«كراس الثقافة» في عدد اليوم، يفتح ملف «الأدب الساخر». ويطرح أسئلة مختلفة بخصوص هذا الفن، فهل اختفى أدب السخرية؟، أو بمعنى آخر الأدب الساخر، من المشهد الأدبي/الثقافي الجزائري والعربي عموما؟، هل فقد مكانته في ريبرتوار الإبداعات الأدبية، أم مازال موجودا وحاضرا وإن بدرجة أقل.
وإن اختفى، ما هي الأسباب التي أدت إلى اختفائه وتراجعه أو ندرته؟ هل انسحب الأدباء من هذا الفن ولم يعد يعنيهم أن يعبروا أو يعالجوا موضوعات الواقع والحياة بالسخرية والكاريكاتيرية والتندر والتفكه، أم أنه لم يختف إنما فقط قلَ، ومن جهة أخرى، قلَ الذين يكتبونه ويكرسون إنتاجهم الأدبي له؟. أيضا كيف ينظر الكُتاب الآن لهذا الأدب، وكيف يرون سقفه وسياقاته الأدبية والفنية؟.
السخرية ظاهرة إنسانية قديمة. لا أحد في وسعه أن يحدد تاريخ نشأتها. فإذا هي أُخِذت بمعنى التحقير والتذليل والانتقاص من قيمة الآخر، فإننا نجدها تتسرَّب إلى سائر النشاط الإنساني، إنْ بواسطة الحركة أو الصوت أو الصورة أو الكلمة التي هي أداة التعبير الأدبي. وهي تنطوي –غالباً- على إحساس بالتفوُّق والقدرة على التشويق والتأثير، على أن السخرية في الأدب -كما أفهمها- هي أبْعد من أنْ تكون تَفكُّهاً خالصاً، وأرفع من أن تكون مجرد هُزْء يستهدف القذف والتجريح. إنها صياغة فنية تستبطن قَدْراً من الحكمة. ومن غير أن نخوض في تفاصيل تاريخية، فإن الأدب العربي كغيره من الآداب، لم يَخْلُ من السخرية، بدْءاً بشعر الهجاء إلى المؤلفات النثرية مثل: «المقامات وبخلاء الجاحظ، وأخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي» وغيرها، واستمر تواجدها في الأدب الحديث.
فأما في الأدب الجزائري، فإن رواية «الحمار الذهبي» لأبوليوس تُعَد من البدايات الواضحة في هذا الاتجاه. ولم تغبْ السخرية من الأدب الشعبي أبداً. كما امتدت إلى الأدب الحديث والمعاصر خاصة في النشاط الأدبي لحركة الإصلاح.حيث عمد بعضهم إلى السخرية من المستعمِر الفرنسي وممَّنْ يقلِّدونه من الأتباع. كما في كتابات «أحمد رضا حوحو» أو كقول «الأمين العمودي» فيمَنْ تزوج أجنبية: «حَيُّوا الحكيم ولا تنسوا قرينته/فهو سليمان والمدام بلقيس. له غلام أطال الله مدته/تنازعت العرب فيه والفرنسيس. لا تعذلوه إذا ما خان أمته/فنصفه صالح والنصف موريس».
فأما اليوم، فإن هذه الظاهرة لم تختفِ تماماً، فإذا قَلَّت، فإن ذلك مردُّه إلى جملة من الأسباب منها: أن الأدب العربي الحديث ارتبط بحركات التحرر ثم بالتوجه الاشتراكي ما جعله أمْيل إلى الالتزام الصارم الذي قد ينأى بصاحبه عن الفكاهة والمزاح. مثلما استنكر بعضهم أن ينشغل الشعراء بالغزل في وقت يرزح فيه المواطنون تحت وطأة الجهل والمرض والاستغلال.
كانت السخرية في القديم من فُسَح التسلية والترفيه، كما كانت من الأساليب غير المباشرة في نقد المجتمع والسلطة، بينما ظهرت في هذا العصر وسائل شتَّى وأكثر تطورا في السينما والتلفزة والكاريكاتور وغيرها من وسائل التواصل التي جعلت الناس يزهدون في الإقبال على قراءة الأدب، ناهيك عن أن يستغِلُّوه للسخرية.
إن السخرية في الأدب تقتضي مهارة نادرة في القدرة على التلاعب اللفظي كما كان المدح بما يشبه الذم أو الذم في معرض المدح، وهي مَلَكة لا يتمتَّع بها كل الأدباء.
إذْ الأديب الساخر هو الذي لا يكتفي بإتقان اللغة، وإنما تكون لديْه القدرة –وبدرجة عالية من الذكاء- على مفاجأة القارئ بقَلْب الوضعيات، أن يخرق النمطية فيجعل المألوف يبدو غير مألوف –لذلك يستحق عملُه- أن يُدْرج في صميم الإبداع.
في الأدب الجزائري قد تكون السخرية ميزة عامة لدى كاتب ما، مثلا: «السعيد بوطاجين، عمار يزلي». ولكنْ لا تخلو منها الكتابة الأدبية شعراً ونثراً. فإذا هي لم تأْتِ في شكل عبارات وصُوَر مبتكرة، فقد يُورِد الكاتب نكتة أو طرفة أو تعليقاً للتعبير عن موقف من السلطة أو عن أية ظاهرة اجتماعية مثيرة. وإنها، وإن هي لم تُفْرَد لها مؤلفات مستقلَّة، مثل: «عودة حمار الحكيم» لـ: «محمد زتيلي»، إلا أن السخرية ستظل مبثوثة في الإنتاج الأدبي بمستويات متفاوتة، لأنه من طبع الإنسان أن يضحك ويمزح سواء بهدف التسلية الخالصة أو لغاية يريد لها أن تتحقَّق بغلاف مُشوِّق غير مباشر، وهي في الوقت ذاته تمثِّل اختباراً لذكاء القارئ ومدى قدرته على التقاط الدلالة الخفيَّة وراء المداورة والتلميح.
لا يمكن الحديث عن تراجع الأدب الساخر لأنه ظل، عبر الوقت، خيار أدباء قلائل على المستوى الوطني والعربي والدولي، لذا يصبح الحديث عن انحساره أو تقهقره أمرا يحتاج إلى وقفة إحصائية عارفة. هذا النوع من الكتابة ظل، مع الزمن، نادرا جدا، ويمكن للتدليل على ذلك، الإشارة إلى برناردشو في إنجلترا، والكاتب الروسي ميخائيل بولجاكوف في مؤلفه الرواية الممسرحة، أو مواطنه أنطوان تشيكوف، وهناك توفيق الحكيم في مصر، وميلودي شغموم في المغرب الأقصى، وعزيز نسين في تركيا، وزكريا تامر في سوريا. أما في الجزائر فيمكن الإشارة إلى أحمد رضا حوحو، ثم مصطفى فاسي ومحمد زتيلي من جيل الاستقلال. إضافة إلى أسماء توقفت عن كتابة السرد وانتقلت إلى الإعلام، ومن هؤلاء محمد زتيلي.
لم أجد، في مجموع ما قرأته، أسماء كثيرة اهتمت بالأدب الساخر كتوجه له طريقته الخاصة في التعامل مع المادة السردية، ومع العالم الخارجي. وبالمقابل، فإننا نجد أنفسنا أمام مئات الكتَاب الرومانسيين والواقعين الذين كانت لهم أشكالهم في الكتابة. قد نجد وفرة من هذا النوع، لكننا لا نجد الكمية ذاتها عندما يتعلق الأمر، على سبيل التدليل والتمثيل، بالأدب السريالي والأدب العبثي، أو بالوجودية. الأمر نفسه ينسحب على الأدب الساخر.
أتصوَر، بالمناسبة، أن الأدب الساخر يستدعي، في حالات كثيرة، جهدا مضاعفا لنقل الحالات النفسية للشخصيات أو للحديث عن القضايا الاجتماعية التي تهمَ الكاتب. السخرية، في نهاية الأمر، ليست ترفا ذهنيا عابثا، بل وسيلة من وسائل تعرية الواقع، أمَا ما يضحك المتلقي فسريعا ما يتحول إلى مأساة تعيده إلى ذاته وحقيقته.
لا يمكن أن نتصور الأديب الجزائري محمد زتيلي يعبث مع حماره، كما توفيق الحكيم ورضا حوحو، إنه يشتغل بشكل جاد لتقديم الموضوع في ذلك الثوب المفارق للمتواتر، كما لا يمكننا دعوة الكُتاب لحذو حذوه، أو إتباع هذا أو ذاك. المسألة تتعلق بالإحساس، وبالطريقة التي يراها أقرب لأداء المهام، وأقرب إلى الأداة المؤهلة لتقريب المعنى من القارئ، وما ينسحب على زتيلي ينسحب على آخرين.
أؤكد أن الأدب الساخر لم يتراجع، ولم يفقد مكانته التاريخية. إنما يمكن أن نطرح سؤالا آخر: لماذا لا نجد في الحقل الأدبي العالمي كتَابا من هذا النوع؟ أتصوَر أن هذا السؤال جدير بالطرح، ليس لتوجيه الكاتب نحو نوع معين، بل لمعرفة أسباب عدم اهتمام الكتَاب بهذا النوع، رغم قيمته.
يمكن أن نكون، بحكم القراءات والدراسات الأكاديمية، مؤهلين، ولو نسبيا، للإجابة على هذا السؤال، لكننا نفضل تركه مفتوحا على مجموعة من الإجابات الممكنة تفاديا لتكريس يقين غير ضروري في الوقت الراهن، وغير مناسب نقديا بالنظر إلى واقع الأدب في علاقته بالنقد.
أتصوَر، مع ذلك، أن الباحثين مؤهلون للكشف عن أسباب ندرة الأدب الساخر عبر الأزمنة، سواء في البلد أو على المستوى العالمي، وتلك سمة بارزة وجب، إن كنا بحاجة إلى تسويغها، الاتكاء على الدراسات المتخصصة في هذا المجال، وهي قائمة، وراقية من حيث إنها قامت بجهد معتبر في هذا الميدان.
شتّان بين السخرية فنًا هابطا وتنكيتا سخيفا وفظاظة في التعامل واعتداء على الأعراض، والسخرية أدبا راقيا وأسلوبا ممتعا ومواجهةً قوية لعيوب المجتمع تحررا من لغة الخشب وتحريرا للإنسان من ولائه لغير حريته وكرامته.
إن السخرية بالمفهوم الأول ما تزال شائعة في البرامج التلفزيونية الرديئة وفي كثير من منابر النشر على الشابكة «الانترنت»، أما السخرية بالمفهوم الثاني «السخرية الأدبية» فهي التي تَقَلص حضورها وقلّ كُتابها حتى عز على القارئ صاحب الذوق العالي أن يعثر في ما يُنشر في الجرائد والمجلات ودور النشر ووسائل الإعلام المختلفة على هذا اللون من السخرية العالية الممتعة المنبّهة المنفّسة المحرّرة للوعي المحرِّكة للضمير، لأسباب شتى نذكر منها:-أن السخرية الأدبية فن رفيع لا يقدر على ممارسته بحقه إلا كتّاب على قدر عال من الموهبة الفنية التي تجعل الكلمة الساخرة والنبرة المتهكمة واللفتة النابهة إلى مواضع الخلل والمفارقة في سلوك الناس جزءا لا يتجزأ من الأسلوب العالي الذي تعوّدوا على استعماله.
وأن الكتابة الأدبية الساخرة تصدر عن مزاج نفسي معيّن وخصوصية في الشخصية الأدبية أو الفكرية لا تتاح إلا لقلة من الأدباء والكُتاب. ولا أستطيع أن أحدد من المؤهل لأن يكون صاحب مزاج ساخر وشخصية منتجة للأدب الساخر، ولكني أرجّح أن يكون أقرب الكُتاب إلى الكتابة الأدبية الساخرة وأقدرهم عليها هو الكاتب الذي يتمتع بشخصية مرحة ومنفتحة ومتحررة من التبعيات والإملاءات. وربما زدنا على ذلك أن تتمتع هذه الشخصية بضمير حي وشعور متيقظ وعزة نفس، لأن كل ذلك عوامل نفسية توجّه أسلوب التعامل مع الأوضاع والأحداث والتحديات التي تواجه الكاتب سواء بعدّه فردا يخوض معاركَ شخصية، أو كيانا اجتماعيا تعنيه قضايا المجتمع وآلامه.
أيضا الأدب الساخر يزدهر حيث يزدهر الأدب أولا، وتزدهر الحركة الفكرية والثقافية ثانيا، وحيث يشعر الكُتاب برسالتهم الأدبية والفكرية والاجتماعية، فيحملون همّ تشريح الواقع المتردي، أو الدفاع عن قضية فكرية أو اجتماعية. أما حين يكون الكُتاب مشغولين بمكاسب شخصية محدودة، أو مستغرقين في رؤية إيديُولوجية متزمتة ضيقة، فقلّما يصدر عنهم لون جميل من الأدب الساخر.
ولقد أوشكت هذه الشروط جميعها أن تتلاشى، فالأدباء الكبار أصحاب المواهب والمهارات قليلون، وهم على قلتهم قلّما يكون لهم حضور مطّرد على صفحات الجرائد والمجلات والمنابر الإعلامية. والمزاج المتجهم المتوتر المنغلق هو المزاج السائد الآن بفعل ظروف سياسية وثقافية واجتماعية مختلفة. وأصحاب الأقلام الآن منشغلون بقضايا شخصية أو متخندقون في خنادق عصبية ضيقة يدافعون عنها بأمزجة عصبية هائجة قلّما تتيح متنفسا لسخرية ممتعة.
يخطئ من يعتقد أن السخرية هي فن الإعتداء على الأعراض والتجرؤ على المقدّسات. السخرية هي فن الإمتاع بالأسلوب الذكي المثير، والدفاع عن الأفكار والحقوق والحريات، والكفاح ضد الاستبداد والقمع. ومن يملك مؤهلات الكتابة الأدبية الساخرة يحظى باهتمام كبير من جمهور القراء، ويكون له تأثير في تحريك الوعي. ويُعدّ أحمد مطر من أشهر الشعراء الساخرين في هذا العصر لذلك كان لشعره ذيوع لافت. وإذا ناسبَ أن أذكر بعض ما يستحق الإشارة من الكتابة الأدبية الساخرة في هذه السنوات فإني أذكر كتابات السعيد بوطاجين، وبعض مقالات محمد الهادي الحسني، والمقالات السياسية للكاتب الإعلامي المصري سليم عزوز، وكلها يحظى بإعجاب وإقبال كبيرين من جمهور القراء.
أدب السخرية أو الأدب الساخر، هو تعبير الذات المنهمكة في متابعة تلوّنات الواقع الغريبة والمشوّهة ومحاولة خلخلتها عن طريق تنصيص التنكيت واستحضار الضحك كآلية للتنبيه إلى ما آلت إليه مكونات الواقع، وهذا يكون حين تشعر الذات الكاتبة بأنّ الواقع فيه أيضا مناطق استقامة تسير بالتوازي مع مناطق التشوّه، فتكون السخرية حينها أداة لإعادة النِصاب للتوازن في الواقع من موقع يرى فيه الكاتب أنّ السخرية ميدان للجدية لكن في اتجاه سلبي القصد منه التنبيه إلى الإيجابية.
لقد أنتج العقل العربي كُتاّب ساخرين كانوا قمة في نقد الظواهر عن طريق السخرية من الواقع، ولعل كِتاب البخلاء للجاحظ من أهم ما يذكر في الموضوع، لكن لا بد من التذكير بأنّ المناخ الذي يزدهر فيه أي لون أدبي، يكون فيه مستوى الوعي من النضج بحيث يستطيع أن يؤول بالحالة المزرية إلى النص عن طريق السخرية منها بحيث تكون جمالية اللغة والمعنى جهاز لإنقاذ الواقع من انحداراته. وقريبا في راهننا لابد من ذكر الراحلين محمد الماغوط في سوريا ومحمود السّعداني في مصر، واللذان سارا بهذا الشكل من الأدب إلى أمداء بعيدة، حين كان الذوق الفني العربي منتجا لأثاره الإيجابية وعاشقا للجماليات المنشئة لهذا الذوق، أما حين آل المجتمع إلى السخرية بكامله، حيث تحول إلى آلة كبيرة لإنتاجها، فلم يعد هناك ذلك الهامش الذي يستطيع أن يقف فيه الكاتب ليراقب حركة الواقع، بحيث إنه فقد هو ذاته مكانته كقيمة جمالية، وأصبح التشوّه والمسخ قيما تزاحم وتزيح ما هو إيجابي، وانقلبت موازين الإدراك إلى درجة أن أصبح الواقع أضحوكة قائمة بذاتها لا تحتاج إلى من يدل عليها، وأيضا غير عابئة بما هو سلبي فيها، في حين أن الأديب الساخر في مجتمع يتحكم في مفاصل حركاته القيمية، تكون السخرية فيه لأجل استنبات الوعي بما هو سلبي أو بما قد ينشأ سلبيا في منطقة من مناطق حركة المجتمع.
لا يمكن بأية حال من الأحوال أن نحكم بغياب الأدب الساخر، لأنه يتوزع الأعمال الأدبية، غير أن ظله خافت، فمثلا يمكن أن أستشهد بالسعيد بن زرقة وعموده «النقائض» بجريدة الحقيقة التي اختفت منذ أعوام، حيث كان منبرا لكينونة أدبية تشهد انبثاقها، وفجأة اختفى، ولم يعد يذكر أي أثر لتلازم الحضور بين السعيد بن زرقة والنص الساخر، لأنه ـ في نظري ـ حركة المجتمع غير مهيأة لتعيين وتصنيف الألوان الأدبية ومتابعتها، لأنه لو حصل في مكان آخر هكذا اختفاء أو انكسار لظاهرة أدبية، لسارعت العناصر المهتمة إلى معاينة الخلل والعمل على ابتعاثه من جديد، وهكذا يشعر الكاتب في مجتمع أدمن السخرية كلباس له، بأن الحاجة إليه ليست معيارية بل عابرة تؤطرها الظرفية والمزاجية. الكاتب لا يعنيه أن الواقع يعالَج عن طريق الكاريكاتورية أو السخرية، بل الذي يعنيه أكثر هو صراعه مع اللغة، والظرف الذي تتهاطل فيه معانيها، ولهذا فالكاتب الساخر ليس معنيا أكثر بتجاهل المجتمع له، ولكن أهمية النص ذاته أصبحت تزاحمها السخرية المتفشية في الواقع برمته، ولهذا يبدو لي أن الكاتب ترك المجال لسخرية الواقع مؤجلا سخرية النص لحين تحكم الجماليات توجيه الأذواق.
كان الأدباء فيما مضى يتساجلون عن طريق القبسات السخروية، ويتبادلون النكات، لأنهم في مستوى من المستويات كانوا يشعرون بثقل الحياة وكثافة جدّتها، فيحاولون الترويح عن أنفسهم وتخفيف الضغط عن الراهن، وكنتيجة لذلك كان النص الساخر الظرفي يعمل عمله كموجه لسلبية ما في المجتمع، بينما نحن الآن نحتاج إلى التصنيف كي نشعر بوجود شكل أدبي واستمراره، لأن الذوق في الحياة أفسدته السخرية المتفشية في الواقع، فمظاهر حداثة اللباس أو قصات الشعر أو أي شيء آخر كفيلة بأن تجعل الواقع يضحك من حاله، وينصرف الكاتب الساخر إلى حاله.
الأدب لا يتجزأ، فهو كل كامل، والأدب الساخر من جملة أنواع الكتابة التي تدخل ضمن إطار المساهمة التخييلية في مقاربة الواقع نصيا، ومحاولة تغييره، فهو من حيث الفكرة لم يغادر الساحة أو الواقع، لكنه من حيث الوجود فهو قليل إن لم نقل منعدم، لماذا؟ لأنّ معايير الكتابة أصبحت مختلفة، فمثلا ما يشغل الأدباء اليوم هو كيفية الهجرة من الشعر إلى الرواية، أو كيفية الوصول إلى جائزة ما، وهو ما أصبح يغطي على مجالية الأدب في تخصصاته الحيوية، أي أصبح المجال مفتوحا لحالات الإنتاج تحت الطلب، أو التوجه نحو الرائج.إن سقف أي شيء يحسب من خلال حقيقته وجوهره لا من حيث حضوره أو وجوده، بمعنى أن سقف الأدب الساخر يقاس بمدى حقيقته التي تضمن انتشاره على مستوى العالم وليس على مستوى منطقة معينة، لأنه يستجيب لضرورة إنسانية، وأيضا مهما اختفى على مستوى الكينونة المفردة، فهو حاضر في جسد النص السردي المختلف، إذ لا يخلو عمل سردي من تجليات السخرية، وهو ما يجعل سياقاته الفنية ذات حضور وتفكير جدي، وما تخصيص ملف للأدب الساخر إلا دليل على أن السياقات الفنية له تُستحضر حينما نتفقد واقع مجتمع أصبح الواقع فيه سخرويا.
هناك فرق كبير بين السخرية والأدب الساخر، فالسخرية هي موقف يتخذه البعض من موضوع ما بغض النظر عن صدق الموقف أو عدم صدقه، لأنه قد يكون الاختيار قائما على غير روية وتدبر، ومن ثم تمتلئ حياة الناس بالسخرية التي سريعا ما تزول آثارها من الواقع إذا تحول الساخر عن موضوع سخريته، وهي المواقف التي تثير الابتسام أو التعليق العابر، لأن الرائي وجد فيها شيئا يخرج عن المألوف أو يعبر عن بلادة، وعدم حس وذوق. أما الأدب الساخر، فلم يكن مطلبه النهائي أبدا إثارة الضحك كما قد نتوهم سريعا، وإنما مقاصده جادة، تبعث على التفكير العميق الذي قد يتجاوز الهيئة التي تُظهر التناقض والاختلاف إلى المسببات الخفية التي مكنت الهيئة من أن تكون على تلك الحال. لذلك كل أدب يوطن نفسه على نقد الواقع أو الشخصيات، أو الأحداث قد يكون أدبا ساخرا إذا حافظ على تلك المسحة التي تعري الموضوع من وجهة تناقضه واختلافه وتكشف فيه عورته التي ستكون مدعاة للسخرية.
من هنا لن نجد في أرتال الكُتاب من يتمتع بهذه القدرة على السخرية في أدبه بهذا العمق، وكثير ممن ينقدون الواقع إنما يصفونه أولا وصفا فوتوغرافيا ثم يصدرون حوله أحكامهم، أما الأديب الساخر فيبحث في الظاهرة عن خللها الكبير الذي يخفي وراءه خلل في الفهم والتفكير والانجاز، ومن ثم قد تكون الفكرة التي ينطلق منها الأديب الساخر جادة كل الجدة، جارحة حادة، ولكنه لا يريد أن يقدمها في شكلها ذاك لأنها لن تؤثر في قارئها ولن تدعوه إلى التفكير في موضوعها، ويبحث فيها عن وجه يضخمها لتختل موازينها في عين القارئ بأحجام تجعلها تدخل إلى الكاريكاتورية التي تفقد فيها الأشياء نظامها المحكم، فيغلب عليها من ثم قانون التشوه المقصود في طرف من أطرافها.كان الجاحظ رحمه الله ممن أجاد هذا التشويه الفني في الموضوعات، ليس لغرض الضحك، وهو المعتزلي العقلاني، وإنما التشويه حينما يبلغ حدا صارخا يبعث العقل على التدبر والتفكر ويجبره على مساءلة الموضوع، لم بلغ هذا الحد من التشوه؟ ولماذا ينظر الأديب فيه بعين مرآة محدبة أو أخرى مقعرة.
حينما قرأنا للجاحظ حكاية قاضي البصرة ورأينا فيها رجلا يجلس فلا يتحرك من مجلسه طيلة النهار قيد أنملة فلا يحرك يدا ولا رأسا ولا يتزحزح من مكانه إلا إذا قام لصلاة، ثم يقدم لنا الجاحظ صورة الذباب الذي وقع على أنفه ثم عينه، فيحرجه ويجبره في الأخير على تحريك رمش عينه ثم الذب بيده ثم الانهزام أخيرا أمام إلحاح الذباب. هذه القصة ليست في القاضي ولا في الذباب كما يمكن أن نفهم سريعا وإنما لنا أن نعيد هذا التشويه إلى أصله الواقعي، وأن نرد هذه الكاريكاتور إلى منبعها الفكري لنرى في القاضي كل قديم متزمت جامد لا يريد أن يتزحزح من مكانه لأنه يملك السلطة والحكم ومشروعية الجلوس للناس، ونرى في الذباب كل جديد جريئ ملحاح على الرغم من هوانه إلا أنه يستطيع أن يحرك الثابت الصلد من مكانه ويحرجه أمام نفسه وغيره. فالقصة كلها قصة قديم وجديد يتصارعان، كل بأدواته وقوته وحيلته، أو قل أصالة ومعاصرة بلغة حديثة، هذا هو أدب السخرية وهذه قوته، لذلك لن تجد له في أسفار الأدب إلا نماذج قليلة منه، ولن تجد له في أفهام الناس إلا فهما هزيلا.
إن حضور الأدب الساخر في سياقنا الثقافي لم تبرره تلك الأركيولوجيا في الكتابة الإبداعية ولذلك لا نستطيع كيف نمثّل له عبر صنافة مميزة من المبدعين، كما أن عملية الإنخراط في صوغه كتابة، ليس بالأمر السهل كونه يجلي أنموذجا متميزا، وهو قريب من التشخيص الأيقوني، حيث مدلولاته تنصهر بدواله ولغته مبنية عبر آليتين مفارقتين بين النسق الباطن والظاهر، بين اللاوعي والوعي، إذ ينهض على فلسفة من التصور الخاص وكذلك كونه يتأسس على خطاب حجاجي مفارق للخطاب المعقول ومن ثم فهو يتأسس على بلاغة المفارقة، فهو نمط من التطويع المكثف لنسق مغاير قريب من الكشف المقلوب والتأليف العابر إلى الهجنة ونسق الخطابات الدنيا، فينبني على خصوصية من التعاقب لنمط من الوحدات اللغوية المنتهية والمقفلة أو أسلوبية نمطية يتضمنها ما يسمى بخطاب السخرية أو ما يحاذيه من تلك الأجناس كالهجاء والسخرية والكوميديا، فخطاب السخرية يؤديه الفعل الثقافي الموازي بخاصة أو ما بين الأدب والفعل الإنساني بعامة، إن خطاب السخرية يعتمد على آلية التبئير التي تختزل رؤيا العالم فتحوله إلى ذلك النمط المفارق، فخطاب السخرية يرد لدى من يؤديه وبخاصة الأدب الساخر من يطلب الانعتاق كما يذهب إلى ذلك «تينيانوف»، فالسخرية لم تعد أدبا أو جنسا، قد يرد خطاب السخرية عبر أسيقة التلفظ اليومي أو تجلي حضورها من خلال الإرث لصيغ التراث الشعبي أو الحوار المسرحي، ـسياق الخشبة المسرحية، أو صيغ السرد الخطاب الروائي أو الحواري منه أو عبر صيغ العنونة المقلوبة، الشعرية منها أو النثرية أو صيغ الخطابات الصحفية أو السياسية، منصات الحجاج السياسي، وهذه في مجملها تصنعها بلاغة الاستعارة أو باستدعاء بلاغات النصيّات القديمة، من هنا يمكن أن نقول هل نملك حيازة الثقافة لأدب السخرية انطلاقا من مواضعات قريبة من ذلك التلقي لمشهدية الكرنفال المعبر أو الحلقات أو التأصيل النصي عبر كتابات أولية.
يذهب ألبير كامي إلى القول أن «مجتمعات البحر الأبيض المتوسط هي مجتمعات عصبية متجهمة في الغالب»، هل السخرية لها مصادرها الإجتماعية في نحو ما نجده مثلا بين شخصية «دوق جلوستر» لدى شكسبير وهي شخصية دميمة انتهت إلى العرش عبر الكثير من الويلات وشخصية «كافور الإخشيدي» في شعر المتنبي وهي أيضا شخصية دميمة ارتكبت الكثير من الفظائع، السخرية خطاب مضحك ولكنه «ضحك كالبكاء» فمقاصدها العليا غير مكرسة للقدح في الآخر ومن ثم تخضع بالضرورة للتثقيف ولطبيعة المجتمعات التي تعايش وقع تلقيها وفق نمط من المثقافة الراقية؟.
إن أدب السخرية لم يأخذ تلك الحيازة الأجناسية في كتابة الرواية أو الشعر بالمعنى الإجمالي المغلق، بل هو قريب من المقطعات أو الصيغ أو الخطابات ولعلى الذي يكاد يشمله خطاب السخرية هو الخطاب المسرحي.
وفي الحاصل يمكن القول أن فتور أدب السخرية يعود أساسا إلى كونه تحول عبر موت الجنس الأدبي وتلاشيه، إلى التوزع والسلب فخرج من وحدته ومن أدبياته وبلاغاته المستقلة ومن استعاراته ورمزياته وانزياحاته المفارقة، لأن مسألة صفاء الجنس الأدبي لم تعد واردة كما أن الصحافة اليومية في الغرب وبخاصة الشعبية، النثرية العامية، هي التي أفرزت أدب السخرية وكثير من الروائيين تأصل أدبهم الساخر من مرجعيات الصحافة أو ما يسمى بخطاب التلاوة اليومي، كما أن الأجناس الأدبية الساخرة في الغرب استغنت عن تلك الأسنن الأريساطوفانية والشكسبيرية التي تأصلت أبنية الكوميديا عليها، فتشظت صيغها عبر كثير من الخطابات الأدبية فتهجنت ضمن ثقافة االتداخل أو بلاغة التهجين، إضافة إلى ذلك أن الثقافة المرئية احتكرت الخطاب الساخر في مشهديات االمونولوج الإشهاري أو الترفيهي أو السياسي أو الكوميدي أو عبر خطوطيات الكاريكاتوري، فتحول إلى خطابات متقطعة وتداولية ومع تدخل الوسيط التمثيلي لكثير من التراكيب الهجينة عبر التقنيات البصرية إثر تحلل أدبيات الأنواع الصافية وعليه فحضوره يظل ثابتا بوصفه خطابا حيويا تتوسل به مجمل الخطابات اللسانية وغير اللسانية.
أدب السخرية جنس أدبي إنساني راق، وكُتابه يعدون على الأصابع، لأنه صعب وليس في متناول كل الكُتاب، رافق هذا الأدب المتميز، الإنسان في مسيرته عبر التاريخ، حمل أحلامه وتطلعاته، كما حمل غضبه واحتجاجه وثورته على الأوضاع المتعفنة والأنظمة المستبدة.
من منا لم يتذوق لذة النصوص الساخرة الراقية لكُتاب كبار أمثال: الجاحظ وغوغول وبرناردشو وزكريا تامر والسعيد بوطاجين. حين تتعفن الأوضاع السياسية والاجتماعية، وتخضع الأقلام لتكريس السائد وتمجيد السيد، وحده الأديب الساخر يمكن أن يمارس هذه المهمة بطريقة ناعمة وذكية، متحايلا على الرقابة وحراس القلعة السامقة، ويمكن له أن يوقظ الناس من غفوتهم ولامبالاتهم ويعيد لهم إنسانيتهم وكرامتهم ووعيهم وضمائرهم. ويعطيهم الحق في تنفس الحرية والنقد وإبداء وجهة النظر، دون التعرض للتهديد والمساءلة والمساومة.
الكاتب الساخر ليس بهلوانا وليس بائع أوهام فكاهة مبتذلة رخيصة، وليس كاتبا يعيش في برجه بعيدا عن الشعب، بل هو كاتب حزين وغاضب، ومتقزز من الوضع، وليس له وسيلة لتغيير وضعه ووضع من حوله إلا قلمه، يستعمل الكاتب الساخر لغة بسيطة وسلسة وأحيانا يطعمها بكلمات «دارجة» مشحونة، يلتقطها سمعه من محيطه، كما يستعمل الكنايات والتوريات، ليكون بعيدا عن اللغة المعتادة ومادامت اللغة سلاح الكاتب الساخر فإنه يعيد ترتيب القاموس اللغوي، لأن اللغة السائدة تصبح، بليدة بكماء وعمياء وعرجاء محنطة لا تؤدي وظيفتها، فينفر منها الجميع، لكن الكاتب الساخر، يعرف كيف يستغلها لتصبح سلاحه لمواجهة الأوضاع المتردية والاحتباس السياسي والضغط الاجتماعي، والخيبات النفسية.
وكما قلت، الأدباء الساخرون الموهوبون نادرون في تاريخ الأدب الإنساني، وهم مثل الأنبياء لهم قداسة، وهم مثل المصلحين يولدون ليؤدوا رسالتهم الأدبية والجمالية بأمانة.
ونحن في الجزائر نفخر بما قدمه الكاتب رضا حوحو للأدب الساخر ونفخر أكثر بما يقدمه اليوم السعيد بوطاجين، الذي يتقن فن الكتابة الساخرة بفلسفة عميقة ولغة راقية.