكِن»، لمُواجهة ضغط الواقع المُر والأليم والغد المجهول لذلك فهي ترفض ولا تقبل أي تفكير نقدي منطقي وعقلاني حتّى لا تشعر بوخز الضمير وتوبيخه.
وخلص إلى القول: «إنّ المجتمعات التي لا تملك مشروعها، لا تختلف عن المجتمعات التي تنهي مشروعها تسقط معًا في عولمة القابلية للتسطيح والتتفيه والاِبتذال».
أستاذ العلوم السياسية فؤاد منصوري
على المُثقف عدم الاِستقالة أمام ناشري المحتوى الرديء
يقول، أستاذ العلوم السياسية، بجامعة عنابة، الدكتور فؤاد منصوري: «على مر التاريخ، حقّقت الأُمم مرادها بفضل نُخبها المُختلفة التي كانت المنارة: تتوقع تسير تقيم وتعدل ضمن سيرورة المُراجعة الدائمة فهي بمثابة الرأس في الجسد مسؤولة على توازن المجتمع وإيجاد البدائل المُواتية في حالة الأزمات. فهي المقترحة للمشاريع والآليات التي من شأنها الدفع به نحو كسب حاضره ومستقبله وتزيد هذه التحديات وقعًا على المجتمع كلما اِنخفضَ توهج وتأثير نخبه».
مُضيفاً: «تعرف النخبة أو الصفوة وهي الفئة المُثقفة بالمفهوم العام للثقافة على أنّها فئة من المجتمع تمتلك خصائص تميزها عن باقي فئات المجتمع مثل الرأسمال المعرفي، الرأسمال الاِقتصادي -الملكية-... مِمّا يُؤهلها لقيادة وتوجيه مجتمعها ويُميز (باريتو) بين نوعين من الصفوة -على أساس مُمارسة الحكم– صفوة حاكمة وصفوة غير حاكمة وهذا عكس (موسكا) الّذي يربط النخبة أو الصفوة بمُمارسة السلطة والحُكم. أمّا (ميتشلز) فيرى أنّ النخبة أو الأوليغاركية تحكم بفضل المُؤهلات التي لا تتوفر لغيرها ولقد فسر (ميلز) كيف تتحكم النخب على مستوى مصغر في القرار السياسي الأمريكي».
وكتعريف إجرائي -يرى المُتحدث- أنّ النخبة أو الصفوة فئة قليلة من المُجتمع تمتلك رأسمال معرفي وثقافي واِقتصادي وتمتلك (مشروعا) بآليات تحقيقه وتكون مُؤثرة في مجتمعها من خلال القيادة والتوجيه.
الدكتور منصوري، قال في ذات النقطة: «بالنظر إلى الرساميل التي تغذي النخب يمكن أن نُصنفها إلى نخبة سياسيّة وهي المُتواجدة في ماكنة المنظومة السياسيّة من أحزاب سياسيّة ومؤسسات حُكم.. نخبة عسكرية وهي الفئة المسؤولة على إدارة المؤسسة العسكرية في مجتمعها وقد ساهمت في الاِنتقال الديمقراطي في بعض المجتمعات. نخبة اِقتصادية وهي الفئة المالكة والمديرة لوسائل الإنتاج الاِقتصادي مثل أرباب العمل وأصحاب المؤسسات والمشرفين عليها من الصف الأوّل. نخبة ثقافيّة وهي الفئة المالكة للرأسمال الثقافي مثل الأدباء والشعراء وكُتّاب الرواية والإعلاميين والسينمائيين والمسرحيين... نخبة علمية وهي الفئة المالكة للرأسمال العلمي مثل أساتذة الجامعة والباحثين والأطباء والعُلماء عمومًا ونخبة تقنوقراطية وهي الفئة التي تمتلك رأسمالا أمبريقيا مثل المهندسين والتقنيين في مختلف المجالات».
وكلّ هذه النُخب بأنواعها المُختلفة -حسب الدكتور منصوري- مسؤولة على إنتاج المعنى والمفاهيم في مجتمعاتها ومن بينها صناعة المحتوى التي تُشير إلى نشر المعلومات عن طريق وسائط رقميّة تهدفُ إلى التأثير الإيجابي الّذي يُحْدِثُ وعياً لدى شرائح المجتمع. ولعل هذا الدور تراجع لصالح فئات لا يمكن تصنيفها في مصنف الطبقة المُثقفة والتي أصبح دورها سلبيًا من خلال نشر المعلومات الكاذبة والمُضللة والمحتوى التافه الّذي لا يرتقي بالوعي إلى الإدراك العقلي لفهم الأمور والظواهر على حقيقتها.
ولعل ما ساعد على اِنتشار هذه البيئة -كما يقول المتحدث- هو غياب قانوني من جهة يُحَمِّلُ هذه الفئة مسؤولياتها في حالة تجاوز الحدود والذوق العام للفرد والعائلة الجزائرية المُحافظة بطبعها إضافةً إلى تشجيع بعض وسائل الإعلام لهذا النوع الرديء في الاِنتشار الّذي لا يعني الجودة أو التميز.
وضمن هذا التصوّر -حسب رأيه دائماً- «وجب على المُثقف تحمل مسؤولياته وعدم الاِستقالة أمام بعض ناشري المحتوى الرديء وكذلك ضرورة وجود إطار تشريعي يُحَمِّل كلّ طرف مسؤولياته بالنظر إلى تقاليد وثقافة مجتمعنا المُتفق حول قيمها ومعاييرها».
الكاتب والإعلامي عمّار بورويس
المثقف الجزائري تقليدي لم يتصالح مع التكنولوجيا
يعتقد الكاتب والإعلامي عمّار بورويس، أنّ ما يمكن ملاحظته، للوهلة الأولى، بهذا الشأن، أنّ هناك ما يُشبه القطيعة بين المُثقف ووسائل التواصل الاِجتماعي. بل أنّ هذه القطيعة تبلغُ أحيانًا حد العداوة. ويأتي ذلك في الغالب -حسب رأيه- لأنّ المُثقف لم يتمكن بعد من التخلي عن (وسائله ووسائطه) التقليدية. إنّه يكتبُ باِستمرار وينتج يوميًا، ويُبدع، لكن في وسائله الخاصة. وهيَ الكُتُب والجرائد وعلى أمواج الإذاعة وبلاتوهات القنوات التلفزيونية القليلة التي تهتمُ بهذه المجالات.
وواصل في ذات المعطى: «إنّ المُثقف عندنا يُعد بذلك تقليدياً، لم يُعْلِن بعد مُصالحته المُنتظرة مع ما تُوفره التكنولوجيا الرقمية من فُرص كبيرة للاِنتشار والشهرة والتأثير، إلاّ في القليل النادر. ثم هناك أمرٌ آخر. مُثقفون كُثر ينظرون إلى وسائل التواصل الاِجتماعي على أنّها (سيئة السمعة)، ولا تليق بذلك، بإنتاجهم الفكري والمعرفي (الجاد). وإن كان هذا الكلام لا يُجانب الحقيقة، فإنّه ضاعف من عزلة المُثقف بعزلة (رقمية) هذه المرة».
ومع ذلك فهناك مُثقفون -حسب ذات المُتحدث- اِستطاعوا أن (يحتلوا) هذه الوسائط، وأن يصنعوا لأنفسهم أسماءً من ذهب، وأن يُصبحوا بدورهم (مؤثرين) يحصدون الإعجاب بالآلاف، وأحيانًا بالملايين. صاحب «ليالي سردينيا»، أضاف مُوضحاً: «ينبغي، في اِعتقادي، أن نُشير إلى مسألة أخرى على درجة كبيرة من الأهمية، تُشكلُ في حد ذاتها (دفاعًا) عن المُثقف. ويتعلقُ الأمر بالمُحيط الّذي يُقبِلُ على تشجيع نوع معين من المُؤثرين على حساب المُؤثر الجاد والهادف. لقد لاحظنا أنّ العديد من القنوات التلفزيونية مثلاً، أو المُعلنين التجاريين، يتعاطون بشكلٍ كبير مع المُؤثرين (العشوائيين) من أصحاب المحتوى الثانوي، على حساب المُؤثرين المُثقفين. ويعتقدُ هؤلاء أنّ المُؤثر المُثقف لا يُحقّق الشهرة والاِنتشار والإثارة، ولذلك يتم تجاوزه وإهماله».
وقد أرجعَ المُتحدث مسؤولية هذا إلى الجمهور بالأساس وإلى المناخ الثقافي السائد، وهذا ما خلص إليه من خلال قوله: «عندما يتفاعل الجمهور مع محتوى المؤثرين (العشوائيين) بشكلٍ لافت، وليس مع محتوى المُؤثر (الجاد)، فتلك مسألة على قدرٍ كبير من الأهمية، تُحيلنا إلى مسؤولية الجمهور وليس إلى مسؤولية المُثقف. ويُحيلنا ذلك في النهاية إلى موضوعٍ آخر يتعلقُ بالمناخ الثقافي السائد، الّذي يُشجع التفاهة في كثيرٍ من الأحيان، على حساب الإنتاج الهادف الّذي يحملُ الأفكار والقيم والمعارف، ويُروِجُ للجمال والأخلاق والسمو».
الكاتب والناقد محمّد بن زيان
من الواجب أن يكون المُثقف من صُنّاع المحتوى المؤثرين
يتناول الناقد والكاتب محمّد بن زيان، الموضوع، اِنطلاقاً من خصوصية كلّ عصر، وهنا أبدى رأيه قائلاً: «لكلّ عصرٍ تحدياته ولكلّ عصر آليات تواصله وبلاغته، ولا يمكن الحفاظ على حيويتنا وراهنيتنا إذا اِفتقدنا الاِستجابة للتحدي ونوعية اللااِستجابة هي التي تُحدّد المصير، وهو ما أبرزه توينبي في دراسته لمسار الحضارات، دراسة لخصتها قاعدة التحدي والاِستجابة. وبإمكان، بل من الواجب أن يكون المُثقف من صُنّاع المحتوى المؤثرين لأنّ محتويات مواقع الإعلام التفاعلي أو التواصل الاِجتماعي صارت سمة العصر».
وواصل قائلاً: «لأنّ المُثقف مُنتج للرأسمال الرمزي. بتعبير بيار بورديو، يُعتبر في طليعة من عليهم الحضور التفاعلي وعليهم القيام بدور المُؤثر. لكن لا يمكن صياغة الحضور المُؤثر، بدون اِستيعاب بلاغة العصر، ومُقتضيات التواصل في المواقع لها شفرات بلاغتها التي تتميّز بالبساطة والوضوح والإيجاز والاِنسيابية التي تُحقّق التفاعل، وامتلاك مؤهلات التفاعلية في شبكة تواصل أُفقي لا يحتمل التواصل العمودي».
والسؤال حول سر التفاعل مع المحتوى التافه، -حسب بن زيان- يفضي إلى السؤال عن فاعلية وجاذبية التواصل، وبالتالي السؤال عن بلاغة محتوى المواقع. السؤال عن محتوى جاذب ومحتوى يفتقد الجاذبية ولا يتضمن مقومات بلاغة تواصلية تجاوزت النسقية المدرسية والنمطية.
صاحب «متاهة المغراوي»، أضاف في ذات السياق: «لقد أشار المُفكر مالك بن نبي إلى أنّ لكلّ فكرة بُعدين، بُعد الأصالة وبُعد الفعّاليّة، هناك أفكار عظيمة لكنها تفتقد فعّاليّة التواصل وهناك أفكار سخيفة أو هدامة لكنها تمتلك فعّاليّة التواصل، وهنا مربط الفرس».
وواصل موضحاً: «لا يمكن أن يُؤثر محتوى يتعمد صاحبه التعامل بتعالي وبنظرة كائنات البرج العاجي المنفصلة عن الواقع، ولا يمكن تحقيق الأثر بصياغات لغة مُعلبة مُثيرة للنفور والضجر.. هناك بعض المثقفين يتوهمون أنّ حضورهم الثقافي المُؤثر يكون باِستعراض المصطلحات وترديد أقوال فلاسفة ومحاولة الظهور بلغة مُعقدة ومُلغزة لكي يبرهنوا على نخبويتهم. لا يمكن لمن يراه المُتلقي مُصْطَنَعًا ومُتعالياً أن يكون مُؤثراً. إنّ التفاعلية تقتضي الإحساس المُتبادل بالتناغم والتوافق».
بن زيان، يرى من جهةٍ أخرى، أنّ المُثقف يمكن أن يكون مُبدعاً لمحتوىً مُؤثر، بتمكنه من اِمتلاك شفرات التواصل ولا يمكن اِمتلاك ذلك إلاّ باِستيعاب حيثيات الواقع وخصوصيّات المُتلقين الذين تتباين مستوياتهم، تباينًا يتفاعل في المواقع.
وحسب قوله، فإنّ في مرجعية ما قبل المواقع، عيناتٌ دالة على القدرة على التأثير، مثلاً في سبعينيات القرن الماضي كانت نماذج لتأثير الفاعل الثقافي ومنها أحاديث المرحوم الشيخ محمّد كتو الدينية وأحاديث المرحوم عبد الله شريط الفكرية الإذاعية وطرائف المرحوم محمّد لخضر السائحي وحصص المرحوم يحيى بوعزيز التاريخية، وهناك راهنًا بعض النماذج الجديرة بالتثمين والتعميق.
وخلص إلى أنّه «بدل اِنتقاد جمهور المواقع، علينا أن نفهمه وأن نجتهد لكي نُحقّق المُعادلة المنشودة والواجبة وهي جدلية النزول إلى الميدان والعروج به نحو مستوى الوعي الّذي نحتاجه كلنا. الإنصات إلى هُتاف الصامتين بتعبير سيد عويس. هو المنطلق لبلورة حضور مُؤثر نوعي».
الباحث الأكاديمي بشير خليفي
المُثقف قادر على التأثير لكن هناك عوامل تُصّعِب مُهمته
يقول الباحث الأكاديمي والمُترجم، الدكتور بشير خيلفي: «عادةً ما يرتبطُ المُؤثر بمهاراته في الجذب والإقناع، فهو الشخص الّذي يحوزُ على عددٍ كبير من المُتابعين، ويملكُ بموازاة ذلك القدرة على التأثير في آرائهم وسلوكاتهم. لقد أضحى ما يُعرف بـ(المؤثرين) جزءًا مُهمًا من المشهد الإعلامي في العصر الرقمي».
وأضاف قائلاً: «يقومُ المؤثرون بدورٍ فعّال في تشكيل الرأي العام وتحديد الاِتجاهات والسلوكيات. الأمرُ الّذي يُتيحُ لهم أن يكونوا مُروّجين بارعين للعلامات التجارية، حيثُ يُمكن أن تؤدي توصياتهم إلى تشكيل رؤية جديدة ومن ثمّة زيادة المبيعات. وفي الغالب يكون المؤثرون خُبراء بحُكم تجربتهم في مجالٍ مُحدّد على غرار القراءة، السفر، الموضة، الطعام، الألعاب.. كما يُمكنهم بالمقابل أن يقوموا بدورٍ مُناقض تمامًا إمّا عن قصد أو خطأ أو سوء نية في نشر معلومات خاطئة أو الترويج لمنتجات أو سلوكيات ضارة».
وهنا واصل مُوضحاً فكرته ورأيه: «عادةً ما يرتبطُ الدور المُناقض المُشار إليه بصناعة ما أصبحَ يُعرف بـ:(التفاهة) التي تُحيلُ إلى مضمون التواصل الّذي يفتقر إلى العُمق والقيمة الفكرية، وفي العادة يُركز المحتوى الّذي يُنعت بكونه (تافهًا) على غاية جذب المشاهدات والإعجاب عن طريق التسلية، التشويق، التبسيط الّذي لا يحتاج معه المُتفاعل إلى اِستعمال وسائط إدراكية عالية المقام، ومثال ذلك الإثارة والأسلوب الصادم في جذب الاِنتباه من خلال طبيعة اللّغة أو طبيعة المحتوى الّذي يروم الإلهاء على غرار (الحمِيمِيات) في حياة المشاهير أو طبخ الشوارع، السخرية المُتولدة من لحظات السقوط والعطب، أو في مُتابعة أولئك الذين لا يُراقبون أحاديثهم والذين تحدث عنهم الجاحظ كثيراً، لقد عادت حكايات سوق (المرّبد) الشهيرة بثوب مُختلف يفتقر إلى الصنعة اللغوية والمقصد الجميل، ولكنه يتقاطع في الإثارة..».
وما دام الأمرُ كذلك -يُضيف المُتحدث- فإنّ سطحية المحتوى بهذا الفهم لا تتواءم مع غاية العُمق في المضمون الّذي يُحفِزُ التفكير النقدي والإبداعي؛ بِحُكم اِرتباطه بالغاية الأولية والأولى والمُتمثلة في (توليد النقرات وتضخيم المُشاركات)».
ثم أردفَ مُستدركاً: «طبعًا، لا ينبغي فهم التحليل أعلاه أنّه دعوة إلى الجدية الصارمة التي لا تعترف بضرورة الترويح عن النفس؛ خُصوصاً بعد لحظات الجد والاِجتهاد، المعضلة هنا، أنّ العرض أحيانًا أصبحَ يفرض نفسه، عبر تفعيل الخوارزميات، أو ما يُمكن تسميته بـ(التحيُّز الخوارزمي) نتيجة الطلب؛ إمّا طلب السواد الأعظم، أو بناءً على تفاعلات المُستخدم وتفضيلاته السابقة، وهو الأمر الّذي يجعل مُستعمل منصات التواصل أكثر عرضة لمشاهدة طبخ الشوارع، أو حديثًا مُبتذلاً لاِمرأة تُنظف الأطباق في بيتها أو لرجل لا يعرف ما يقول، عوض مشاهدة مُحتوى ثقافي يُقدم فِكراً وإبداعاً. وربّما لو تساءلت عن سر هذا الإدمان في المُتابعة، لسمعت أجوبة على غرار: إنّها وسيلة ترفيه وإلهاء، وُصولاً إلى كونها شروداً عن ضغوط الحياة اليوميّة وتعقيداتها».
وخَلص إلى القول: «من المُؤكد أنّ المُثقف قادر على الإقناع والتأثير على الآخرين، خاصةً إذا كان قادرًا على إيصال أفكاره بشكلٍ فعّال وتقديم الحُجج المُقنعة لدعم وجهات نظره. ومع ذلك، هناك العديد من العوامل التي تُصّعِب المُهمة على المُثقف في التأثير على مُريدي وجماهير وسائط ومنصات التواصل الاِجتماعي، مُقارنةً بالمؤثرين المشهورين الذين يعتمدون على الإثارة والسهولة، فللمثقف عددٌ قليل من المُتابعين، هذا إذا ألزم نفسه أن يُقدم خطاباته بشكلٍ مُباشر، أتحدث هنا عن المباشرة في الزمن والأسلوب، هذا زيادةً على سمة خطاباته والتي عادةً ما يتم وسمها بالنخبوية والتعقيد مع اِنعدام الإثارة، وفي الغالب يكون التجاوز والحجب مصير الأيقونة التي يظهر فيها وجه المُثقف في شاشة الهاتف الذكي، لصالح المُؤثر الغرائبي المُبهر صاحب كيس العجائب المملوء بالطرائف والاِستثناءات».
الكاتب والناقد عبد الحفيظ بن جلولي
المادة الثقافية تبدو غريبة أمام الترفيه والتفاهة
يعتقد الكاتب والناقد عبد الحفيظ بن جلولي، أنّ مصطلح «صناعة المحتوى» أصبحَ رائجا مع تطوّر وسائل التواصل الرّقمي، حيثُ أصبحت فضاءً مزدهراً ومفضّلاً للعرض، العرض بجميع أنواعه المادي والمعنوي، ومن هنا كان الفيسبوك واليوتيوب والتيك توك كلها مجالات لــ «صناعة المحتوى».
ثم أضاف قائلاً: «المُثقف وجد نفسه عالقًا في حنين قاتل لعالمه الحميمي الأوّل، وأتكلم هنا عن جيل مُعيّن، لأنّ الإشكال بدأ مع هذا الوجه من الصراع بين جيلين، أحدهما تربى على معطيات إعلامية تقليدية، والآخر وُجد في مرحلة التفجّر الإعلامي الإلكتروني، ومن هنا كان الفرق بين جيلين في اِستخدام واستثمار الأداة الإعلامية الجديدة، أو (الميديا الجديدة)، فالمادّة الثقافية تبدو غريبة في عالم تتلاطم فيه المحتويات والعروض، والتي إن لم نقل كلها فمعظمها ترفيهي يصل درجة الإسفاف، والآخر تجاري، وكلاهما يغلب عليه منطق الرّبح والخسارة، أي المنطق الاِقتصادي الصّارم الّذي لا تهمّه في نهاية المطاف سوى المادّة وما يُدره من مال على صانعه».
في ظل هذا التوصيف يصبح المُثقف -حسب المُتحدث- غريبًا عن هذا المجال، فأي محتوى يهتم بالعقل سوف يُقبل عليه من يبحث عن التّرفيه والمال؟
لكن -كما يضيف- «يبدو من خلال المُمارسة والمُتابعة أنّ المادّة الثّقافية أصبحت تُنافس المادّة الترفيهية، لأنّ العالم أصبح أكثر تعقيداً من أن تتحكم فيه التفاهة وحدها، صحيح أنّ التسطيح ظاهرة أصبحت عالمية تُعاني منها حتى المُجتمعات الأكثر تطوراً، وهذا فرانك فوريدي في كتابه (أين ذهب كلّ المثقفين؟) يتعرّض لها لاِستفحالها في المجتمع البريطاني».
وهنا اِستدرك قائلاً: «إذا اِستطاع المُثقف أن يتحكم في هذه الأداة ويُطوّعها وِفْقَ ما تتطلبه عقلية الرّبح والخسارة، أي يبحث عن كلّ الوسائل والعوامل التي يستخدمها صانع المحتوى الترفيهي ليُقدّم مادته ويصل بها إلى جمهورٍ مُعيّن، ومِمّا نُلاحظه أنّ بعض المحتويات الثقافية تجد رواجًا، من ذلك، ومن خلال مُتابعة بسيطة، أنّ بعض صانعي المحتوى الثقافي أصبحوا يُميلون إلى تقديم المادّة الثّقافية في شكل الدّرس العلمي لكن ليس بصرامته الأكاديمية، التي لا يمكن أن يخلو منها، لكنّها تُقدّم محلّلة إلى عناصرها الأولية، وكمثال أذكر صانع محتوى عراقي (أحمد الفارابي) يُقدّم مادّة فلسفية في شكل أكاديمي مُخفّف، ويجد إقبالاً، أيضا بعض المحاضرات الفكرية والمعرفية التي يقدّمها أساتذة جامعيون ومفكرين تجد بعض الإقبال، بمعنى أنّي أريد أن أقول أنّ العالم لا يمكن أن تتحكم فيه التفاهة وحدها لأنّ وازع العقل أيضا له سلطانه».
ويبقى «صُنّاع المحتوى العشوائيين» -حسب رأيه- ظاهرة تتماشى مع «عصر السرعة» و»الهامبرغر»، فما يؤدّي بالإنسان المادي إلى محل الوجبات السّريعة فقط لكي يلحق الوقت ولا يفوته، في مرحلة، تتسابق فيها دقات السّاعة مُتلاحقة، وجارّة معها خطوات الإنسان كي يُجاريها في سرعتها وإلاّ ضرب به قطار الزمن عرض الحائط، وأُصيبَ بــ»الفوات الحضاري» كما يُسمّيه عبد الله العروي.
مضيفاً في ذات السياق: «يبدو لي أنّ الإنسان مجبولٌ على الدعة والخمول، وإلاّ ما كان مفهوم (الإرادة) موجوداً. يتّجهُ النّاس عادةً إلى هذه المحتويات الترفيهية (التافهة) والتي تتجاوب معها الذّات لأنّها لا تتطلب عظيم جهد في تلقيها، ولأنّ الذّات لا تقبل ذلك النسق المُتواصل من الجدّة، فروّحوا عن القلوب ساعة وساعة، كما يُطالبنا الشرع الحنيف، لكن الإنسان في مغامرته الوجودية، يُغامر بكلّ شيء حتى عقله وميزانه الوجودي، الّذي يختل لصالح وجود زائف».
فالمحتوى الثقافي -كما يقول- «يتطلب نوعا من الهيئة وطريقة خاصة في الحديث ونمط معيّن في الصورة غير تلك التي تبدو مُتقافزة وغير منضبطة لدى صانع المحتوى التافه، وهو ما يجعل متابعته خفيفة، ومن هنا كان مفهوم (خفيف الظل) ينطبق على الّذي يعبر دون أثر في النّفس يُذكر جاثما، و(ثقيل الظل) ذلك الّذي ربّما لديه ما يقول لكن أمزجة النّاس تستثقله، لتعوّدها على السّطحية والخفّة التي تجعل كلّ شيء غير محكوم بقوانين الجاذبية الاِنضباطية.
وأردف موضحاً: «هناك أمر في هذا الإطار، مادام أنّ التسطيح والتفاهة هما اللذان يتحكمان في الواقع الحاضر، والسرعة هي ما يمكن أن يُميّز بوضوح مسار العصر، فعلى المُثقف وهو يقدّم مادّته أن تكون خفيفة، بمعنى الوصول إلى ما يريد من أقصر الطُرق، وأن تكون في زمنيتها أيضا قصيرة، فلا يعقل أن تُخاطب العقل، والمُتلقي شاب لا يستطيع أن يقف على شيء أكثر من دقائق معدودة، ثم يُدعى ليشاهد فيديو ثقافي يمتد على ساعات، طبعًا العقول الجيلية (من الجيل) تختلف، فجيلي مثلاً يصبر ويُصابر بل هو أصلاً يجد متعة في متابعة محاضرة أو مادّة ثقافية ولو طالت، لأنّه تدرّب على المطالعة وصداقة الكِتاب الورقي الّذي يصير في لحظة قراءته كما الصّديق، أشعره يُحادثني كما أقرأه».
وخلص إلى القول: «قد يستفيد المُثقف (الكلاسيكي)، من نمطيته في التعامل مع عالم الثقافة، بحيث يستطيع التأثير من حيث هضمه للمادّة الثقافية وتقديمها في حلّة يصعب على المُثقف الميدياوي الوصول إليها أو تصورها، يستقيها على شكل معلومات ثم يركّبها في صورة نص يعتمد الحكاية أو السردية المشبعة بالتّجربة الكونية للمثقف العالمي، لأنّ التعامل مع الكِتاب وخصوصاً الورقي فيه من الخيال ما يُفيد في التعامل مع المُتلقي، فتصوّر المعنى من خلال جملة نقرأها في كِتاب يُعتبر عالمًا مُتحرّكا من الصّور التي يتلقاها القارئ (الكلاسيكي)، والتي تنعكس على كيفيات تصرّفه وهو يُقدّم مادّته الثقافية باِعتباره صانع محتوى.