الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق لـ 19 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

صورة المثقف العربي في الرواية العربية

متذبذبــة... متأزمــة وإشكاليــة

كيف تناولت، وكيف عالجت الرواية العربية صورة/وموضوع المثقف العربي؟، ما الصورة الغالبة التي ارتسمت حوله وعليه وجعلته يظهر، أو يتموقع ويتموقف بها أكثر. أيضا كيف تجلت الشخصية المثقفة، وكيف انعكست في النصوص والمتون الروائية. وما هي أهم الأشكال والسياقات التي اعتمدها الروائي العربي في تصويره ومعالجته وتناوله لشخصية المثقف؟.
كُتاب ونقاد، يتحدثون في ندوة "كراس الثقافة" لهذا العدد، عن "صورة/شخصية المثقف العربي" في الروايات العربية، ويتطرقون لإشكالاتها التي تباينت واختلفت وتعددت في التناول والطرح والمعالجة. كما يرون من جهة أخرى وفي أكثر من موضع أن "صورة/وشخصية المثقف" كانت منذ نشأة الرواية العربية وحتى الآن في الروايات الراهنة، متعددة ومختلفة في سياقات متنوعة، وأن معالجاتها فنيا وسرديا وروائيا ونفسيا وإيديولوجيا واجتماعيا، كانت معالجات إشكالية دائما، لأن شخصية المثقف كانت وستظل شخصية إشكالية وإن باختلافات وتباين وتفاوت في التناول، وهي شخصية مربكة في الواقع كما في الرواية.

إستطلاع/ نوّارة لحـرش

محمد بن زيان/ ناقد وباحث جزائري
حضوره في الروايات العربية متعدد ويختلف تبعا لقناعات وخيارات وأغراض الروائي
بداية هناك إشكالية التعريف والتمثل، فالمثقف طرحه مرتبط أيضا بتصورات مرتبطة بسياقات وأنساق، لها تفاصيلها التي لا يختص بتناولها موضوعنا. وعموما المثقف المراد هو ذلك العنصر الممتلك لقدر من المعرفة والمنتج للعلامة أو الفكرة أو أي قيمة من القيم الرمزية، وتحققه كمثقف مرتبط بدوره، وبالدور يتحدد تموقعه ومساره.
حضر المثقف ويحضر باستمرار في الروايات العربية منذ بدايات تشكل الرواية عربيا إلى ما ينجز راهنا من المحيط إلى الخليج. الحضور متعدد ويختلف من رواية لأخرى، تبعا لقناعات وخيارات وخبرات وتمثلات وأغراض الروائي، والصورة الغالبة التي يمكن رصدها هي الاصطدام، اصطدام بالآخر، بالمجتمع، بالسلطة، بالحقيقة، والاصطدام يتباين من حالة لأخرى، وتبعاته تختلف من نص لأخر. والتجليات اختزلت تقريبا ما يمكن أن يعكسه ما في أرشيف الثقافة العربية ومواقف المثقف في مختلف بلداننا، فهناك نموذج الحالم المنفصل عن الواقع، وهناك المستلب المنبهر بالآخر والمتعالي على مجتمعه، وهناك الانتهازي، وهناك الثائر، وهناك اليائس المحبط.
ولقد انعكست السياقات على السرديات، وكما قال الناقد غالي شكري "هناك ما قبل حرب الخامس جوان وهناك ما بعدها"، وقياسا عليه يمكن ذكر ذلك أيضا بخصوص سياقات المراحل التالية وما راكمته من إحباطات وخيبات.  
ولقد تعددت الأشكال تبعا لخيارات جمالية وقناعات فكرية، وكان مثلا التاريخ مُلهمًا في تمثل الموضوع كما في رواية: "العلاّمة" لبنسالم حميش التي استعاد فيها السيرة الخلدونية وهي ذات الاستعادة التي أنجزها سعد الله ونوس في مسرحيته: "منمنمات تاريخية"، واستحضار ابن خلدون مكثف دلاليا باعتباره نموذجا لصاحب المعرفة استيعابا وإبداعا، الذي انخرط في الشأن السياسي وعاش تقلباته.  
وكما ذكرت انعكست السياقات على الروايات، فنصوص لنجيب محفوظ مثل "ثرثرة فوق النيل" عبرت عن وضع الانفصال المهلك عن الواقع، والنص الروائي "السؤال" لغالب هل سا كتب الإحباط باستعارة العجز الجنسي، وفي سياق آخر مثلا كانت رواية "تجربة في العشق" لوطار وأيضا "التفكك" لبوجدرة وروايتي حميدة نعنع "من يجرؤ على الشوق" و"الوطن في العينين".
وفي السنين الأخيرة، تتابعت التحولات وتهاوت المسلمات وعمت الحيرة وتكثفت المتاهات، فبدأ التحرك برجات دفعت بعض الروائيين إلى إعادة التمثل والقراءة، وبالتالي حبك ما يترجم ذلك في نصوص تنشد الاقتراب من ما وقع ويقع، فكانت بعض النصوص الروائية في الجزائر التي سعت إلى بلورة تمثلاتها للحيرة وتحويل رجات زلزال التحول إلى رجات وخلخلة روائية للمسارات. ومن الروايات العربية الصادرة في السنين الأخيرة نذكر "الطلياني" للتونسي شكري المبخوت، رواية قرأت تاريخ اليسار التونسي، ومن المعلوم أن غالبية المنسوبين إلى المثقفين، هم من اليسار.
التفاوت مرصود بين ما تراكم في رصيد المنجز الروائي، ولكن يمكن القول بأن الطرح المتعدد في تمثله للمثقف كان عبارة عن امتداد للتمثل السائد، وهو تمثل كما سبق ذكره قد تعرض لخلخلة عبّر عنها مثلا عنواني كتابين فكريين: "نهاية المثقف الداعية" لعبد الإله بلقزيز و"أوهام النخبة" لعلي حرب.

عزت القمحاوي/ روائي وكاتب مصري
هو.. إنسان!
يتسع تعريف المثقف ليشمل كل من تلقى تعليمًا نظاميًا في الجامعة، ويضيق ليقتصر على فئة المشتغلين بالفكر والإبداع، ربما. حتى باستبعاد صُنّاع السينما والرسامين والموسيقيين، ليبقى المصطلح قاصرًا على منتجي الكتابة.
وسواء ضاق المصطلح أو اتسع، فالمثقف في النهاية إنسان كسائر البشر، لديه الضعف، القوة، الشجاعة، الجبن، الخسة، النبل، ولديه انتصاراته وهزائمه. وكاتب الرواية هو الآخر مثقف، أي إنسان ولديه كل التناقضات السابقة، وينعكس داخله كمثقف على دواخل مثقفي رواياته.
وقد تناولت الرواية المثقف بإفراط يجعل من غير الممكن الحديث عن شكل محدد للمثقف في الرواية العربية، ويجعل من المستحيل تعداد الروايات، ويندر أن نجد كاتبًا له عدة روايات ولا تظهر في إحداها على الأقل شخصية مثقفة، ويمكن أن نظل نعدد في أسماء الكُتّاب وعناوين الروايات دون أن ننتهي. وهذه الكثرة تصنع كثرة أخرى في صور المثقف كما تجلت في الروايات، حتى أن الكاتب الواحد نجد عنده عدة صور للمثقف، تطورت بتطور علاقته بالعالم ونضج تجربته الفنية وحالته النفسية، ودرجة إخلاصه للفن، فالبعض استخدم الرواية للتلسين على غيره من معارفه رجالاً ونساء. في الأدب العربي العديد من الروايات الانتقامية، لم تدخل لحسن الحظ إلى المتن الروائي، لكنها موجودة على أية حال!
وهناك روايات كُتبت من وجهة نظر أيديولوجية، إما في مديح بطولة المثقف كما تبدو عند عبد الرحمن منيف في معظم رواياته أو ذم انكساره كما عند حيدر حيدر في "وليمة لأعشاب البحر" وبعضها من منظور وجودي إنساني كما عند الطيب صالح في "موسم الهجرة إلى الشمال" أو منظور تهكمي كما فعل محمد البساطي في "ليال أخرى" وخليل صويلح في "دع عنك لومي".
لا يحدد الروائي وحده صورة المثقف، فالزمن يكتب معنا من خلال الظلال السياسية والمدارس الأدبية السائدة في كل وقت. سنجد روايات الرواد في النصف الأول من القرن العشرين منشغلة غالبًا بالمثقف في لقائه الحضاري بالغرب، إما في محاولة فهمه كما في "قنديل أم هاشم" ليحيى حقي أو انتقامًا كما في "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس. تأتي بعدها روايات اللقاء الدامي من أجل التحرر من الاستعمار الغربي كما في "اللاز" للطاهر وطار.
ولن تضع الحرب مع الصديق الغربي اللدود أوزارها، حتى تبدأ الحرب مع الاستعمار الوطني، أو بمعنى مباشر: الصدام مع السلطة الوطنية المستبدة كما في معظم إنتاج صنع الله إبراهيم، وعبد الرحمن منيف ونبيل سليمان وهاني الراهب وبعد ذلك سنرى المثقف المهزوم، ثم المثقف العدمي، بعد كل الإخفاقات السياسية التي مر بها العالم العربي.
ولا يمكننا أن نقول إن الرواية قدمت المثقف كما ينبغي أو إنها حادت عن جادة الصواب، فليس هناك قياس موضوعي للمثقف يمكن القياس عليه، فهو في النهاية مجرد إنسان يحترف مهنة، وهو في الرواية كائن روائي كسائر بشر الروايات.

محمد الأمين بحري/ ناقد وباحث أكاديمي جزائري
بين النمطي والقاصر والعابر
من المستغرب وجود ذلك النمط الكلاسيكي للبطل المثقف في بعض الروايات العربية المعاصرة في صورة شخصية متمردة -بحكم ما تملكه من ثقافة- على أعراف وضوابط مجتمعها، مما يصنفها آليا في خانة البطل المضاد. وقد كان هذا النمط مناسباً لواقع عربي قيد التحول الحضاري والثقافي نحو المدنية، بما اقتضته تلك المرحلة من نمذجة توافرت وانتهت شروطها مع "زينب" لهيكل، و"قدنيل أم هاشم" ليحي حقي، و"أديب" لطه حسين، وصولاً إلى "ريح الجنوب" لبن هدوقة، وغيرها من روايات تلك الحالة الحضارية. فما مبررات الاستمرار في تدوير نماذج ثقافية مهجورة؟ والتشبث بمحمولات حضارية منتهية الصلاحية، خاصة ونحن نشهد في عصرنا تحولات مفصلية يومية تغري بكتابة روائية تغير ألوانها وبنيتها مع كل مطلع يوم متجدد. إن صادفت مبدعاً يمتلك آلة اختلاق نموذج بشري عالمي الملامح، انطلاقاً من أكثر الحالات راهنية وخصوصية في واقعه.
أما النموذج القاصر، الذي لا يرى البطل المثقف إلا في مئزر الاطلاع على المعارف والتمكن من العلوم وحيازة مستوى دراسي ما، أو شغل منصب وظيفي حكومي، فإنه يحشر نموذجه النمطي الجاهز سلفاً في زاوية أضيق، لا تعرف للثقافة أي معنى خارج التكوين الدراسي، وهذا ما أعده نموذجاً قاصراً من جهتين: الأولى قصور مفهوم البطل ذاته بنيةً وتكويناً وخطاباً، مما يجعل دوره ميكانيكياً رتيباً في أي مسار يوضع فيه، والقصور الثاني يكمن في مفهوم الثقافة في هذا المخيال الذي يتمثلها مكسباً ورصيداً طبقياً أو فئوياً، وهو ما يلغي ثقافية الثقافة ذاتها بما هي تموقف واعٍ من العالم ينتسج من أمشاج التجارب والمحن التي خاضها البطل والتي تتفاعل بشكل تراكمي يُمَكِّنه من بلورة موقف اغترابي يتجاوز الحالة الفردية، إلى حالة كونية تعبر عن رؤية نوعية للعالم مهما كانت نقطة الانطلاق في هذا التموقف موغلة في الخصوصية والتفرد. وهذا ما يتطلب في مرحلة ثالثة القدرة على التجاوز أو ما سنسميه النموذج العابر للثقافات.  
ينطلق النموذج العابر للثقافات، في رسم منحاه بداية من خطابها المتجاوز للغة ذاتها (métalinguistique) بما هي سنن مجازي يتخطى الملفوظ والدال إلى ما ورائهما من المدلولات والصور والمرجعيات المعرفية التي تستدعي الثقافي وتتمثله، مما يقتضي تجاوز استراتيجي لنمط المثقف الفرد، إلى مثقف متعدد الذوات والأصوات والحضور والتمظهر. وقد يتناسل هذا النموذج العابر لينتج نماذج ميتانصية أخرى في القاعدة الجينيالوجية (التكوينية) للنص مثل، النص "العبر أجناسي"، الذي يتداخل فيه أكثر من جنس أدبي، وأكثر من لون فني، وكذا النص "العبر تاريخي"، حينما يرتحل الخطاب نحو معرفة تسافر إلى أعرق الأزمنة، وتنتحي أقصى الأمكنة. ليجد القارئ نفسه في النهاية إزاء نص "عبر ثقافي"، يخترق الأنثروبولوجيات، والإثنيات متمدداً أفقياً وعمودياً ليتجاوز حالة الأنا إلى حالات آخرية يحاورها. وهو نموذج بدأنا نشهد تمثله المعرفي في الرواية العربية المعاصرة، في صورة الاستحضار الثقافي والإثني الأسيوي في روايتي "ساق البامبو" لسعود السنعوسي، و"الملكة" لأمين الزاوي، فضلاً عن السرد بلسان الثقافة والإثنية الإفريقية (النيجيرية خاصة) في رواية "كاماراد" للروائي الصديق الحاج أحمد، (التي حظيتُ بقراءة مخطوطها قبل النشر) مما يؤشر إلى انفتاح الرواية العربية على تصور يتجاوز ثقافياً نموذج "البطل الأنا" الذي ألفناه منطلقاً من ثقافة الأنا نحو الآخر، فصرنا نرى الروائي العربي يرتحل إلى الضفة الأخرى ليقدم لنا نموذج "البطل الآخر" جاعلاً من هذا الأخير الذات البطلة الساردة والرائية، بينما صار الأنا هو موضوع الرؤية والتساؤل، مجسداً عبوراً ثقافياً للمنجز السردي ساد من قبل لدى جون ماري لوكليوزيو، وباولو كويلو، وغيرهما. وهي حركية ثقافية في الكتابة تبشر بفتوحات تحديثية قادمة في مبنى ومحتوى الخطاب الروائي العربي المرشح لمزيد من التحولات عن سالف مساراته وأنماطه.

محمد معتصم/ ناقد أدبي مغربي
صورة المثقف في الرواية كما في الواقع العربي متذبذبة وإشكالية
ينظر الكُتاب عادة إلى المثقف على أنه صمام أمان المجتمع، وحامل لواء الإيديولوجية المشتركة التي تحمي الطبقات الاجتماعية البسيطة والمغلوب على أمرها، أو هو لسان حال المجتمع وفئاته الدنيا، وهو الجدار الذي يقف أمام القيم الدخيلة وحامي القيم والمواقف التي عبرها تستمر الكينونة والهوية الجماعية أو الوطنية أو الأممية، لكن هذا كله ليس إلا تصورا ضيقا، يحصر مفهوم المثقف في وظيفة معرفية واجتماعية محدودة، ويغفل أن المثقف ليس فقط من يحمل القلم: صحافيا ومبدعا ومفكرا، ويعبر عن موقف الجماعة التي ينتمي إليها، والجماعة المستضعفة، والجماعة التي هو لسان حالها، بل هو أيضا كائن إنساني حي له وعيه الخاص، وله نوازعه وميوله الخاصة كذلك، لذلك كلما حدثت أزمة في المجتمع أو ظهر متغير جديد في الحياة عامة إلا وبرز سؤال الثقافة والمثقف، دورهما في الأزمة، وغياب المثقف وصمته وراء نواياه الشريرة.
المثقف ليس سوى ظاهرة اجتماعية تخضع لموازين القوى، تماما كأي بنية فكرية مستحدثة، ومن الخطأ النظر إلى المثقف كوحدة منسجمة عليا، فالمثقف مثقفون، منتمون إلى مواقف مختلفة تتحكم فيها أوضاعهم الاجتماعية التي ينتسبون إليها، وكذلك مصالحهم ومقاصدهم، أي أنهم "موظفون" وليسوا أحرارا في اختياراتهم، وليست لهم القدرة على بناء عوالم متخيلة بعيدة ومستقلة عن سلطة اللغة وسلطة المجتمع وسلطة الأفكار الثابتة والمُنمذجة.
يمكن إبراز الوضعية الإشكالية للمثقف كإنسان والمثقف كفكرة ثابتة ونموذجية تضييق الإطار، والحديث عن المثقف في الرواية العربية، وعلى وجه الخصوص في الرواية النسائية، وبعض الروايات النسائية، حيث ينظر إليه في العمل الروائي الواحد بمنظارين، الأول يدينه والثاني يمجده ويعلي من شأنه، ونذكر موقف الروائية الفلسطينية "سحر خليفة" التي اعتبرت المثقف العربي مثقفا بئيسا غير قادر على التوفيق بين مواقفه وكتاباته وبين ممارسته في الحياة، ففي كتاباته "الخطاب" ينتج أفكارا تحررية بها يغوي النساء وخاصة الكاتبات لكنه في الواقع يفصح عن مكبوتاته النفسية، ولهذا تصوره الرواية النسائية مبتور الجسد وعاجزا ومنحرفا سياسيا ومواقفه ليست حقيقية، الصورة ذاتها تعيدها الروائية الجزائرية "فضيلة الفاروق" في روايتها "اكتشاف الشهوة" حين تقول على لسان "ماري" وهي تتحدث عن الشاعر اللبناني: "المرأة بالنسبة له خيمة مستباحة" وتضيف السارد(ة): "ماري تقول إن أغلب المثقفين العرب لا ينظرون إلى المرأة سوى أنها ثقب متعة ولذلك يناضلون من أجل الحرية الجنسية أكثر مما يناضلون من أجل إخراج المرأة من واقعها المزري. إنهم على عجلة من أمرهم ولذلك هم في واد والمجتمع في واد آخر". ص (61)، وعلى غرارها، تؤكد الروائية والشاعرة المغربية "فاتحة مرشيد" في روايتها "لحظات لا غير" الفكرة والموقف ذاتيهما من المثقف العربي، فقد استغل المثقف المغربي تواجده للدراسة في باريس وأجواء السبعينيات وحركة التحرر الجنسي ونضالات الحركة النسائية لإشباع رغباته الجسدية، ويأتي الاعتراف على لسان الشخصية الروائية: "ولأن ليل باريس السخي بنجومه بخيل بالقمر، اكتفيت بنجوم لا تعد. ساعدني على ذلك الجو العام للسبعينيات، بكل ما حمل من تحرر جنسي، ومن نضالات الحركة النسائية، ومن وعي سياسي وفلسفي. عجز الجنس عن إشباعي فبحثت في الكحول عما يروي جفاف القلب...". ص (32).
وكان الانجراف نحو الكحول سببا في إصابة الشاعر وأستاذ الفلسفة الجامعي بمرض السرطان حيث قضى. ولكن، بالرغم من الرؤية "النموذجية" تلك، وهي خاطئة في تعميمها، لأن كل تعميم يقود حتما إلى الخطأ، نجد كل من "فضيلة الفاروق" و"فاتحة مرشيد" قد أبزرتا الوجه الآخر للمثقف، إنه الوجه النير، حب الفن والجمال ونشدان الأفضل في مجتمعات متخلفة بطيئة النماء ومحصنة خلف قيم متوارثة وأحكام جائرة، والخلاصة أن المثقف ليس وحدة منسجمة، وليس صمام أمان، ولكنه صاحب رأي وموقف شخصيين، مرتبطين أكثر بالوضع الاجتماعي لكل مثقف على حدة، والأهم أن المثقف صورة تعكس وعي المجتمع الثقافي ومكانة الثقافة في سلم الأولويات وفي ميزان القوة الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ولأن السياسة الثقافية في البلدان الثالثية ذيلية وهامشية فإن وضع المثقف سيظل وضعا متذبذبا وإشكاليا.

عبد الوهاب الملوّح/ كاتب وناقد تونسي
تختلف باختلاف توجهات الروائي وموقعه  من السلطة ونظرته للمثقف
لقد عالجت الرواية العربية منذ نشأتها مسألة المثقف وجاءت معالجاتها من زوايا متعددة سواء بسيكولوجية أو اجتماعية أو سياسية، واختلفت باختلاف توجهات الروائي وموقعه من السلطة ونظرته للمثقف عموما، غير أن من أهم من عالج هذا الأمر بشكل جاد في عمقه يطرح الكثير من الأسئلة ويجددها حول هوية المثقف ودوره يبقى نجيب محفوظ وجبرا إبراهيم جبرا والطيب صالح ومحمود المسعدي، وسوف تتضح مقاربة نجيب محفوظ على مستويين، المستوى الأول في علاقة المثقف بالسلطة من خلال روايته "اللص والكلاب" وشخصية رؤوف علوان نموذج المثقف الانتهازي الذي يستغل معارفه ومرتبته العلمية من أجل تحقيق أغراضه الشخصية ومن أجل ارتقاء سلم السلطة، ليس لفضحها، وليس لتعديل مساراتها، ولكن لـتأكيد طغيانها والتنظير له والتشريع لديكتاتوريتها.
لقد ظهر "رؤوف علوان" في أول مسيرته شخصية ترغب في التعلم وفي التثقف وأظهر شغفا بحب المعرفة، وما كان تعلقه هذا، إلا تعلق الإنسان بالرقي بمرتبته الإنسانية والسعي لتأكيد القيم النبيلة وهو ما ذهب في ظن صديقه الأقرب "سعيد مهران"، غير أن "رؤوف علوان" سرعان ما أفصح عن حقيقة شخصيته الشرسة وعن حقيقة نوازعه الطغيانية الفردانية واستغلاله لمعارفه من أجل تثبيت هذه الشخصية الطاغية والتقرب بها إلى السلطة، بل وتوظيف ثقافته من أجل التشريع للسلطة. ولذلك كان رد فعل "سعيد مهران" فاضحا ثم قاسيا ثم مدمرا، غير أن السؤال الذي يعقده نجيب محفوظ من خلال "رؤوف علوان" و"سعيد مهران" هو: "من هو المثقف الحقيقي؟ المثقف الذي يمكن اعتباره ترجمة للمعنى الجدي لعبارة ثقافة"، وهو السؤال الذي سيأتـي في مقاربات أخرى أعمق من خلال أطروحات أشد خطورة تعالج هوية المثقف. لذلك سوف تكون شخصية "الحمزاوي" في رواية "الشحاذ" هي الحامل السردي لهذا السؤال وكيفية معالجته بالبحث عن صياغة أدق لسؤال من هو المثقف من خلال معالجة شبه بسيكولوجية لشخصية "الحمزاوي" المضطرب والمعذب واللامنتنمي، هل المثقف هو "اللامنتمي" ذلك الذي يرى ما لا يراه الآخرون، وذلك الذي يحيا على الهامش من كل شيء وهو يعيش كل شيء.
نعم فمن المكونات الرئيسية لشخصية "المثقف" أنه "مهمش" يعيش على الهامش رغم أنه وسط كل شيء. كذلك شخصية "مصطفى سعيد" الذي وإن انخرط في العمل مع أهالي قريته إبان عودته من انجلترا، لكنه كان يعيش خارج المنظومة، وخارج السياق، بل وحاول أن يغير في هذه المنظومة وفي هذا السياق، ولم ينجح في ذلك فانتهى أمره إلى الغموض الأزلي وهو شأن كل مثقف عربي.
نهاية "مصطفى سعيد" هي قريبة من نهاية "أبو هريرة" للمسعدي في "حدث أبو هريرة قال"، كما لو أنه نفس مصير المسيح المغدور. فمن التعريفات الأولى للمثقف هو أنه "اللامنتمي"، هو الذي يحمل في داخله كمًا من التجارب والمعارف التي جعلته يعمل خارج السياق باعتبار أن هذا السياق يتضارب مع ما يحمله من قيم وأفكار ومبادئ، لذلك هو يعيش فيما يشبه المنفى حتى وإن كان في وطنه ومُنفى في داخله. وهو شأن "وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا الذي كان يعيش في داخل أصدقائه، إذ أنه لا وجود لهذه الشخصية في رواية "البحث عن وليد مسعود" إنما هو موجود كأفكار وذكريات عند أصدقائه وهذه الأفكار ليست جامدة بل هي أفكار حية تفعل فعلها في حياة الأفراد.
ولهذا يمكن اعتبار معالجات الرواية العربية في النماذج التي تحدثت عنها هي معالجات إشكالية لم تكن تبحث عن أجوبة بقدر ما كانت تعمق الأسئلة، وللأسف فإن أغلب القراء حتى الجامعيين منهم كانوا يستعجلون البحث عن أجوبة عوض التأني في تعميق السؤال بدورهم، وها إننا نرى استعجال الوصول أين حط بنا؟، لقد وصلنا إلى الأماكن الخطأ، وهو ما نعانيه اليوم من مشكلة نفور الشباب من التحليل والمقاربات الجادة المبنية على الفهم المتأصل والاكتفاء بما يقدم لهم من أفكار دوغمائيبة، شباب سهل في غسيل أدمغته.

عبد الحفيظ بن جلولي/ كاتب وناقد جزائري
صورته تعبر في جوهرها عن حقيقة التحولات لدى الفرد العربي
المثقف هو ذلك الفرد الذي يروم أفقا يشكل فيه العقل المادّة الأولى للتعامل مع الأشياء والعالم والإنسان، ومن هنا كانت أهميته "المثقف" بالنسبة لحركة الواقع والمجتمع في سيرهما نحو التقدم والتطور، ولأجل هذا كان المثقف موضوعا جماليا بالنسبة للنص الروائي، حيث راح الرّوائيون يتخذون منه عنصرا وظيفيا يحرك حدث الرواية وينقلها إلى أفق الصراع من أجل صناعة اللحظة العربية المليئة بالأمل والحياة.
لقد تناول العديد من الرّوائيين العرب "المثقف" من حيث هو شخص متمرد باحث عن معنى له في الوجود، ومن حيث هو عنصر فعال في ترتيب صورة للمجتمع والواقع اللذان ينتمي إليهما ويعيش فيهما، فنجد مثلا الرواد ومنهم "توفيق الحكيم"، "سهيل إدريس" و"الطيب صالح" تناولوا المثقف في علاقته بالغرب، أي ذلك المثقف الذي ينفتح على واقعه المزري والمتهالك، فلا يرى فيه سوى بنية متخلفة بالنسبة للغرب المتقدم، وسبب ذلك ازدراء العقل، ثم تروح هذه الشخصيات المثقفة تتنكر لتراثها وتاريخها ومجتمعاتها لكن في الأخير تعود إلى ذاتها عن طريق الوعي الارتجاعي الذي يعيد للذات علاقتها بواقعها وروحها الحضارية، كما نجد ذلك في رواية "قنديل أم هاشم" ليحي حقي، أما رواية "عصفور من الشرق" فنجد "محسن" بطل الرواية يمثل شخصية حالمة رومانسية يعشق الخيال ويحمل شرقيته إلى الغرب وهناك يكتشف بداهة الصراع بين الفضاءين، وخصوصا حينما تقبّله "سوزي" التي كان يرى فيها ملاكا من عالم الخيال وأنّ سلوكا كالتّقبيل إنّما هو مساس بقدسية الحب. أما "مصطفى سعيد" في "موسم الهجرة إلى الشمال"، فصراعه كان مع ذاته قبل أن يكون مع الغرب، لأنّه انفتح على واقع لم يكن لينكشف له دون أن يوغل فيه بمهل، فالصّدمة كانت عنيفة إلى درجة أن "مصطفى سعيد" تخلل وجوده الحدثي في الرواية الغموض الذي تكشف عنه حركة السرد منذ أن يكتشفه الروائي العائد من المنفى، فيخبره جدّه بأنّ مصطفى ليس من أبناء القرية ولكنه غريب صار واحدا من أفرادها، لكن ما يؤسس لغموض العلاقة مع الغرب وشدّة الصراع سواء في عمق ذات المثقف أو مع الآخر هو دلالة الغرفة التي لم يكن أحدا يعرف عنها شيئا، إنّها الترميز لعمق هذه العلاقة المتشابكة مع الآخر والمعبر عنها بصراع أقوى مع الذات وكذلك شدة انغماس المثقف في ذاته وترتيبه لشبكة تعلقه مع ذاته.
إنّ هؤلاء الرّوائيون عاشوا كطلبة علم في الغرب، فتوفيق الحكيم وسهيل إدريس صاحب رواية "الحي اللاتيني" عاشا في فرنسا، والطيب صالح عاش في انكلترا، وهم في تعبيرهم عن صورة وشخصية المثقف إنّما جعلوا موطن الصراع وحلم تحقق العقل في واقع الكيانات العربية هو الغرب، لكن نجد نجيب محفوظ مثلا قد نقل هذا الصراع من مستواه الفكري والفلسفي إلى واقعية مساراته الحدثية في الرواية انطلاقا من الحارة والوطن، فكانت عزلة المثقف وصراعه مع ذاته ومجتمعه واكتشافه لوهم التحرر والنهوض، وكانت حقيقته التي كشفها روائيا نجيب محفوظ بأسلوبه الواقعي ورؤيته التحليلية الثاقبة كما هو الحال بالنّسبة لـــ"عمر حمزاوي" المحامي بطل رواية "الشحاذ" التي يعتبر الناقد البحريني عبد الله خليفة بناءها فلسفيا، فهذه الشخصية تقول عن نفسها: "المسألة خطيرة مائة بالمائة، لا أريد أن أفكر أو أن أشعر أو أتحرك، كل شيء يتمزق ويموت"، إنه انفصال عن النضال بسبب التأزم الوجودي الذي تعيشه الشخصية.
إن نجيب محفوظ حين كتب "اللص والكلاب" جعل "سعيد مهران" مناضل من زمن الليبرالية يتكسر على يد ديكتاتورية النظام الجديد الذي جرّده من ابنته وزوجته وبيته، وعندما يخرج من بيته المسروق يأخذ معه بعض الكُتب، فيقول المخبر ساخرا: "أكنت تسرق فيما تسرق الكتب"، يرى الناقد عبد الله خليفة بأنّ الكتب "ليست كتبا فقط بل هي الثروة المعرفية للنضال"، وصورة أخرى للمثقف في رواية "اللص والكلاب" هي شخصية "رؤوف علوان" الذي انتقل من مستوى المناضل إلى المنافق التابع للسلطة.
إنّ صورة المثقف التي ازدانت بها النصوص الروائية إنّما تعبر في جوهرها عن حقيقة التحولات التي حدثت وتحدث في الوعي المتشبث بالنهوض لدى الفرد العربي، كما أنها تكشف عن صراعه مع الواقع الذي يرفضه لكنّه أحيانا يفرض عليه، وأحيانا أخرى يحاول الانفلات منه لكنه يواجه بعراقيل المجتمع وبضوابط السيرورة، فشخصية "نفيسة" مثلا في رواية "ريح الجنوب" لعبد الحميد بن هدوقة تمثل الشخصية المثقفة المتمردة الثائرة التي تفشل في تغيير الواقع، فهي تضع المقابلة المستحيلة بين المدينة والقرية، وترى في المدينة كل شيء، لهذا تنفر من واقع القرية بكل ما يحمله من قيم، فمحاولة تزويجها ورفضها المتكرر يبين ذلك البون الشاسع بين العقل التحريري والعقل الخاضع، لكن تمرد "نفيسة" لم يكن موفقا لأنّه كان مبنيا على الرفض المطلق لواقعها القبلي لانبهارها البعدي بالمدينة، وهو ما يؤشر إلى أزمة في توزع القيم وأصالتها من حيث فضاءات انبثاقها، فللمدينة قيمها وللقرية قيمها والفيصل هو ايجابية هذه القيم وعقلانيتها.
إنّ المثقف الثوري، أو المناضل الذي يرسم مبادئه كبوصلة تحتّم عليه إتباع الاتجاه الذي تشير إليه لأنه محسوب، هذا ما وصل إليه "زيدان"، الشخصية الرئيسة في رواية "اللاز" للطاهر وطار، والذي ظل شيوعيا ولكنه التحق بالثورة كجندي في صفوفها يحذوه الإصرار في تحرير الوطن، وهو في هذا يمثل الجدل الذي طاف طائفه بالثورة وانقسمت فيه الآراء، وما زال موضوعا خِلافيا، ومأساة "زيدان" في الرواية تجعل منه بطلا تراجيديا، والموقف هو نبتة الحقيقة في هذه الرواية حيث "زيدان" يكون حاسما في البث في أمر جوهري بالنسبة للثقافة النضالية الواقعية التي تلتزم الرؤية الشخصية الواحدة وليست المزدوجة النفاقية.
إنّ صورة وشخصية المثقف في الرواية تُنجز وفق حركة الواقع والراهن، فالمثقف لم يعد ذلك الأفق الحالم الذي يرى فيه المجتمع نمطا من أنماط الإنقاذ، لقد أصبح المثقف ذلك العنصر الذي يناضل ضمن نضالات مختلفة تجمع كل أفراد المجتمع في نهوضهم المتمرد والهادف إلى تحقيق أكبر قدر من الحرية والكرامة والعدالة والتوازن المجتمعي، لكن يبقى المثقف ذلك النمط الفريد القادر على تحريك حواريات مختلفة داخل مستويات المجتمع لخلق أنساق إيجابية قادرة على تفعيل كيانية الذات وتوجيهها عقلانيا نحو مدارات التطور طبقا للمقدرات الواقعية التي يحوزها المثقف، والتي تتوافق وبشريته وطاقة تحمّله الوجدانية والعقلية.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com