أغلــب مخابـــر البـــحث العلـــمي مثـــل الدكاكــين الخالـــية مــن البضائـــع
ما هو دور مخابر ومراكز ومؤسسات البحث العلمي على مستوى الجامعات في الجزائر، هل من دور محدد ومسطر يجب عليها القيام به؟، أيضا كيف هو واقع وحال وأداء هذه المخابر؟، وهل بالموازاة مع تزايد عددها الملحوظ كل عام، هناك تطور وجودة وإجادة في نوعية ما تقوم به وما تقدمه للحياة البحثية والعلمية والإنسانية والثقافية وغيرها من مجالات الحياة والعلم والعلوم؟. ماذا أيضا عن سياسة البحث العلمي في هذه المخابر، هل واكبت وتيرة سياسات مخابر البحث المنتشرة في مختلف جامعات العالم، ووتيرة انتاجاتها المعرفيّة، أم ظلت أسيرة حيزها المحدود الذي لا يذهب بعيدا في تطوير القطاع الخاص بالبحث العلمي والإنتاج المعرفي؟.
«كراس الثقافة» في عدد اليوم، يفتح ملف «مخابر البحث العلمي في الجامعات الجزائرية» مع مجموعة من الأساتذة الأكاديميين والباحثين.
الحديث عن المخابر، مهما كانت، يتضمن بالضرورة الإشارة إلى البحث العلمي بمفهومه المتعارف عليه دوليا. من المفترض، منطقيا وموضوعيا، أن تكون مثل هذه الهيئات مؤطرة، ولها خطة ومقاصد ووسائل وكفاءات فاعلة تضمن استمراريتها، وقبل هذا جودتها.
والواقع أن كثيرا من المخابر لا تحمل هذه المواصفات من حيث إنها وجدت لتقوم بوظائف ترقيعية لا علاقة لها بالبحث. هناك غلبة، في كثير من الحالات، لخطاب غير أكاديمي، وذلك ما تنوي تحقيقه بعض الجهات لتغطية فراغات صادمة يمكن أن تعالج موضوعيا. يجب الحديث، في هذا السياق، عن مسألة جوهرية يتعذر تجاوزها لأنها تثير عدة أسئلة: تتعلق هذه المسألة بالميزانية التي توفرها الوصاية. ما تحصل عليه بعض المخابر الجزائرية خلال سنة كاملة، حسب علمي، هو ما يحصل عليه لاعب واحد في فريق فاشل خلال نصف شهر. وعلينا أن نتصور أن المخبر الواحد قد يضم عدة فرق، وكل فرقة تضم عدة باحثين، ومنهم من هو بدرجة أستاذ التعليم العالي، أي بروفيسور. ثم إن هؤلاء الباحثين المفترضين المنتمين لهذه المخابر لا يتقاضون دينارا واحدا نظير ما يبذلونه من جهد، كالتحكيم والتنظيم والنشر وتقديم المحاضرات، وهذا واقع لا يحق لأي كان إغفاله، وهناك باحثون لا يستفيدون من أي تعويض، مهما كان نوعه، ماديا أو معنويا، بما في ذلك ما ارتبط بتنظيم الملتقيات والمحاضرات الوطنية والدولية، ما عدا ورقة مكتوب عليها: «شهادة مشاركة». يبدو الأمر سرياليا، وضربا من العبث المعلن في ظل المفاضلات المهيمنة وطنيا. لا يمكن أن يعيش مخبر بفتات لا يؤهله للقيام بنشاطات متخصصة، كطبع المجلات وإصدار الكُتب واستضافة المحاضرين، وتكريمهم في حدود الإمكان. اللاعبون ليسوا أفضل من العقول عندما تخصص لهم ميزانية خرافية من أموال الريع. لقد ظللنا نخفي هذا الواقع بخطاب مبني على الاستغفال بحثا عن تحقيق مآرب لا علاقة لها بالأكاديميات، إلى درجة أصبح فيها هذا الخطاب جوهرا بحلوله محل البحث، أي بتغطية ما تعيشه المخابر الجزائرية من بؤس وفقر وفوضى. أتصور أن هذه المخابر، بقضها وقضيضها، ليست سوى طريقة ذكية لها قدرة عجيبة على الاستخفاف بكل ما له علاقة بالعقل. كيف يمكن لفريق متخصص في إنتاج الفوضى والفشل والعنف والانحراف أن يحصل على أموال خرافية، في حين تعيش المخابر حالة من التعاسة. الجزائر المعاصرة تقف على بعض الأعمدة، ومن هذه الأعمدة ريع النفط وكرة القدم التي تقوم مقام الجهد العقلي. لذا يمكننا، إنصافا للجزائريين، إن كنا نريد أن يقف البلد، أن نحترم الباحثين المحليين والمهاجرين من أجل ترقية البلد وتحصينه من الجهل والانكسارات التي لن تنتهي بإذلال المعرفة. لا يمكن أن نستسيغ، إن أردنا أن نكون واقعيين ومنطقيين، فكرة إغداق الفرق الفاشلة بالأموال والتكريمات وتوفير لها سكنات فاخرة، وكل ما تحتاج إليه من بذخ وبهرجة، ثم نجعل البحث العلمي في المرتبة ما بعد الأخيرة، شيئا زائدا لا يستحق الذكر إلا عندما نريد تسييس الفعل الأكاديمي البحت. إن الميزانية التي تمنح لكثير من المخابر قد تكون كافية لشراء الكراسي والطاولات والمكاتب والورق. ليس إلاَ. لكني أعرف مخابر لا تملك مقرات تضع فيها هذا الأثاث، وهناك مخابر استفادت من أقبية ومستودعات رطبة لا تليق بالمجرمين، هذا الأثاث وحده لا يفكر ولا ينتج بمعزل عن المحفزات الأخرى، وهي كثيرة كما ورد في نصوص وقرارات وزارة التعليم العالي. قد تكون فكرة إنشاء المخابر على مستوى الجامعة أمرا مهمَا، وهي مبادرة تستحق كل الامتنان، بيد أن الظروف العامة المحيطة بالمخابر لا تساعد على النشاط لأنها مهينة في أغلب الأحيان، وقاسية جدا. ثمة إشكالية يجب الإشارة إليها: عندما يبدأ التفكير في البحث يدخل البلد كله في ضائقة مالية، وعندما يبدأ الحديث عن كرة القدم تمطر السماء أموالا وتنبت الأرض عملة صعبة وتغدو البلاد في نعمة لا مثيل لها في تاريخ المجرات. ما بين المخابر والملاعب مسافة، وإذا ظللنا نحتكم إلى هذا المنطق فمن العبث الحديث عن بحث أكاديمي على كافة الأصعدة. التطوع وحده لا يخلق باحثين مكرسين يساهمون في ترقية الجامعة، وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى أي تدليل كيما نثبت صحته. علينا أن نقارن، وهذا أضعف الأيمان.
على الرغم من الدعم المادي (ميزانية+تجهيز) لمخابر البحث في العلوم الإنسانية عبر الجامعات الجزائرية، والرصيد البشري من الطلبة والأساتذة الذين يتوجهون لهذا الميدان، فإن حركة هذه المخابر قد تجمدت بين طبع المجلات والدوريات المحلية، وإقامة ملتقيات وندوات تنتهي بتوزيع شهادات مشاركة، وبين تربصات ومنح للتنقل في مهمات علمية محلية ودولية. وخارج هذه الدوائر الثلاث، لا يمكن أن نجد لهذه المخابر من جدوى في المجال الحيوي المنتظر منها، كأن يتفاعل إنتاجها ويؤثر على الحياة الاجتماعية والنفسية والثقافية، والسياسية، والاقتصادية والإستراتيجية، أو أن تقدم نموذجاً سائراً يترجم مساهمة مجتمع المعرفة في العلوم الإنسانية في النهوض بواقع المجتمع المدني وتفاعله مع فئاته في مجالات عدة، أكانت أدباً أم تاريخاً أم اجتماعاً أم نفساً أم سياسة. فعوض اضطلاع هذه المخابر البحثية بدور النموذج السائر كشريك استراتيجي للمؤسسات الحيوية في مجتمعها، صارت إلى نموذج أكاديمي بائر ومعزول عن مجتمعه لا يكاد مردوده يعود بالنفع حتى على القائمين بالبحث فيه، وذلك لعدة أسباب لعل أهمها: تكريس النظرة الدونية للعلوم الإنسانية وتقزيم جدواها وفاعليتها من طرف السلطات، وعدم الاكتراث بما يمكن أن تقدمه من إنتاج لهذا المجتمع، وفقدان الثقة في إمكانية تفاعل أبحاث مخابرها مع واقع هذا المجتمع وإسهامها في حل مشكلاته. وهو نموذج تم تسويقه عبر قنوات إعلامية وإيديولوجية إلى المجتمع الذي فقد بدوره الثقة في إمكانية النهوض به بفعل مخابر ومؤسسات بحثية ذات طابع إنساني واجتماعي، مما جعل الحديث حول هذا الموضوع يتسم في مخيال العوام بنوع من السخرية والتهكم الناتجين عن تصور نموذجي بائر حول هذه المخابر البحثية. مما جعل منتوجها العلمي سلعة كاسدة في مجتمع لا يرى لها من جدوى خارج الحقل الأكاديمي.
إضافة إلى إهمال القطاعات الاقتصادية للجوانب الإنسانية والاجتماعية لمؤسساتها ومنتوجاتها وزبائنها. وبالتالي انعدام التفكير في الاستثمارات البحثية الإنسانية والاجتماعية وربط اتفاقيات شراكة مع ما تنتجه هذه المخابر من أبحاث وتكونه من إطارات. وأخيراً فإن جرأة بحوث المخابر العلمية الإنسانية والاجتماعية، وتطرقها بمناهج وصفية واستبيانات إحصائية ميدانية لمسائل حساسة في المجتمع، وتسليط الضوء على مشاكله الطبقية ومعوقاته التنموية، تقف كعائق فعلي نحو الاعتراف بمنتوجها البحثي، واعتماد ما توصلت إليه نتائجها، التي تتعارض -في كشفها عن الحقائق- مع التيار الأيديولوجي السائد الذي يعمد -من أجل تكريس الوضع القائم- إلى إبعاد كل تغيير جذري، عبر تزييف الوقائع، وتجميل الأوضاع المزرية للمجتمع عبر مختلف الوسائل الإيديولوجية. تلك بعض العوامل التي تآزرت لتشكل ذلك النموذج البائر لمخبر البحث في العلوم الإنسانية وعزلته عن فاعلية التكريس في حياة المجتمع، وأعاقت لحاقه بالنموذج العالمي السائر في العالم من حولنا.
وُجِدت المخابر لتسهم في تأطير الطاقات البحثية وإنتاج المعرفة. والقيام بهذه المهمّة يتطلّب سياسة وطنّية حول دور البحث العلميّ في الجامعة الجزائرية وحاجة المجتمع إليه. وأظنّ أنّ هكذا سياسة غائبة في وقتنا الحالي. ومع أنّ عدد المخابر مقبول، إلاّ أنّ وتيرة الإنتاج المعرفيّ وجودته تبقى ما دون المستوى، مقارنة بجيراننا المغاربة أو المشارقة. ما السّبب؟، أظنّ أنّ السّبب الرّئيسيّ هو سوء التخطيط والتسيير للمخابر، وأركّز على مخابر اللّغات بحكم انتمائي إلى قسم الأدب العربيّ. أما سوء التخطيط فيتعلق بضعف التصورات عن المشاريع التي تتبناها المخابر (الاعتباطية والعشوائية في اختيار التخصّصات المخبرية والمحاباة في اختيار الكفاءات البحثية التي تثريه وغياب الأهداف القصيرة والطويلة المدى فيما يخصّ المنشورات والملتقيات وغيرها من الأفعال البحثية المؤطرة). أما سوء التسيير فهو نتيجة حتمية لسوء التخطيط، فغالبا ما تتأخر المنشورات المتعلّقة بأعمال الملتقيات، أو تتراكم المقالات دون نشرها. وقد يتأخر نشرها في أحيان كثيرة لأكثر من سنة. مما يعطّل المصالح العلمية لبعض الباحثين، كطلبة الدكتوراه الذين يضطرون إلى الانتظار سنوات حتى ينشر لهم المقال الذي يحتاجونه لمناقشة الدكتوراه. ضف إلى ذلك فإنّ بعض المخابر تشهد صراعات على الإدارة والتسيير.
لا تكفي شهادة الدكتوراه لامتلاك حقّ فتح مخبر، بل على الوزارة دراسة ملفات الطلبات، قبل القبول أو الرفض. فما جدوى صرف أموال طائلة في أجسام إسمنتية وفي مشاريع ورقية، لا تتحقّق في أرض الواقع. وما جدوى صرف نفس المبالغ المالية على كلّ المخابر، بينما لا ينشط منها سوى عدد ضحل يعدّ على أصابع اليدّ. وأذكر كمثال عن المخابر النّشيطة في مجال الدّراسات الأدبية، «مخبر تحليل الخطاب بجامعة تيزي وزو» الذي تشرف عليه الدكتورة آمنة بلعلى، فهو من المخابر القليلة في الجزائر التي صمدت في وجه الرّداءة وله سمعة علمية طيّبة، حتى على المستوى العربيّ. والدليل على ذلك جودة المقالات التي تصدر في مجلة الخطاب التابعة للمخبر.
تنفق الدول المتقدمة ميزانيات ضخمة لدعم البحث العلمي وزيادة كفاءته وفعاليته من أجل تحقيق التنمية وتحسين مستوى حياة الأفراد داخل المجتمع، وفي هذا السياق تخصص السويد ما نسبته (3.7 %) من الناتج الوطني، في حين نجد أن فنلندا تنفق (3.5 %) من ناتجها الوطني لتمويل البحث العلمي، أما الولايات المتحدة الأمريكية فهي تخصص نسبة (2.7 %)، وفي فرنسا يتم تخصيص (2.5 %). أما في الجزائر فالنسبة المخصصة لتمويل البحث العلمي ضعيفة وبعيدة عن المعدلات الدولية، إذ لا تتجاوز (0.5 %) حسب الإحصائيات الرسمية المقدمة من المديرية العامة للبحث العلمي وتنمية التكنولوجيات (DGRSDT). وفي السنوات القليلة الماضية انتشرت الجامعات في كل الولايات تقريبا وصاحب ذلك تزايد عدد المخابر البحثية التي أصبحت كالفطريات، خصوصا وأنها لم تساهم في تحسين مستوى ونوعية البحث العلمي بقدر ما رسخت لثقافة البحث عن الامتيازات وتقاسم المنافع والريع (تذاكر السفر، مستحقات مالية مقابل أبحاث بعيدة عن المعايير العالمية...الخ). هذا مع استثناء بعض النماذج الناجحة، لكنها على قلتها أو بالأحرى ندرتها وعدم وجود المناخ الحاضن لها (صوتها غير مسموع) فهي فاقدة لأي تأثير حقيقي في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية على وجه الخصوص. الحديث عن جودة مخرجات المخابر العلمية مرتبط بالعديد من المدخلات، كمستوى ونوعية رأسمال الفكري والبحثي، وحجم النفقات على البحث والابتكار، والاستثمارات المنجزة، وعدد وقيمة المنتجات العلمية التي يساهم في تمويلها قطاع المؤسسات الاقتصادية والقطاع العام، وكذلك اتفاقات الشراكة بين المؤسسات البحثية على المستوى الداخلي أو الخارجي/الدولي، وعدد المنشورات والانجازات العلمية، وحماية الملكية الفكرية وعدد براءات الاختراع، ومدى تحويل تلك الاختراعات إلى منتجات صناعية. أغلب مخابر البحث العلمي عندنا أصبحت مثل الدكاكين الخالية من البضائع والمهجورة، تسير بهياكل جامدة ومتصلبة عفى عليها الزمن، ويسيطر عليها منطق بيروقراطي يعطي الأولوية في إدارة البحث العلمي إلى التقارير الإدارية بدلا من العلمية. إضافة إلى فقدان مناخ التقدير والتحفيز مقابل الجهد المبذول، وعدم توفر الحد الأدنى من شروط العمل.
وقد تجلى هذا التدهور في تبوأ الجزائر المراتب الأخيرة في تقرير التنافسية العالمي وبالضبط في مؤشر الابتكار، وأيضا حفاظ الجامعات الجزائرية على ذيل الترتيب عالميا. كما ساهم هذا التدهور كذلك في استنزاف العقول والكفاءات الجزائرية، من خلال تزايد موجات هجرة العلماء والكوادر إلى الخارج. لما تقدمه تلك الدول المستوردة للكفاءات من عديد المزايا والامتيازات، التي تسهل لهم الحياة والاندماج وتحقيق الذات، ابتداء من إصدار القوانين والتشريعات التي تيسر استقدامهم، إلى وضعهم في المكان المناسب وتمكينهم من كافة الإمكانات المالية والمادية والتكنولوجية وحتى البشرية، لكي يزيد أداؤهم وإبداعهم، ومساهمتهم في تنمية تلك البلدان. وقد أفادت دراسة صادرة عن إدارة السياسات السكانية والهجرة التابعة لجامعة الدول العربية بأن مجموع الكفاءات العلمية العربية في الخارج يتجاوز المليون و90 ألفا، مقابل ما قرابة 717 ألفا للصين وما يقارب مليون و50 ألفا للهند. كما كشفت نفس الدراسة أن الجزائر في مقدمة أكثر الدول العربية هجرة لأدمغتها وكفاءاتها بما يعادل 215 ألفا و347 كفاءة علمية. وقد سبق لي في مرات عديدة وأن التقيت مع الكثير من الجزائريين المقيمين في الخارج، والذين يشهد لهم الغرب بكفاءتهم، وقد عبر لي غالبيتهم عن تذمرهم من الوضع المتردي في الجامعات الجزائرية وفي البلد ككل، والذي كان سببا جوهريا في هجرتهم إلى الدول المتقدمة. هناك الكثير من الأمثلة والنماذج من علماء ورجال أعمال وسياسيين عرب برزوا واستفاد من انجازاتهم الغرب، فمنهم العالم الجزائري إلياس زرهوني الذي اعتلى قمة قطاع الطب الأمريكي، من خلال إدارته لمعاهد الصحة الأمريكية التي تشمل 27 مركزا، وتفوق ميزانيتها السنوية 28 بليون دولار، وتضم ما يتجاوز 18.000 موظف، وتمول أبحاث يقوم بها أكثر من 200.000 عالم.
يؤكد الكثير من الخبراء أن لهجرة الأطر العلمية تكلفة اجتماعية ومؤسساتية واقتصادية تلحق مزيدا من الضرر بالدول المصدرة لهذه الكفاءات. فالهجرة تؤدي إلى تدمير جزئي للثروة البشرية، وإضعاف الاستثمار وكذلك مستوى التعليم، وإضعاف القدرة الذاتية للمجتمع على القيادة والإدارة، وبالتالي إضعاف محركات التنمية، وضياع الجهود والطاقات الإنتاجية والعلمية لصالح الدول المستنزفة.
ستسعفنا مقولة عالم الاجتماع الألماني «ماكس فيبر»: «إن الدولة المركزية تتباهى بالكم، وتطمس الكيف لأن الكيف يزعجها»، في فهم مسألة خطيرة تتعلق رأساً بموضوع المخابر العلمية في الجامعات الجزائرية، لأن السياسة العامة للبحث العلمي ما زالت تحتكم إلى منطق الكم الذي يبتغي دوماً الرفع من عدد المخابر، دون الاكتراث بالجانب الكيفي، ونعني به، مستوى وقيمة البحوث العلمية التي هي سبب وجود هذه المخابر.
وبعيداً عن منطق لوم الضحية، يمكن إرجاع هذه الظاهرة إلى أسباب أخرى ترتبط بوجود فجوة كبيرة يصعب ردمها بين ما ينتج –على قلته- في المخابر العلمية وما يحدث من تطورات في الحياة الاقتصادية، والاجتماعية والثقافية، فالمخابر بهذا الشكل لا تُعد قوة استشارية حقيقية، ونحن بهذا المنطق نجد أنفسنا في دور فاسد وقاتل، فمن جهة المخابر تشهد كساحاً حقيقياً ومن جهة أخرى السياسة العامة لا تريد أن تمنحها موقعا في حركية التنمية، فتبقي رهينة منطق الكم إلى أجل غير مسمى.
بالإضافة إلى أن المخبر في حدّ ذاته لا يحوز على رؤية كبيرة تنظم إستراتيجيته ولا على كوادر قادرة على تحقيق منجزات علمية تمكنها من التموقع داخل أفق الحداثة، فأغلبها مجرد إطار عام لشرعنة الريع في جميع صوره، وسياستها خاضعة كلياً لرؤية فردية عليا، تنعدم فيها كل أشكال الحوار والتشاور، فهي لم تتأسس على التقاليد الديمقراطية وعلى روح العمل الجماعي، ولم تستطع أن تنسج علاقات متينة مع الشباب الجامعي الصاعد، توجساً منه، وخوفاً من كل كفاءة تهدد عرش مالكي المخبر.
على هذا الأساس، تكون المخابر ملزمة أولاً ببناء رؤية معرفية قوية، وبالانفتاح ثانياً على العالم الخارجي بكل اقتدار، والمجازفة في تفعيل ملكة الخيال، وبتأسيس روح ديمقراطية داخلية حقيقية، منفتحة خاصة على الشباب الواعد، وأن نعيد النظر معاً في السياسة العامة للبحث العلمي في الجزائر، واضعين مسافة بين الكم والكيف، أي يجب أن نسير في الطريق العكسي للدولة المركزية.
سأركز في هذا الملف الحيوي والهام الذي فتحتموه حول مخابر البحث، على حال مخابر العلوم الاجتماعية والإنسانية بحكم انتمائي إلى هذا الحقل المعرفي، وأرى أن حالها كحال الجامعة الجزائرية، مراتب متأخرة في التّصنيف الدولي، كما أنّنا نجدها من حيث الديباجات المتعلقة بالأهداف ومحاور الاهتمام ضخمة وبرّاقة، ومن حيث الواقع لا مقدرة علمية قوية لها، ولم تسجل إنجازات علمية أو أبدعت مفاهيم دخلت بها الواقع أو أسهمت بها في ترقية المعرفة العلمية النّوعية، مخابرنا في الجزائر تستمد قيمتها من عددها وليس من نوع إنتاجاتها. هي في ازدياد وتكاثر، والسبب هو أن ما يهم هو الرّقم كي نحظى في تصنيفات المعرفة العلمية العالمية بمرتبة، لدينا كذا من المخابر وكذا من وحدات البحث، وزارة التعليم الجزائرية تشجع على إنشاء المخابر وتوفر الشروط المالية والإدارية لإنجاح مسارها، لكن الغالب حتى لا نقول الكل، لم يجد أصلا أين يصرف ميزانيته، لا برنامج علمي قوي، ولا ملتقيات ذات أهداف واضحة، ولا مجلات نوعية في إنتاجاتها، ولا مشاريع تخدم التنمية والمجتمع، الخلل يكمن في ضعف التكوين المنهجي على مستوياته الثلاث: التكوين في منهج التفكير، التكوين في الممارسة البحثية، والتكوين في مستوى الممارسة السلوكية والتكامل مع مؤسسات المجتمع. أضحى دور المخابر عندنا إداريا خالصا، احتضان مشاريع الماستر، الدكتوراه، تخصيص مجلة لنشر البحوث التي في أغلبها من ممضوغات الرسالة العلمية التي بدورها تسكن في قرون خلت ومراجعها بائدة، وأيضا من أجل التّرقية والمناقشة، وهذا الاحتضان محمود لكنّه لا يصنع العقل العلمي المبدع.
السياسة التي تنتهجها وزارة التعليم العالي من حيث فتح المخابر ووحدات البحث والمراكز العلمية واضحة ومقصدها محمود، الخلل يكمن في أنّها من حيث توطينها في الجامعات لا نشاطات علمية إبداعية ولا مشاريع خادمة للمجتمع والتنمية، فالمخبر هو المحضن للإبداع لأن المفترض أن يكون التفكير فيه جماعيا وتكامليا بين العلوم، وتشكيل وتراكم خبرات معرفية. المخابر البحثية في الجامعات الغربية: تنتج أفكار إستراتيجية مهمة تعتمد عليها الدُّول، في القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية وغيرها، وما تقدمه من توصيات لصناع القرار وفق رؤى إستراتيجية مبصرة، ونُظم إدارية محكمة. أما الدور الذي من الأجدى أن تقوم به هذه المخابر في الجامعات الجزائرية فيمكن إجماله في: أولا: البناء المنهجي العلمي لقدرات الفكر في الجزائر، والاحتفاظ بهذه القدرات وتقويتها، ورفع كفاءات الباحثين من خلال برامج التدريب وتبادل الخبرات.
ثانيا: الانفتاح على الفضاء الاجتماعي العام، وتثقيف فئات المجتمع والترويج لأفكار وتوجهات المركز عن طريق وسائل النشر والتغطية.
ثالثا: إنتاج المعرفة التي لها صلة بالتنمية والتي تخدم الجهات التنموية في المجتمع وتقديم مقترحات نوعية وعملية وعالمية، والارتقاء إلى مستوى الكونية في المعرفة من حيث الإبداع والإنتاج وإتقان شعار "فكّر عالميا ونفذ محليا".
يشكل البحث العلمي في أي مجتمع من المجتمعات مسألة على غاية من الأهمية لما يقدمه من خدمات جليلة لقطاعات واسعة لهذه المجتمعات أو تلك بفعالياتها المختلفة، من حيث بسط سبل الرقي والازدهار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والإداري والثقافي والتكنولوجي، لذلك فقد أولت العديد من الحكومات والدول عناية خاصة بهذا القطاع لما يقدمه من ثمار طيبة ورطبة تساهم بارتقاء الدخل القومي وخلق الثروة المعرفية والمادية وترشيد التنمية القومية وتهذيب السلوك البشري وتنميته. في هذا السياق تأتي التجربة الجزائرية وعلى غرار تجارب كثيرة تبحث لنفسها عن مكان بين الكبار رغم ما تعرفه من تذبذبات وانتكاسات لأسباب أو لأخرى منذ ميلاد الدولة الجزائرية سنة1962.
عرفت المرحلة الخماسية 2008-2012 تطورا ملفتا من حيث الهياكل والوسائل القانونية، بعد إدخال تعديلات على هذا القانون التوجيهي98-11 بما يخدم الأستاذ الباحث، وتوفر الاعتمادات المالية، مما يجعل من الجزائر رائدة إقليميا من حيث الإعتمادات والمنشآت المتوفرة، غير أن ما تحقق شابته الكثير من النقائص بفعل محدودية عدد الباحثين ومحدودية التأطير وبيروقراطية الإدارة، وأشياء أخرى لا تمت بصلة للبحث العلمي رغم توظيف أكثر من 1200 "باحث".
من جهة أخرى عرف الخماسي الحالي الاتجاه لفتح مخابر ووحدات بحث على مستوى المؤسسات الاقتصادية، كما تزايد عدد المخابر ووحدات البحث على مستوى الجامعات بشكل ملفت دون أن يتجلى ذلك في كثافة ما كان متوقع إنتاجه من حيث تكثيف النشاطات العلمية والتكنولوجية والبحثية واستفادة المحيط الاقتصادي والاجتماعي منها في ظل غموض آليات التواصل بين الجامعات والسوق المفترض اقتناؤه لهذا المنتوج، وذلك ما يرهن مستقبل هذه المخابر والوحدات، ناهيك عن حالة البطالة الهيكلية لعدد غير يسير من الباحثين الشباب بفعل ممارسات إدارية وبحثية لأصحاب المشاريع، فقد يضطرب بعض الباحثين لتغيير المؤسسة الجامعية بحثا عن وحدة بحث أو مخبر يستجيب لتطلعاته وطموحاته، فيما يستغل عدد آخر من الباحثين هذه الوحدات من أجل الحصول على عوائد مالية أو القيام بسفريات وتنقلات قد لا تخدم أهداف البحث في حد ذاته، أو تستغل الأبحاث المقامة في شكل مقالات من أجل الترقية من رتبة إلى أخرى أو مناقشة الدكتوراه. يضاف إلى ذلك كله أن أغلب المشاريع البحثية وفق الأهداف المحددة تحصر الجهد البحثي على العلوم الأساسية، بمعنى العلوم التقنية والتطبيقية والتجريبية والتكنولوجيا، فيما تهمش العلوم الإنسانية والاجتماعية على الرغم من أهمية هذا الفرع في خلق إطار التسيير الكفء وتقديم الحلول المناسبة لمشاكل التسيير العمومي، ومجابهة الآفات الاجتماعية، وتهذيب السلوك الإنساني وترشيد الإنفاق.
لذلك تستدعي الحاجة إلى ضرورة ترشيد عمليات الإنشاء والتسيير وتقييم أداء هذه الهياكل بالشكل الذي يضمن فعاليتها ونجاعتها وانفتاحها على المحيط الاقتصادي والاجتماعي، ويساهم في خلق القيمة والثروة المعرفية والتكنولوجية، من خلال إشراك الباحثين في انتقاء وتحديد الأهداف العلمية والسياسات المرتبطة بها، وتفعيل شفافية التسيير والتقليص من الإجراءات الإدارية البيروقراطية المعرقلة للفعالية العلمية، مكافحة أشكال الاحتكار، وإرساء أسس المساءلة لأصحاب المشاريع ضمانا لجودة المنتوج العلمي وكفايته، إشراك القطاع الخاص وباقي مؤسسات المجتمع المدني، في ظل قيم الحكامة المعرفية التي تعد لبنة أساسية من لبنات بناء الصرح العلمي في الجزائر ومجتمع معلوماتي يطمح لأن يكون في مستوى المجتمعات المزدهرة. على اعتبار إن ازدهار المجتمع الجزائري والدولة الجزائرية مرهون بمدى نجاعة وفعالية المؤسسات البحثية وقدرتها على توفير الإجابات المناسبة والحلول الناجعة لمختلف المشاكل الهيكلية والبشرية والتكنولوجية التي تواجهها الجزائر.