كيف تناولت السينما الجزائرية والعربية "المثقف"، وكيف حضرت صورته في الأفلام، وهل كان شبيها بصورته في الرواية العربية؟. هل لامست السينما همومه ومشاكله وصراعاته الداخلية مع ذاته ومع المحيط والمجتمع والسلطة؟. هذا المثقف الذي تستلهم السينما أفلامها من رواياته وقصصه ونصوصه. هذا المثقف النقدي والتنويري الذي يشكل مملكة من الأفكار والقيم والفن والأدب خارج السرب، بصوته المنفرد بعيدا عن الجوقة التي تعزف للسلطة وتحت الطلب. كيف حضر في الفن السابع الجزائري والعربي؟.
ففي الوقت الذي تبقى فيه أفلام الراحل يوسف شاهين أكثـر الأفلام العربية التي تناولت المثقف وقدمت شخصيته وصورته، في برواز سينمائي جاد ومختلف. لم تقترب السينما الجزائرية من المثقف ومن شريحة المثقفين، ولم تتناول صورته ومشكلاته وصراعاته في الأفلام، وظلت على مسافة حذرة، وكأنها لا ترغب في الخوض في صورته وفي حيثيات شخصيته وإشكالاتها. كما ظلت أيضا معظم سينما الدول العربية بعيدة عن تجسيد صورة وشخصية المثقف في موضوعاتها.
حول هذا الموضوع "المثقف في السينما"، كان هذا الملف في عدد اليوم من "كراس الثقافة"، مع مجموعة من الكتاب والأدباء، الذين تناولوا الموضوع من جوانب وسياقات مختلفة.
إستطلاع/ نوّارة لحـرش
ربيعة جلطي/ روائية و شاعرة جزائرية
حاضر بالصدفة في السينما الجزائرية
لقد هيمنت على السينما الجزائرية صورة الفلاح والعامل كنموذجين يعكسان رؤية نظام سياسي خلال مرحلة الاستقلال، في حين غابت صورة المثقف كممثل للبرجوازية الصغيرة والطبقة المتوسطة صورة المثقف حاضرة بشكل الصدفة فقط كما في فيلمي "الأفيون والعصا" للمخرج أحمد راشدي و"شاي آنيا" للمخرج سعيد ولد خليفة بينما ظلت صورة المثقف في الفيلم العربي واضحة وهذا لوضوح تواجد الطبقة المتوسطة والبرجوازية الصغيرة في المجتمع المصري خاصة، الأمر الذي جعل السينما تغرف من الأدب الروائي كما هو الحال مع روايات إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ خاصة لكونه هو نفسه كان سيناريست إلى جانب اقتباساته من رواياته.
هذا زمن الصورة بامتياز، أنت غير موجود ما لم توجِدك وتؤكِّدك صورة. لا كينونة لأحد أو شيء ما لم تثبت وجوده صورة جامدة أو متحركة. ثم إن الجميع مجرد صور لصور. العالم الأرضي أو "السفلي" صور متحركة بحروبه وسلامه المنشود. وكما يُراد لها أن تُشاهد، تُصنع من ماء تارة أو نار تارة أخرى. والعالم الآخر "العلوي" الرباني صور أيضا، تُتَداول بين الناس، تُرهِب وتُنذِر وتجذِب بقوة الشباب والشيوخ الراغبين في الحوريات الأبكار.
الصورة أرض موازية للأرض تدور بدورها حول الشمس. ولأن السينما مملكة الصورة بامتياز: أربع وعشرون صورة في الثانية، أمر لا يدرك خطورته وأهميته سوى الفطنين من الاستراتيجيين الذين يريدون تغيير العالم ومن المؤكد أننا لسنا منهم، فكل ما نعيشه يريد أن يستقر كل شيء على حاله، والسينما جلابة حركة وتغيير ووجع رأس فــ(بناقص منها).!
كُثُرٌ هم المثقفون الحالمون بالتغيير الذين انخرطوا في صفوف ثورة التحرير، ولم يفُتْهُم أن لا ثورة دون صورة ودون سينما، لقوة إقناعها وفاعليتها وخطورتها، فاستعملوها بذكاء لنشر القضية الوطنية في أرجاء العالم. ولم يترددوا في الاستفادة مما اخترعه الإخوة لوميير (les frères lumières ) 1895 وأصبحت فوهة الكاميرا سلاحا على أكتافهم (جمال شندرلي، روني ڤوتيي، سيد علي جناني، لخضر حامينة، موساوي، شولي، حسن بلحاج، مصطفى كاتب... وغيرهم)، فمنهم من استشهد ومن جُرح ومن سُجن ومن نُفي. السينما حرب ضد الظلم بكل أشكاله.
على بعد نصف قرن من الاستقلال بقليل أو كثير، لِنُعِدْ تدوير البَكَرَة نحو الخلف فنجد ما افتكه الشهداء المجيدون للثقافة، بتضحياتهم من أجل حرية البلاد وشعب البلاد، إنها غنيمة حرب أخرى: خمسمائة قاعة عرض سينمائية بكل المقاييس العالمية. كانت قاعات جميلة قابلة لعرض ما تنتجه الطاقات الفكرية والجمالية المحلية والعالمية، بفلسفة جديدة. قاعات لم يحظ بمثلها أي بلد عربي آخر بتقاليد سينمائية قاومت لسنوات، كانت تشبه ما تسير عليه السينما في العالم المتحضر وسيدة أنيقة محترمة تحييك عند وصولك تحمل مصباحا يدويا ترافقك لتدلك على مكانك المرقم في هدوء. قاعات بل مملكات زاخرة بالحلم والأفكار والحياة والتفاؤل. كانت بداية تنبئ بشبه هوليود أمريكي أو بوليود هندي عندنا، إلا أن الأسف لم يبق منها سوى "وٓالُو يود" سوى الهيكل والصورة.
خمسمائة قاعة لصناعة الفرح والحلم ولزراعة الوهم الجميل ولتعديل الرؤية والنقد، كيف أُهملت وخُربت وأغلقت أو بيعت..
الواقع أن السلطة منذ البدء لم تكن في حاجة للمثقف المنتقد المنتج المستقل المُهذِّب بعقله وذوقه، (فيها ما يكفيها) عليه أن يصفق لها أو يصمت. فلا حاجة إلى قاعات سينما، فالوهم يوجد في كل مكان، لكنها لم تتوقع أن يتوحش ويعدو صارخا مدويا في الشوارع والطرقات.
لا أنكر شعوري بالراحة عند كل موعد مهرجان واجتماع عشاق السينما. على الرغم من انعدام قاعات العرض، من خشيتي أن ينسى الناس طقوس فن يدعى (السينما)، خاصة الأجيال الجديدة التي لم يتيسّر لها أن تهاجر بعدُ، لعلها تشاهدها هناك على الضفة الأخرى. من خشيتي أن ننسى أن الجزائر خلال تاريخ العرب قاطبة وحدها من حصلت على سعفة ذهبية واحدة ووحيدة نالها مخرجنا الكبير لخضر حامينة حين كان الحلم حرّا.
غائبة هي السينما، وتزداد غربةً في البلاد كلما الوقت زاد. تماما كما يزداد المثقف النقدي غربة واغترابا في الوقت الذي يجاهر السياسي من وقت لآخر فيذكر في المنابر المسموعة والمرئية والمتخيلة باستصغاره لدور المثقف والفنان في المسيرة التاريخية.
وبصمت المثقف وتبعيته عن جبن أو تواطؤ أو طمع أو تملص من دوره النقدي العضوي أو ربما عن تشاؤم وفقدان الأمل في التغيير، في هذا المشهد اللا سينمائي، حيث جميع قاعات العرض مطفأة، موحشة، تقتحم شخصية السياسي منفردة قاعة العرض الوحيدة المفتوحة على السماء تحت الشمس، إنه نفسه السناريست والممثل والمخرج والمتفرج الوحيد غالبا، وهو المموّل بطبيعة الحال، يسلي الناس حد السخرية ويؤلمهم حد البكاء.
ولأن الحلم والأمل هما غذاء المثقف على الرغم من كل شيء، فمازال يُمنّي النفس والعين بمشاهدة فيلم عظيم (في الخيال) عن أحمد وهبي أو أحمد صابر أو عن ابن باديس أو عن مصالي الحاج أو جميلة بوحيريد أو عن الريميتي أو عن مالك حداد أو عن مفدي زكريا أو عن ابن الشنب أو عن الأمير عبد القادر الذي طالت حكايات الأفلام عنه مع كل موسم دون جدوى أو عن الشيخ بن صاري أو أبوليوس أو الشيخ عين تادلس أو بقار حدة أو، أو..
مرزاق بقطاش/ روائي و مترجم جزائري
سينما ترفيهية لا تخوض في صورة المثقف و إشكالاته
السينما العربية والجزائرية، سواء بسواء، ما زالت واقفة عند حدود المفهوم الأول الذي واكب نشأتها في العالم الغربي، أي، إنها ما زالت تلتمس الترفيه عن المتفرج، وليس الولوج إلى عقله ووجدانه. وهي لا تخوض في صورة المثقف وإشكالاته. هي سينما "تطريب"، إن جاز التعبير، وهي في هذا الشأن شبيهة بالموسيقى العربية التي تهدف إلى التسلية. أنا أتساءل في هذا المقام: ما هو عدد الروايات التي انتقلت من الورق إلى الشاشة العريضة والشاشة الفضية؟.
في العالم الغربي، هناك تسلية وترفيه في السينما، ولكن، هناك في المقابل، دعوة إلى استخدام العقل وتوظيفه. إننا نجد فيها التاريخ بمختلف مراحله، وعلم النفس، وعلم الاجتماع والفن التشكيلي والنحت والموسيقى. وهذه كلها أشكال تعبيرية انتقلت إلى عالم الصورة بفضل المخرجين والشركات التي لا تبتغي الربح فقط، وإنما، ترمي إلى خلخلة البُنى الفكرية والوجدانية في المجتمع الغربي.
هل انتقلت رواية "نجمة" لكاتب ياسين إلى السينما؟ لا. هل انتقلت رواية "اللاز" للطاهر وطار إلى الشاشة العريضة أو الفضية؟ لا. وهل انتقلت عشرات الروايات التي كُتبت بالعربية وبالفرنسية إلى السينما؟ لا، وألف لا. فقط "ريح الجنوب" لابن هدوقة، و"الدار الكبيرة" لمحمد ديب، عرفتا الطريق إلى السينما والتلفزيون لأسباب سياسية في المقام الأول. ولستُ في حاجة إلى ذكر هذه الأسباب.
إنني أرى أن العيب الأول يكمن في المُخرج السينمائي والتلفزيوني. كل واحد منهما يريد أن ينوب عن الروائي وكاتب السيناريو والحوار، ويرغب، بكامل جهده، في أن يكون مخرجا على طريقة "شابرول" و"جودار" و"مارتين سكورسيز" وغيرهم من أباطرة هذا الفن. ليس هناك تواصل بين المخرج والروائي في بلادنا، ولا حتى في العالم العربي، اللهم إلا فيما ندر.
والعيب الثاني موجود في السلطة نفسها. أجل، إنها تخشى كل صورة وكل كِتاب وكل فيلم وكل لوحة يمكن أن تحدث خلخلة في البنية الفكرية لدى الإنسان الجزائري، وليس أدل على ذلك من أنها لم تعمل إلى حد الآن على إنشاء مدرسة للفنون السينمائية. وعليه، فإن كلا من المخرج ومن السلطة في بلادنا مذنبان في حق هذا الفن الراقي.
ما عادت السينما في عصرنا هذا واسطة للإشهار الإيديولوجي. على كل واحد منا أن يأخذ بأسباب هذا الفن الجميل، لا لخدمة السلطة، ولا لتوظيف هذه الإيديولوجية أو تلك لغاية سياسية معينة، وإنما لأنها صارت جزءا لا يتجزأ من الحياة الإنسانية على سطح هذا الكوكب. كفانا بهدلة في هذا المجال!.
وأختتم كلامي هذا بالتساؤل التالي: هل عملنا في الجزائر على إخراج فيلم عن حياة الأمير عبد القادر، ذلك الذي نتغنى به وبنضاله في كل مناسبة؟، هل فكر مخرج جزائري في تصوير فيلم عن حياة الشيخ عبد الحميد بن باديس، ذلك الذي أعتبره شخصيا، وراء النهضة الجزائرية الحقيقية؟. أهي مسألة أموال؟، الجزائر، والحمد لله، لها ما يكفيها في هذا الشأن. أهي مسألة اختيار سياسي وثقافي؟، أم هي لعبة يريد أصحابها من ورائها أن يهبطوا بمظلاتهم سالمين غانمين دون أن يصابوا بجروح أو رضوض، ودون أن يقعوا على سطح هذه العمارة أو تلك؟ هناك العديد من الأسئلة التي تتواتر على ذهني كلما أعملت الفكر في موضوع السينما الجزائرية والعربية بصورة عامة. وأنا لا أستطيع الإجابة عليها مع الأسف.
إبراهيم درغوثي/ روائي و كاتب تونسي
السينما العربية عموما تجاهلت المثقف العربي و لم تلتفت لقضاياه
تجاهلت السينما العربية منذ ظهورها في بداية القرن العشرين المثقف العربي ولم تلتفت لقضاياه وهمومه الفكرية والإبداعية إلا مؤخرا، أي منذ ستينات القرن الماضي عندما انفتحت على النصوص الروائية التي كتبها هذا المثقف. والحال لا يختلف كثيرا في هذا الموضوع بين بلد وآخر من بلاد العرب فحتى في مصر التي ازدهرت فيها السينما أكثر من غيرها في هذه البلدان فإن المنتجين الكِبار ظلوا يحومون حول مواضيع التسلية للتخفيف عن المشاهد المثقل بأعباء الحياة ولضمان الكسب من وراء هذا الإنتاج الذي يضمن رواجا لأفلامهم من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن شخصية المثقف هي شخصية معقدة تتطلب من السيناريست والمخرج جهدا كبيرا لتبليغ رسالته التي يسعى من خلالها إلى نشر الوعي الفكري بين أبناء قومه لتغيير واقعهم نحو الأفضل.
وقد برزت في هذا المجال الأفلام المأخوذة خاصة من روايات الكاتب المصري نجيب محفوظ (القاهرة 30، قصر الشوق، ثرثرة فوق النيل، ميرامار، الكرنك، اللص والكلاب) حيث ظهرت شخصية المثقف العربي في كل تجلياتها: المأزوم، المنهزم سياسيا ومجتمعيا خاصة بعد حرب 67 فوجد ضالته في الحشيش والعوامة ليغطي بها عجزه عن الانتصار لشعبه، والمناضل واليائس من تغيير شعبه نحو الأفضل والوصولي الذي يقدم التنازلات ولو على حساب الشرف والرجولة.
ولعل السينمائي العربي الأشهر الذي حضرت شخصية المثقف في أفلامه أكثر من غيرة هو المصري يوسف شاهين (المصير، الاختيار، إسكندرية ليه، إسكندرية كمان وكمان) حيث تظهر شخصية المثقف ذو الشخصية المنفصمة التي تحوم كثيرا حول شخصية المخرج ذاته يوسف شاهين الذي استبطنت شخصيات أبطال هذه الأعمال الدرامية.
ولا يختلف الحال كثيرا مع صورة المثقف في الأعمال السينمائية للمخرج التونسي نوري بوزيد التي كتب سيناريوهاتها بنفسه في الغالب الأعم وهو المناضل اليساري الذي جرب السجن في بداية حياته زمن بورقيبة فكتبها للسينما على شاكلة سيرة ذاتيه يظهر فيها هذا المثقف مهمشًا كلما اقترب من المشاكل الحقيقية لشعبه اكتوى بنيران السلطة فانزوى بعيدا يراقب الأحداث دون أن يفعل فيها فعله "الثوري" الذي كان يطمح إلى تحقيقه.
أما أفلام المخرج الجزائري مرزاق علواش التي تشرّح واقع الحياة في الجزائر (من عمر قتلاتو الرجلة حتى باب الويب، مرورا بمغامرات بطل باب الواد حومة، وسلاما ابن العم، وحب في باريس) فإن المثقف يظهر فيها باحتشام شديد رغم مواضيعها الحارقة التي تشرح حال الجزائر في تسعينات القرن الماضي زمن الإرهاب الأسود الذي طال كثيرا من مثقفيها بالقتل والتشريد إلا أن صورة هذا المثقف تظهر جلية في فيلمه "رجل ونوافد" 1982 وهي تصور حياة رجل مثالي يعمل أمين مكتبة وطنية في العاصمة إلا أن استقامة هذا المثقف لا تعجب الحاسدين فيكيدون له كيدا لينقل قسرا إلى العمل في مكان لا يناسب مؤهلاته الفكرية. ورغم اشتكائه لوزير الثقافة إلا أن شكواه لا تجد صدى عنده فيظل في غربتين ذاتية وموضوعية حتى آخر أيام حياته.
يظل المثقف وحضوره في الإبداع الإنساني هاجسا يؤرق منتجي الثقافة بكل صورها المكتوبة والمرئية، لقد ظلت هذه الشخصية الفريدة منتجة لفعل إنساني قادر على تغيير المجتمعات نحو الأفضل منذ ظهورها في الحضارة الإغريقية حتى الآن وما حضورها في الأفلام السينمائية ولو بصورة محتشمة إلا دليلا على قيمتها الاعتبارية في القدرة على تغيير الكون.
محمد عبيدو/ كاتب و ناقد سينمائي سوري
لم تتناول نموذج المثقف عبر موضوعاتها لأن أغلب انتاجاتها تجارية
إن السينما العربية لم تتناول كثيرا نموذج المثقف عبر موضوعاتها، ربما لكونها في غالب إنتاجها التجاري تبحث عن موضوعات وشخصيات الربح المضمون في شباك التذاكر، ولكن هذا لم يمنع حضوره كشخصية أساسية في أعمال جادة لمخرجين مهمومين بإشكاليات بلدانهم كما في أفلام يوسف شاهين وفي أفلام مخرجي الواقعية الجديدة بمصر وفي التجربة التونسية والمغربية وفي عدد من الأفلام السورية. فكيف قدمت السينما المثقف العربي عبر إنتاجاتها؟، هل فقط كما يتبادر للذهن، للوهلة الأولى كشخصية نمطية، أم فقط كسيرة ذاتية؟. هل قاربت عبر نماذجه التي تناولتها طرح قضايا الواقع العربي المؤلم؟.
كما في المجتمع كان المثقف في السينما يعاني غربة عن مجتمعه، فهو منكسر معظم الأحيان وصورته مرتبكة وقلقة وبموقع السخرية أحيانا كثيرة وإن كان يسعى لزعزعة هدوء المجتمع، كما قدمت السينما سيرا ذاتية محدودة جدا لشخص المثقف مثل "ناجي العلي" في فيلم عاطف الطيب، و"طه حسين" في فيلم "قاهر الظلام" من إخراج عاطف سالم. والشاعر الفرنسي الجزائري المولد الراحل "جون سيناك" عبر فيلم "اغتيال الشمس" للجزائري عبد الكريم بهلول، وفي السينما السورية تناول مخرجون شخصية المثقف كشخصية رئيسة مثل نبيل المالح بفيلمه "السيد التقدمي"، ومحمد شاهين بفيلمه "قتل عن طريق التسلسل"، غير أن سمير ذكرى كان أكثر المخرجين تناولا لشخصية المثقف في أفلامه الروائية (حادثة النصف متر، ووقائع العام المقبل، وعلاقات عامة، وتراب الغرباء)، ففي "وقائع العام المقبل" 1985، تناول قصة شاب موسيقي، يعود إلى بلدته في حلب، محاولا تأسيس فرقة موسيقية تُسمى الفرقة العربية، ويواجه العديد من المشاكل البيروقراطية، ثم يقع في حب مطربة تعيش نفس أحلامه، ونرى مقابله مثقفا نقديا ولكن بلغو كلامي ثقيل. يموت الموسيقي بعد أن عجز عن تحقيق حلمه وهو يعزف لحنًا تراثيًا، حيث يشعر بالألم الشديد وهو يتطلع إلى المكان حوله وينهار. كما انطوى فيلم "تراب الغرباء" الذي قدم عبره شخصية المفكر التنويري عبد الرحمن الكواكبي، على آراء الكواكبي من حيث فصل الدين عن الدولة والنهوض بواقع المرأة والعدالة ومحاربة الاستبداد والمجتمعات الديمقراطية وقضايا عديدة تشغل الفكر التنويري.
ناصر عراق/ روائي مصري
المثقف العربي لم ينل نصيبه المشروع في أفلامنا السينمائية
من مفارقات السينما المصرية كما في السينما العربية عموما أن المثقف الذي يُغذّي هذه السينما بالأفكار والقصص والحكايات، لم يستطع أن يفرض حضوره بقوة على الشاشة إلا فيما ندر، ولكن قبل أن أشرح لماذا لم ينل المثقف نصيبه المشروع في أفلامنا السينمائية عندي ملاحظتان أود تحريرهما في البداية. الملاحظة الأولى تتمثل في أن السينما المصرية نشأت في ظل احتلال إنجليزي لمصر، إذ إن أول فيلم روائي مصري إنتاجًا وإخراجًا وتمثيلا هو "برسوم يبحث عن وظيفة" للمخرج محمد بيومي وبطولة بشارة واكيم، وقد عرض في عام 1924، أي عندما كانت مصر خاضعة للاحتلال الإنجليزي، وبطبيعة الحال لم يكن هذا الاحتلال سيسمح بظهور شخصية المثقف الجاد والحقيقي الذي سيدعو إلى مقاومة الاحتلال حتمًا.
أما الملاحظة الثانية فتكمن في أن المثقف الحقيقي يتحتم عليه أن يرفض الظلم والاستغلال، وأن يفضح البطش والاستبداد، وهو أمر بدا صعبا حتى بعدما زال الاحتلال ودخلت مصر في دروب العهد الجمهوري برؤسائه السبعة، نظرًا لأن حُكام العالم الثالث لا يحتملون انتقادات جوهرية لأنظمتهم حتى لو رفعوا شعارات تمجد الإنسان وتُبشر بالعدالة.
ومع ذلك، فقد تمكن بعض المخرجين الموهوبين في تشييد صورة عامة للمثقف تضج بالحرارة والحيوية، رغم أن كثيرًا منها أظهر الجانب السلبي للمثقف بوصفه يستغل معارفه ومهاراته في الصعود الطبقي المشبوه والاقتراب من أصحاب المال والسلطان. وقد تعددت النماذج التي قدمتها السينما المصرية للمثقف بنقاوته وبانتهازيته. فأول صورة إيجابية واضحة للمثقف المصري تقمصها النجم الجديد آنذاك عماد حمدي في فيلم "السوق السوداء/ عرض في 6 ديسمبر 1945" للمخرج كامل التلمساني. في هذا الفيلم يسعى عماد حمدي لنشر الوعي بين أهل حارته البسطاء ليحاربوا التجار الجشعين الذين يستغلون انكماش التجارة في الحرب العالمية الثانية فيرفعوا أسعار السلع، وينجح بالفعل في حشد "الشعب" حول أفكاره وقناعاته.
يتجلى عماد حمدي مرة أخرى في دور المثقف الرومانسي الذي يكتب الروايات في فيلم "جنون الحب/ عرض في الثاني من فبراير 1954" للمخرج محمد كريم. في هذا الفيلم يقود المثقف معركة من أجل الظفر بالحبيبة وتحريرها من سطوة شقيقتها المتجبرة الكارهة للحياة، وينجح في نهاية المطاف.
أول صورة واضحة للمثقف الانتهازي جسّها النجم كمال الشناوي في فيلم "اللص والكلاب/ عرض في 12 نوفمبر 1962" للمخرج كمال الشيخ وهو مأخوذ عن رواية نجيب محفوظ. في هذا الفيلم نرى انتهازية المثقف الذي هجر قناعاته الفكرية والسياسية عندما نال حظه من المال والشهرة باقترابه من الكبار أصحاب السلطة.
في تحفته الخالدة "القاهرة 30/ عرض في 1966" استطاع المخرج صلاح أبو سيف أن يقدم صورة زاهية مشرقة للمثقف العضوي -بتعبير جرامشي- الذي يقاوم الاحتلال الإنجليزي وأتباعه من باشوات مصر، حيث لعب هذا الدور في الفيلم الممثل سيء الحظ عبد العزيز مكيوي.
للنجم نور الشريف نصيب معتبر في تجسيد شخصية "كمال عبد الجواد" المثقف الحالم، ثم المهزوم في ثلاثية نجيب محفوظ التي حققها المخرج حسن الإمام، وهكذا ظهر نور الشريف في "قصر الشوق/ 1967"، ثوريا حالمًا، ثم انحشر في دنيا الإحباط والسلبية في "السكرية/1973".
الفنان محمود ياسين أيضا تقمص حال المثقف في أكثر من فيلم لعل أهمها "العش الهادئ/ 1976"، للمخرج عاطف سالم، و"سونيا والمجنون/ 1977" للمخرج حسام الدين مصطفى، فضلا عن أنه كان يجيد إتقان دور المثقف المعقد نفسيا، المتوتر عصبيا، لأنه يعبر عن الحالة العامة التي اعترت غالبية المثقفين المصريين بعد هزيمة 1967.
على أية حال، مازال المثقف المصري والعربي عموما في حاجة إلى مزيد من الضوء السينمائي على دوره الإيجابي في تاريخنا الاجتماعي، ورغم أن ذلك لم يتحقق بالقدر الكافي في القرن الماضي، لذا نأمل أن يتحقق في القرن الحالي.